جمهور ما بعد الثورة: السياسة قبل الفن أحياناً
آدم شمس الدين
بعد ساعات قليلة من تأدية عبد الكريم حمدان، أحد المشاركين في برنامج “آراب أيدول”، موالاً مؤثراً عن حلب ومآسيها، انتشر مقطع الموال على مواقع التواصل الاجتماعي. موال حزين، بصوت يملأه الشجن، يحاكي ما تمرّ به هذه المدينة من دمار وقتل. موال طرب، ألفه بنفسه، خال من الرسائل السياسية، ومن تأييد أو شجب لأحد. التعليقات المرافقة لمقطع الفيديو، متأثرة، متضامنة، وتوجّه التحية له. نانسي عجرم، من لجنة التحكيم، وقفت وقالت للمشترك بعد انتهائه: “هذه هي الأصوات التي نريد سماعها، وليس أصوات المدافع”. كلمة لاقت تأييداً كبيراً من الجمهور.
وقف حمدان، من دون التفوه بكلمة. نال حصته من التصفيق والمديح وانصرف. على صفحته الرسمية على “فايسبوك”، شكر حمدان الجميع على دعمه، طالباً من معجبيه الامتناع عن كتابة التعليقات السياسية. “هذه صفحة فنية هادفة لإيصال رسالة سلام لكل العالم، وليس لها علاقة بأي جهة سياسية، سواء كانت معارضة أو مؤيدة”. طلب الشاب حصر التعليقات في الإطار الفني، لكن عبثاً حاول. طالبه المعجبون لاحقاً بإعلان موقفه مما يحصل في سوريا. مع من هو؟ ومن هي الجهة التي يؤيدها؟ كتب أحد المعجبين: “البارحة اجتمعت كل الصفحات المؤيدة والمعارضة ونشرت الموال الرائع، يا رب تكون بادرة خير ومحبه ويهدى الحال، وترجع المحبة بيننا وبكفي دم”.
بعد قراءة عدد كبير من التعليقات، الخلاصة الواحدة التي يمكن الخروج منها، أن حمدان ربما ابتلى نفسه باختياره غناء هذا الموّال. خلاصة لم يتردد أحد المعجبين بالتعبير عنها: “بعد هذا السجال، أشرفلو يغني تي رش رش بدل الأغاني الوطنية”.
الحادثة تقدم نموذجاً عمّا آلت إليه الأمور. لم يعد الأمر يقتصر على محاسبة الفنانين الذين يصنّفون بالـ”ملتزمين”. الفن في زمن الربيع العربي لم يعد يحتمل الحيادية، ومقولة الفن للفن لم تعد جائزة. على الجميع أن يعلن عن موقفه، ليس في سوريا فحسب بل في كل البلدان العربية.
المسألة هنا لا تتعلق فقط بحرية الجميع في التعبير عن آرائهم السياسية، ومن بينهم الفنانون، بل أصبحت مرتبطة بالقدرة على فصل المستمع، أو المشاهد، بين ما يمثّله هذا الشخص على الصعيد الفني، وما يمثله كشخص له مواقفه وآراؤه كأي إنسان آخر.
“ما بقى طيقو، لا هو ولا أعماله”. أنهى محمد علاقة دامت منذ أن ألفت أذناه السماع إلى الموسيقى والمسرحيات مع زياد الرحباني. السبب: موقفه مما يحصل في سوريا. الصورة التي يمتلكها في ذاكرته عن زياد المبدع، تحطّمت في بضعة أشهر مع بضع كلمات صرّح بها الرحباني. يشرح محمد أن زياد فنان ملتزم ورمز، ومناضل أيضاً، “من الصعب أن أفصل بين ما يمثله وبين كل أعماله الفنية بعد الآن”. موقف محمد لا بد أن يستدعي تساؤلاً عن رأيه في حال غيّر زياد في مواقفه، والجواب: “لا شك أن ذلك سيغيّر أموراً كثيرة”. خوف الشاب الوحيد هو من فيروز. يصارع الشاب رغبته في معرفة موقفها مما يجري، وبين خوفه من ذلك. مقاطعة فيروز ليس بالأمر السهل. حيرة تدفع الشاب إلى تقديم تنازل مسبق، من دون اعتبار أن في ذلك مهادنة: “مين بتسمع عالصبح؟ فيروز لا بديل عنها”. ينهي حيرته “مقتنعا”، هرباً من الإمعان في التفكير: “لأ لأ، أكيد فيروز معنا”.
في حالة زياد الأمور أكثر بساطة. زياد السياسي لا يمكن فصله عن زياد الموسيقي، أو من الصعب أن لا يكون للأول تأثيرٌ على الثاني.
مثال آخر يوضح الصورة. أصالة قبل الثورة شيء وبعدها شيء آخر. لم تتغيّر أغانيها، ولم تختر أسلوباً مختلفاً لها. الاختلاف الوحيد، أن لأصالة موقفٌ واضح: ضد النظام ومع الثورة في سوريا. ذلك يكفي إلى قرار القطيعة معها، بحسب سارة. صوتها لا يزال جميلاً، تقول. لم تقدم أشياء جديدة منذ سنتين، لكن الاستماع إليها اليوم مختلف. “خلص، بس اسمع صوتها بتدايق”. تفضّل الشابة التي ارتبطت أغاني أصالة بعدد كبير من تجاربها الغرامية، لو أنها لم تعلن أي موقف. “خي خلص، مغنية، شو دخلها بالسياسة”. التساؤل هنا، على غرار التساؤل في حالة زياد، يدور حول كيفية اختيار المغنين “المفضّلين” الآن. تشرح الشابة أن أمامها ثلاثة خيارات، الأول البحث عن مغنين يتقاطع موقفهم مع موقفها السياسي، ومعين شريف يبدو خياراً بديلاً معقولاً بالنسبة لها. الخيار الثاني، هو الـ”ركّ” على مغنين لا يفصحون عن موقفهم، وراغب علامة مفيد في هذه الحالة،، فهو “محير، ويلعب على الحبلين”، ورمادية الموقف هنا “بتمرق”. أما الثالث فهو محاولة التهرّب من معرفة موقف الفنان، لكنه خيار صعب التحقّق، فمواقف الفنانين السياسية أكثر جذباً للإعلام من أعمالهم في الفترة الحالية.
المصيبة تقع حين تتعلق المسألة بالممثلين. القرار بمشاهدة عمل فني أو عدمها أكثر تعقيداً. فمن الصعب مثلا مشاهدة مسلسل سوري وتنظيمه حسب المَشاهد وما تحتويه من ممثلين تتقاطع مواقفهم السياسية مع مواقف المشاهدين. مروان الذي ارتبطت طفولته بعادة متابعة برامج “ديزني” و”كارتون نتورك”، ثم نقل هذه العادة إلى أخيه الأصغر، تعرّف على دريد لحام وشخصية غوّأر مؤخراً. لم يكن التعرف نتيجة رغبته بالتعويض عما فاته من أعمال. يذكر أن والدته كانت تردد دائماً أثناء تسمرّه أمام الشاشة “رزق الله على غوار”. كان يسخر منها حينها ومن اسم “غوار”. تعليق على صفحات أحد الأصدقاء لفت نظره: “غوار الشبيح”. كان ذلك كافياً لمروان كي يبدأ حملة الإشادة بلحام: “زلمي وطني، خسارة ما كنت أعرفه أنا وصغير”. لكن في الوقت نفسه، التعرف على أعماله اليوم له طعم مختلف. “أعماله جميلة وكمان غوار معرف شو أصلو، ما ركب الموجة”. يستبعد الشاب أن اهتمامه لم يكن ليتحقق لولا مهاجمة لحام نتيجة مواقفه السياسية. يحاول اليوم التعويض عن عدم معرفته بغوار في طفولته من خلال حثّ أخاه على مشاهدة أعماله، رغم عدم تجاوب الأخير.
الموقف السياسي صار من “ريبرتوار” الفنان، ولم يعد الفصل بينه وبين الجانب الفني ممكناً. تزداد الأمور تعقيداً أو بساطة في الاختيار الذي تحكمه أولوية الموقف السياسي أو جودة الأعمال المقدمة. وحده فضل شاكر تمكن من نسف المعادلة من أساسها طالباً من كل محبيه التوقف عن الاستماع لأغانيه، لأنه يجني ذنوباً كلما استمع أحدهم إلى أغنية قدّمها قبل الاعتزال.