جمعة تفسير الخطاب
عمر حرقوص
لم يصدق الشبان في البلدة السورية القريبة للحدود الأردنية أن بإمكانهم الرقص في وسط ساحة قريتهم من دون تدخل المدفعية والدبابات، غنوا ورفعوا شارات النصر، جلسوا على الأرض وقلدوا أهالي حماه في ترديد الشعارات والقفز عالياً عند ترداد “الشعب يريد اسقاط النظام”. وقلدوا أهالي حمص في ربط بعضهم كسلسلة بشرية تموج يمنة ويسرى وتقفز فجأة لأعلى ما تستطيع حين يصرخ “قاشوش” الاحتفال “وسوريا بدا حرية”.
هكذا هي سوريا اليوم شباب متنوع من فئات مختلفة، ومن مناطق متعددة يصنعون ثورتهم، يغنون ويسهرون في شوارع مدنهم يبلغون بعضهم باقتراب دوريات “الشبيحة”، أو يوجهون التحية للمدن الأكثر تعرضاً للرصاص والقصف والاعتقال، أحياناً لا يصدقون أن ما كانوا يعتبرونه نفقاً لا يمكن اختراقه صار خبراً عادياً لديهم.
فالتظاهر والدعوات لتغيير بعض من عقلية النظام كانت فيما مضى أمراً ممنوعاً، وكان ميشيل كيلو وأنور البني وكمال اللبواني وغيرهم من المعارضين يسجلون مواقفهم السياسية وينقلون بعدها إلى السجن سريعاً، وفي هذا الترتيب الدائم صار عدد “المثقفين” المعروفين بمعارضتهم للنظام لا يتجاوزون الـ 450 نفراً، يلتقون في سيارات الأمن حين تنقلهم إلى السجن يسألون بعضهم عن “ارتفاع ضغط الدم” وغيرها من أمراض تصيب الكبار في العمر و”الصقور” في الأحزاب السياسية.
سوريا اليوم أمر مختلف، حراك طاغ على كل شيء، وفقر مدقع، وهجرة من المدن التي تتعرض دائماً للاعتداء من الشبيحة، صارت “تنكة المازوت” أغلى من الذهب بالنسبة إلى أهالي حمص، فهي مقطوعة من الأسواق، وما بقي منها يذهب إلى المجهود الحربي، فيقوم بعض “كبار ظباط الأمن” ببيعه سراً إلى اسواق عربية قريبة من خلال تهريبها عبر أنابيب تمتد وتجد لها مخارج من بين الألغام التي زرعت على الحدود ولا يعرف خرائطها إلا هؤلاء الظباط.
الشبان السوريون في تلك البلدة يرفعون علم الثورة السورية على منازل بلدتهم، يتحدّون “السلطة” مدركين أن العودة إلى بيوتهم الآن تعني موتهم جميعاً ونهايتهم متعفنين في السجون، يدركون أن الموت يقف على أبوابهم ويعود أصدقاؤهم قتلى كلما تظاهروا، ولكنهم رغم ذلك يصرون على تحركهم وسلميته يغنون ويرقصون ويخرجون المآسي من قلوبهم.
يستمعون إلى خطاب الرئيس فيكتبون على صفحة “تنسيقيتهم” على “فايسبوك” جملا مضحكة، أحدهم كتب أن “ماهر طلب من بشار أن يخلع شعبه خطاباً طويلاً لا يمكن استيعابه وفهمه خلال 3 أسابيع على الأقل”، فيرد عليه صديقه “على ما يبدو سنحتاج لتسمية 4 أيام جمعة بجمعة تفسير الخطاب”.
الشبان سمعوا “الرئيس” يقول كلمة “شوفينية”، فاستغربها بعضهم وسأل “شوفينية! شوفيني! شوفيني يا جارتي طالل قبالك”. اما عن اسماء المحافظات السورية الموضوعة خلفه فقال “حاطط أسماء المدن عالحيط وكل شوي بيلتفت على كلمة حمص خايف تنط عليه”. أما الشاب اللبناني نادر فكتب على جداره “الفايسبوكي” “وردت سهواً العبارة الآتية من قدم للقضية الفلسطينية أكثر من سوريا؟. وكان المقصود: من قضم القضية الفلسطينية أكثر من سوريا؟، فاقتضى التوضيح”.
الشبان في تلك “التنسيقية” تذكروا خلال حديث “الرئيس” خطابه في العام 2002 خلال القمة العربية في بيروت، يوما جلس ليحكي في السياسة فصار يعطي دروساً للقادة العرب كأنه معلم في مدرسة، قال الشبان “فشل المعلم.. ومعلم المعلم في التعليم”.
وفي تعليق آخر كتب شاب “إعلان تجاري من دار الشبيح للطباعة والنشر: بعد النجاح الكبير الذي حققة كتاب الأفكار والمعاني في تفسير الخطاب الثاني لفضيلة الإمام العلامة والحبر البحر الشيخ بليد المعلك، يسر دار الشبيح للطباعة والنشر عن طرح الطبعة الأولى من كتاب الوجيز في فهم العزيز للمحلل السياسي الفذ زوزو اللذيذ والذي يتناول فيه تفسيرا مبسطاً وملخصاً لطلاسم الخطاب الرابع”. وتابع الشاب “ترقبوا بعد الخطاب، مؤتمر صحافي لوزير الخارجية السوري يشرح فيه ما جاء في الخطاب، ومن ثم ترقبوا مؤتمر صحافي للناطق باسم وزارة الخارجية يشرح فيه ما أراد وليد المعلم قوله خلال شرحه للخطاب”.
المتابعون في بيروت للخطاب كانت تعليقاتهم عليه كثيرة، وشاركوا أصدقاءهم السوريين “اللايكات” و”الستاتوس” وغيرها، ولكنهم في الوقت نفسه كانوا يذكرون بما يحدث في بيروت من عمليات خطف واعتداء واعتقالات لشبان سوريين فروا من بلدهم، خوفاً من القتل فوقعوا هنا في شرك “شبيحة” جدد يحلمون بتحويل هذه الجمهورية إلى “ديكتاتورية موز”، يحكمها السلاح والميليشيات ومنع التعبير ومقص الرقيب، والتهديد بالاعتقال.
“شبيحة” بيروت لا يدركون أن الحرية ليست امراً يمكن إلغاؤه بسهولة، ولكنهم بالتأكيد يعلمون أن بيروت اقوى منهم ومن أعتى الديكتاتوريات وإلى الأبد.
المستقبل