جنبلاط.. إنحيازٌ تام لخيار الشعوب
صالح حديفة
تستمر أحداث الأزمة المستفحلة في بلاد الشام منذ أكثر من عشرة أشهر في التأثير الفوري والصريح والواضح على الساحة اللبنانية، التي اعتادت على تلقّي المؤثّرات من كل حدبٍ وصوب في مشهدٍ ألِفَه اللبنانيون ويتحمّلون عبر قياداتهم السياسية المسؤولية المباشرة عنه. وفي هذا الخضم الإقليمي العابق بضبابية تعكّر الرؤية السياسية لمختلف الجهات السياسية اللبنانية وينعكس ذلك على أدائهم وتصريحاتهم ومواقفهم، تتراكم التطورات الداخلية بما ينذر بانفجارٍ في الروتين السائد منذ سنة تقريباً تاريخ الانقلاب على حكومة الرئيس سعد الحريري، وهو انفجار متى حصل لن تقتصر نتائجه على فريق دون آخر بل إن نيرانه المرتقبة ستحرق أصابع جميع اللاعبين بالنار دون استثناء، إلا إذا “وبسحر ساحر” أدركوا جميعهم أن “اللعب النار” محظورٌ ولا يخدم أحداً.
في هذا المجال فإنّ السجال غير المعلوم الأفق حول وجود “القاعدة” في لبنان ودورها المزعوم في ما يجري في سوريا من أحداث مرشّح لمزيد من التفاعل، كون الملف السوري برمّته مرشّح لتطورات قريبة متصاعدة توحي بها معطيات الأرض السورية والحراك السياسي العربي والإقليمي والدولي، وقد كان موقف رئيس “جبهة النضال الوطني” النائب وليد جنبلاط أمس حيال الوضع السوري مؤشراً واضحاً على أن ملف الأزمة السورية في طريقه إلى متغيّرات جديدة ستبدّل الصورة الراهنة بكل المقاييس، كون جنبلاط دأب في الفترة الأخيرة على إبقاء سقف خطابه السياسي تجاه سوريا على قاعدة “ضربة على الحافر ضربة على المسمار” بما يشي بأن الصورة لديه لم تكن حينها محسومة الاتجاهات حول مستقبل ما يجري بالداخل السوري، ولذا فإنّ كلامه أمس يدلّ على أنّه على الأقل حصل على معطيات جديدة أتاحت له الخروج بما قاله حول ضرورة “التغيير الجذري” للنظام السوري.
جنبلاط الذي دعا القيادة الروسيّة إلى “اعتماد مبدأ “قوة الضعفاء” في مقاربتها للوضع الحالي الذي تمر به حليفتها سوريا، وضرورة الإقرار بأن الحلول الأمنيّة لا يمكن أن تشكل حلاً للأزمة القائمة، التي لن تُحلّ إلا بتغيير جذري للنظام”، ثم خاطب الجمهورية الإسلامية الإيرانية من المنطلق ذاته داعياً “أحفاد الإمام الخميني” لتذكّر مواجهتهم لشاه إيران “في نضال تاريخي كبير أكّد أن الصدور العارية التي تنادي بالحرية والديمقراطية قادرة على مواجهة أعتى الأنظمة”، كان واضحاً هذه المرة في التعبير علناً عمّا اختزنه في صدره منذ تحوّله الشهير في 2 آب 2009 وإقفاله – المؤقّت على ما يبدو- لصفحة العداء مع الرئيس السوري بشار الأسد.
الكلام الجديد “إعلامياً” لجنبلاط لم يكن جديداً على الإطلاق لديه منذ آخر لقاء جمعه بالأسد في دمشق، يومها خرج جنبلاط بقناعة مفادها أن الأمور ذاهبة نحو مزيد من التفاقم، وهو أسرَّ لمقرّبين منه بأنه قال للأسد في ذاك اللقاء: “دخيلك مرّقوا الأمور بلا دم”، لكن ما حدث في الأيام التالية لذلك اللقاء لم يوحِ أبداً بوقفٍ للنزف، بل بمزيد من إراقة الدماء، فكانت بداية التحوّل في موقف جنبلاط.
وحول هذا الأمر، أكدت مصادر واسعة الإطلاع، أن جنبلاط، كان نقل في وقت سابق كلامه الذي أعلَنَه أمس، إلى كلٍّ من روسيا والصين وإيران “رسمياً”، وأبلغهم بضرورة الانتقال في التعاطي مع الأزمة السورية من أدائهم الحالي إلى أداء مختلف أكثر تعاطفاً مع الشعب السوري، ذلك على الأقل لأن “العلاقة مع الشعب هي الأبقى والأسلم، أمّا الأنظمة فمصيرها عاجلاً أم آجلاً التغيّر”. وأشارت الأوساط عينها في حديثها إلى “صدى البلد” إلى أنه “في خلال الزيارة التي حصلت في الأيام الأخيرة من العام 2011 للسفير الإيراني غضنفر ركن أبادي إلى كليمنصو والتي فاجأت الكثيرين، أبلغ جنبلاط سفير “الثورة الإسلامية” أن التعامل مع “الثورة السورية” بطريقة “المؤامرة” هو أمرٌ لم يعد ممكناً أو مقنعاً، كما طلب جنبلاط من أبادي حمل هذا الموقف إلى القيادة الإيرانية التي بإمكانها لعب دور فاعل في إقناع النظام السوري بضرورة وقف الحل الأمني فوراً و القبول بتداول السلطة”.
وكشفت الأوساط المطّلعة عينها أن “السفير أبادي وافق جنبلاط على أن سوريا بحاجة إلى “إصلاح حقيقي”، لكنّه كان مصرّاً على أن الرئيس السوري جادّ في سعيه للإصلاح وكل ما يحتاجه هو بعض الوقت”. وإذ لفتت إلى أن لقاء جنبلاط وأبادي تطرق لملفات أخرى لم يحِن بعد موعد الحديث عنها، ذكرت المصادر أن أبادي أكد في اللقاء على أن الدعوة لجنبلاط لزيارة طهران قائمة “في أي وقت يرغب”، وقد طلب جنبلاط استمهال الأمر “حتى يتم معالجة بعض الأمور الشخصية”.
وحول ما إذا كان في موقف جنبلاط مؤشراً إلى تحوّل ثانٍ له مُغاير لتحوّل 2 آب، أوضحت المصادر أن جنبلاط “يصرّ على المُضي في قراره الاستراتيجي بدعم المقاومة كخيار أساسي وإنْ ليس الوحيد في مواجهة الاحتلال، وعلى أن القضية المركزية للعرب هي فلسطين التي يجب أن تبقى كل الأنظار مركّزة عليها، لكنه في الوقت عينه بات مقتنعاً أن حركة الشعوب العربية هي أمر يساعد على تعزيز ثقافة المقاومة وعلى تحرير القرار الوطني لهذه الشعوب بما يعزّز فرص قوّتها في أي مواجهة مع الاحتلال، كون الشعوب الحرّة، لا تلك الأسيرة، هي وحدها القادرة على تحرير فلسطين”. وأضافت المصادر: “وانطلاقاً من ذلك توجَّه جنبلاط إلى الموحدين الدروز في سوريا داعياً إيّاهم هم الذين كانوا روّاد التحرر العربي والسوري “والذين يعلمون أن حركة الشعوب لا تعود الى الوراء”، للتوقف عن المشاركة في عمليات القمع الأمني للثوار السوريين”.
المصادر الذي ذكّرت بـ “الانتقادات التي لطالما كانت قيادات المقاومة في لبنان توجّهها للحكومات العربية”، ختمت بالتأكيد أن “جنبلاط ليس هو من يقوم بالتحوّل هذه المرة، بل إنّ الشعوب هي التي قرّرت إجراء تحوّل مصيري، وهي التي تقوده ومستمرة به حتى النهاية، والتاريخ لن يرحم من يقف بطريق من يمتلك “قوة الضعفاء” هؤلاء الذين ليس على صدورهم قميص وسوف يحررون هذا العالم”.
صدى البلد