حديث صالون دمشقي: السلطة اختارت الاحتراب
يحتدم في سوريا النقاش اليوم، على مختلف المستويات، لتحديد النقطة التي يقف عليها السوريون اليوم وملامح المستقبل. في هذا التقرير يفكّر بعض المشاركين في الاحتجاجات التي تشهدها المناطق السورية بصوت عال
غسان سعود
دمشق | بعد الـmissed call تسرع خطواته مسابقة خياله وتعرجات الزواريب في أحياء دمشق القديمة. Missed call أخرى ويفتح باب ضخم وسط الجدران التي ملستها القرون الخشنة، لتطل ابتسامة سيدة البيت مرحّبة بضيفين إضافيين.
في الداخل، يجتمع ستة عشر شخصاً: أربعة منهم يشاركون في التحركات التي تشهدها بعض المناطق السورية، اثنان يقصران نشاطهما على العالم الافتراضيّ، أربعة من المثقفين التقليديين كان لهم دور في ربيع دمشق الأول. مسؤولان بارزان في الحزب السوري القومي الاجتماعي (جناح عبد المسيح)، سيدة البيت وابنتها، وسيدتان أنيقتان متحمستان لـ«الثورة».
شارع متنوّع يسبق الجميع
في البداية، اتفاق على أنّ المجتمع السوريّ يزداد تسييساً يوماً تلو آخر: «غير صحيح القول إنّ المواطن السوري غير معنيّ بما يحصل في بلده. غير صحيح أنّ المواطن يصدّق كل ما تقوله السلطة ولا يجرؤ على التشكيك في بعض الروايات الخرافية. غير صحيح أنّ ما بدأ في سوريا انتهى أو في طريقه إلى نهاية سريعة. غير صحيح أنّ الحوار بين المحتجّين والسلطة قد بدأ، وغير صحيح أنّ العلاقة مقطوعة بين المحتجّين من جهة والمثقفين والأحزاب المعارضة تاريخياً لحزب البعث من جهة أخرى».
يحاولون تشخيص التحركات حتى الآن. إجماع مبدئي على أن «الشعب سبق المثقفين والأحزاب و… توقعات السلطة، ولا يمكن أحداً في السلطة وبين مناوئيها، ادعاء المونة على الشارع أو القدرة على لجمه». في هذا الشارع، يشير أحد الشبان المواظبين على المشاركة في احتجاجات الميدان الدمشقي، هناك الإسلامي والشيوعي والناصري والقومي وربما البعثي. وهناك السياسيّ والجائع كما المهرب والمحشش، العلمانيّ والسلفيّ. وقد «تنبهنا إلى محاولة السلطة وضعنا جميعاً في سلّة السلفيين». ماذا فعلوا بعد تنبههم إلى هذه المسألة التي يصفونها بالخطيرة؟ بدأنا إظهار التمايزات، يقول أحد الشبان. كيف؟ «عبر الهتاف لوحدة الشعب السوري أو عبر إعطاء دور أكبر للسيدات أو عبر الأغاني والشعارات التي يطغى عليها الطابع العلماني». وثمّة محاولات جدية في مناطق متنوعة طائفياً «لتأمين الحد الأدنى من التحركات المؤيدة للإصلاح، حتى لا نقول التغيير». مع إشادة الحاضرين بقدرة المحتجّين، ولا سيما في مدينة حمص على الخروج بمسيرات بعيداً عن الجوامع. لكن في النهاية، يقول أحد الكتّاب، لا يمكن التنكر لطبيعة الشعب السوري: «هناك علمانيون ويساريون وتعددية مذهبية، لكن ثمة أكثرية شعبية من مذهب معيّن، فهل المطلوب أن نعلن وقف المطالبة بالديموقراطية حتى يتساوى عدد الولادات بين جميع المذاهب؟». المهم، يتابع أحد الكتاب الأساسيين لوثيقة «إعلان دمشق»، أن «نمنع اصطباغ التحرك باللون الإسلامي المتشدد. وهذا تحقق». يوافقه البعض ويعارضه البعض الآخر.
تجربة مخيّبة وأخرى
يطلب أحد الشبان القوميين (جناح عبد المسيح) الكلام. ينبئ المستمعين بأن تجربته تخالف أحكام المثقفين المسبقة على التحركات بأنها منزّهة عن العواطف المذهبية. ويعرض تجربته الخاصة في إحدى بلدات اللاذقية، حيث «يزداد يوماً تلو آخر النفَس الطائفي ونشوة المحتجين بالتأييد الخارجي ولجوؤهم أخيراً إلى العنف. أسمع كلاماً مخيفاً في سياق اجتهاد المحتجين في التعبئة. أسمع تحريضاً مذهبياً وترقباً مذلّاً للدعم الدوليّ المعنويّ حتى الساعة. وكل ذلك يدفعني إلى التفكير مرتين قبل الاستمرار في المشاركة لأني اليوم أشك بانحراف «الثورة» عن أهدافها السامية، وأصدّق أنّ هناك من اندسّ بين المواطنين الطيبين المطالبين بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية لتصفية حسابات سياسية وإقليمية مع النظام». يرفض شاب آخر، يشارك أيضاً في الاحتجاجات هذا الاستسلام. يقول: «علينا المشاركة أكثر في صناعة الحدث لنضيء بأنفسنا النفق المظلم، ونصنع النهاية التي نشتهيها. أنا فاعل في منطقتي وأبذل جهداً إضافياً، سأكون رأس حربة فآخذ الاحتجاج إلى حيث أريد أنا، لا الإسلاميون أو الأميركيون أو غيرهم».
يتفاعل النقاش. يجمعون على أن معارضة الخارج تضرّ كثيراً بمعارضة الداخل، التي يمنعها القمع من إعلان موقف سياسي جامع وواضح. والتحريض على حزب الله؟ جزء من عدة عمل بعض الفضائيات العربية، يقول أحدهم. بينما يشير آخر إلى أن «الحزب سارع إلى الوقوف إعلامياً وسياسياً في صف السلطة، ولم يمدّ يده إلى المحتجين ليبادله هؤلاء بالمثل». وفي النتيجة، يخلص المجتمعون إلى صعوبة انتقال المحتجين في ظل القمع الذي يتعرضون له إلى مرحلة تحديد الثوابت السياسية.
السلطة: لا حوار
يأخذ لجوء المحتجين إلى العنف حيّزاً من النقاش. تحاول إحداهن أن تختتمه بقولها إنها لا تنتظر متظاهراً سويسرياً و«عنف السلطة يستولد عنفاً مضاداً». يشير أحدهم إلى أن الغضب في بداية الأزمة يتحول في ظل عنف السلطة إلى كره يسهم في تكبير «كرة ثلج الاحتجاج أسبوعاً تلو آخر». والأكيد أن السلطة اختارت الاحتراب بدل الحوار. تدخل النكتة مع فناجين الشاي. يقول أحدهم إن شاباً فقيراً دخل مرة على والدته يخبرها أنه سيتزوج ابنة الملك، فوجئت الوالدة بالنبأ، استفسرت أكثر فأخبرها: «أنا وأنت ووالدي موافقون، يبقى أن يوافق الملك والملكة وابنتهما». لا شيء، يترجم أحدهم النكتة، يوحي بأن النظام راغب في حوار حقيقيّ. يستهل المسؤول في الحزب القومي (جناح عبد المسيح) مداخلته بالتعبير عن اعتزازه بأن تصبح «تحيا سورية» محل إجماع. ثم يعرض مواقف حزبه من مطلب الإصلاح منذ الألفين. وقد تمتع رفقاؤه، بحسبه، ببعد النظر. نادوا بالإصلاح حين كان الرئيس السوريّ يتحدث عن التحديث والتطوير. واليوم يكتشف الأسد ضرورة الإصلاح فيما بات التغيير مطلب شعب سوريا. لكن «لا مشكلة، فخير أن تصل متأخراً من أن لا تصل أبداً»، تقول إحدى الصبايا.
تمتمات في الصالون الدمشقيّ. الغالبية مقتنعون بأن النظام لم يبارح بعد «مرحلة تطوير نهجه الأحادي وتحديث أدائه القمعي». و«نخطئ حين نعتقد أن ثمة تفكيراً جديداً»، يقول أحدهم، فيما يتدخّل أحد الذين أعلنت مستشارة الرئيس بثينة شعبان أنها حاورتهم. يصف جلسته مع شعبان بالدردشة لا الحوار. فقد استمعت إلى وجهة نظره ثم ودعته واعدة بفنجان قهوة آخر قريباً. بحسبه، لم تعترف السلطة السورية بعد بوجود فعليّ لآخر تبحث معه في حل سياسيّ للأزمة القائمة. وهي تنتظر سماع مطالب إدارية لا سياسية! السلطة تبحث بين المتحاورين عمّن يرضي تصورها للأزمة، فتتوقع اقتصار المطالب على تغيير مسؤول أمنيّ هنا والسماح بحفر آبار ارتوازية أو بناء مجمع سكني هناك. أما المعارضة فمعظمها يتطلع إلى الحوار بوصفه بديلاً من الشارع في التفاوض السياسي لتحديد موعد انتخابات نيابية حرّة وصياغة قانون أحزاب يراعي التطلعات الشعبية، لا الأمنية والبعثية حصراً. يخلص المجتمعون إلى ما يشبه الاقتناع بأن السلطة لا تنوي ـــــ اليوم ـــــ المحاورة.
انسداد الأفق
أين نقف إذاً؟ لابنة صاحبة البيت موقف: «المحتجّون لا يثقون بأن النظام سيقدم إصلاحات في حال انسحابهم من الشارع، ولا النظام يثق بأن المحتجين سيتراجعون قبل تنحّي الرئيس بشار الأسد، إذا قدم بعض الإصلاحات الجدية التي يعدّها تنازلات». وبالتالي؟ «لا ثقة = لا حوار = لا حل سياسياً».
يوصل ذلك إلى أكثر التحديات التي تواجه التحرك الشعبي في سورية جدية. ففي غياب أي بصيص لحل سياسيّ، تظهر ثلاثة احتمالات للمستقبل: تقمع كل المدن والقرى ويعتقل الآلاف وتفرض حالة طوارئ لم تشهد سوريا مثيلاً لها حتى يصبح الشعب على ذوق حاكمه. أو ينزل مؤيدو النظام لإفراغ الشوارع من المناوئين للنظام فيكون انقسام شعبي يتطور في ظل رفض النظام للحوار إلى صدام فحرب أهلية. أو يقرر المحتجون فجأة العودة إلى حياتهم السابقة فيرضون بما ارتضوه أربعة عقود.
يوافق الحاضرون، حول السياسة وأقراص الكبّة المشوية في بيت تلون الصور والكتب جدرانه، على أن هناك نحو 5% من الشعب السوري يشاركون اليوم في الاحتجاجات. نحو 15% من الشعب يؤلفون البنية الأمنية للنظام، ونحو 80% صامتون وقلقون نتيجة السيناريوات السابق ذكرها.
يطلب أحد المثقفين الكلام «بالنظام». لا تردّ له سيدة البيت أو مديرة الجلسة طلبه، فينطلق: «علينا الاستفادة من وعينا وعلاقاتنا وثقة المحتجين بنا للتفكير بما بعد المطالبة بالحرية، لأن العائق الرئيسي أمام تفاعل المجتمع السوريّ أكثر مع المحتجين هو الخشية من المجهول. فأنا مثلاً على أتم الاستعداد لتدمير النظام، لكني لن أسمح أبداً باهتزاز الدولة». تهتز رؤوس المجتمعين موافقة.
المجتمعون هنا منقسمون بين من يخشى الحرب الأهلية، في حال تصاعد وتيرة الاحتجاج وحجمه في ظل تمسك السلطة بالحل العسكري (ولخشيته حوافز كثيرة)، من يثق بقدرة الشعب على تجاوز فخ الفتنة (ولثقته حوافز قليلة)، ومن يقف ضائعاً بين الاثنين، خائفاً من أن يضيع المكتسبات التي يوفرها النظام الأمني، وأولها الاستقرار.
السؤال الآن: «كيف نطمئن الشعب وأنفسنا ـــــ في ظل استفادة السلطة من منطق «أنا أو الفوضى» لحث المواطنين على البقاء في منازلهم ـــــ إلى أنّ اهتزاز النظام لن يؤدي إلى اهتزاز الدولة أو إلى الفوضى؟». وسؤال آخر: «كيف نحدد النقاط التي تجمعنا لتقديمها على النقاط التي تفرّقنا؟». لا أجوبة جدية أو مقنعة، لكن الجو العام للصالون يشي باكتشاف المجتمعين نقطة ضعفهم الأساسية: «كيف نوفّق بين استمرار التحركات الاحتجاجية والنجاة من فخ الحرب الأهلية؟».
يغرقون في التفكير. يخطف المسؤول القومي حبة حلو عربيّ والدور في الكلام ليؤكد مشاركة حزبه، حيث لديه حزبيون في التحركات، لكن للحزب ثابتة أساسية لا يتخلّى عنها، هي وحدة الأرض والشعب. تقترح إحدى السيدات أن تعمم ثابتة القومي (جناح عبد المسيح) على المحتجين. الكلام في الصالونات سهل.
يستأذن المسؤول الآخر في القومي ـــــ بصفته لبنانياً ـــــ للتدخل في الشؤون السورية. يشير إلى أن التحدي الأساسي أمام المثقفين هو تظهير المحتجين قوةً سياسية، تحسن التعبير عن نفسها، موضحاً أن الضغط الشعبي لم يصل بعد إلى حجم القادر على إسقاط النظام. و«لا بد اليوم من خروج نخبة سياسية تقود، فعدم الانتقال إلى السياسة سيوصل إلى نتيجة كارثية». يوافق الحاضرون، يقول آخر إن على الشارع التأكيد أن الحوارات التي يجريها النظام مع رجل دين هنا، شيخ عشيرة هناك وبينهما بضعة مثقفين، لا تعنيه. ويجب تكثيف العمل تأسيساً لأرضية سياسية، مرتبطة جدياً بالأرض تكون مستعدة لملاقاة النظام إذا قرر إنقاذ نفسه والوطن. ويكشف في هذا السياق أن مسودات أولية لتجمعات سياسية ـــــ شعبية بدأت تجتمع في اكثر من منطقة، متلاقية على مجموعة عناوين. تنضم رئيس تحرير جريدة «تشرين» المُقالة سميرة مسالمي إلى اللقاء. تشدد على وجوب تلاحم المثقفين والأحزاب التقليدية بمعارضتها لحزب «البعث» مع الشارع. و«التفكير أكثر بحل ينقذنا جميعاً، نحن والسلطة».
الأخبار