صفحات الناس

وطني طائرة ماليزية/ لقمان ديركي

 

أحبكِ أيتها الطائرة الماليزية المفقودة، فعلى متنكِ أصدقائي وخلاني ورفاقي وإخوتي في الوجع، وبالطبع فإن هناك سوريين على متن الطائرة، مجرد إحساس، لكن للأسف لم يبرز خبر الإعلان عن وجود ضحايا من عندنا، فتستغرب. كيف يمكن لكارثة أن تكون من دون سوريين في قلبها؟ لكن لم يقل أحد في إعلامه الغربي شيئاً، حتى لو لم يكن غربياً، حتى لو كان من كوريا، حتى لو كان من اليابان، إنهم متآمرون علينا، أخفوا خبر وجود سوريين في الطائرة المختفية. ليسوا خياليين مثلنا في نقل الحدث. كما أن معاييرهم جامدة في تقييم الأشياء. لا يعرفون روح القانون، يعرفون القانون بذاته، ولهذه المعرفة لا يحرفون، بينما نحرِّف ونشبِّه في المعلومات قليلاً مطيلسين، طالما أن التحريف والتشبيه يخدمان قضية الوطن. شو قضية الوطن؟!! أي وطن؟!!..اختفى كما اختفت الطائرة الماليزية.

صحيح أني لا أملك المعلومات الكافية عن الطائرة الماليزية، وليست لدي أنباء عن مواصفاتها قبل الإختفاء، لكني أمتلك على الأقل بعض الأحاسيس في ما يتعلق بما يسمى بالوطن، وهذه الأحاسيس كانت قد بدأت بالإختفاء مؤخراً حتى أحسست إحساساً أخيراً قبل أن أفقد كل الأحاسيس بأن الوطن اختفى.

لكن أحداً لم يقل بأن الوطن اختفى، حتى الشعراء منا ممن فقدوا كل الأحاسيس بوجود الوطن. بالعكس، يذكرونه ليلاً نهاراً في قصائدهم وهم لا يحسون به، لا يلمسونه، لكنهم يترنمون بملمسه. لا يعرفون بأن الوطن في أحسن حالاته سيفرط ويتلاشى كالرمال حال لمسه، أو في الأحوال الإعتيادية التي تربيت عليها منذ نعومة أظفارك ـ أيام ما كان عندك أظفار ـ أي أن تمد يدك إليه فتقبض بحركة أوتوماتيكية روتينية على الهواء، فتعشق الطائرة الماليزية، تتابع في السر أخبارها، لأنه لا يجوز الإهتمام بأخبارها بينما الوطن يحتضر. هذا من العادات غير الحميدة بعد بزوغ شمس الثورة في عز الذل. تحاول معرفة المزيد عن أسرارها، فالكلمة التي جذبتك هي كلمة اختفاء، وهي الكلمة التي لها إيقاع غريب في قلبك لسبب لا تعرفه. فأخوك الأكبر من حياتك اختفى، ثم تبعه بالإختفاء ابن جيرانكم، وكان أبوك قد اختفى منذ ما قبل فجر الثورة، عبر ميزة الجلطة التي منحها الله لبعض السوريين كي يسارعوا إلى الإختفاء عندما يبلغ السيل الزبى.

ومع ذلك فما زال هناك سوريون، رغم أن الزبى اختفت أيضاً بعدما بلغها السيل. أنت تعرف أية قطعة أرض اختفى تحتها والدك على الأقل. صحيح أن قطعة الأرض اختفت، لكنها لم تختِف من ذاكرتك، أما الآن .. فهيهات أن تعرف أين تختفي الأشياء، وأين وكيف يختفي الأحباب والأهل والأصدقاء. اختفى شارع بيتكم، اختفت حارتك، اختفت قريتك، مدينتك تختفي رويداً رويداً، وسكانها يختفون رويداً رويداً أيضاً، وأنت رويداً رويداً تتحول من الإهتمام بأخبار وطنك، إلى الإهتمام باختفاء الطائرة الماليزية، حتى تكتشف سر اهتمامك الغامض بالطائرة الماليزية. فاختفاء الطائرة يشبه اختفاء وطنك. عليك نور.. وطني طائرة ماليزية مختفية لا أحد يبحثُ عنها.

ولا تعرف السبب في ظهور وليد المعلم في هذه اللحظات على شاشات خيالك وهو يتوعد بإخفاء أوروبا عن الخريطة، قبل أن تتوقف يده السمينة عن التلويح بداعي الغرق.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى