حركات التحرر والحركات الدينية/ رشيد بوطيب
يوضح الفيلسوف الأميركي المعروف مايكل والزر في كتابه «مفارقة التحرر: الثورات العلمانية والثورات الدينية المضادة»، أن الهدف من كتابه هذا، هو وصف نموذج مقلق في تاريخ حركات التحرر الوطني. سيناقش في كتابه وضعية ثلاث دول، حصلت على استقلالها بعد الحرب العالمية الثانية، وهي الهند وإسرائيل والجزائر. طبعاً لم يكلف الفيلسوف الأميركي نفسه عناء مناقشة «الإستقلال الإسرائيلي»، وما إذا كان ذلك على حساب الشعب الأصلي لفلسطين. إن تجنبه مناقشة هذه القضية يمثل لا ريب نقطة ضعف كبيرة في هذا الكتاب.
سيركز والزر في كتابه على الحركات السياسية «العلمانية» في نظره، التي انتزعت استقلال هذه البلدان، وعلى الحركات الدينية التي جاءت كرد فعل عليها، بعد ذلك بربع قرن. وعلى رغم أنه يؤكد أن هذا النموذج الذي يصفه ليس كونياً، فإنه يعتبر أن بعض الحركات السياسية تملك أوجه شبه كبيرة. وسؤال الكتاب المركزي كما صاغه في المقدمة، يقول: «ماذا حدث لعملية التحرر الوطني؟» أو بلغة أخرى: لماذا انتهت كلها إلى الفشل؟
يتعلق الأمر في رأيه بثلاث قصص نجاح، فالحركات الثلاث التي سيتعرض لها نجحت في تحقيق الاستقلال، لكنه يؤكد أن الدولة التي طلبت هذه الحركات تحقيقها، ليست هي الدولة القائمة اليوم. علاوة على أن الثقافة السياسية والأخلاقية التي تسود هذه البلدان اليوم ليست تلك التي هدف إليها رعيل التحرير الأول. فالحركات الثلاث كانت في نظره علمانية وكان مشروعها علمانياً. لكن البلدان الثلاثة تواجه اليوم تحدياً حقيقياً من الحركات الدينية، على رغم اختلاف أديانها: إسلام، يهودية، بوذية. إنه يطلق على هذه الحركات الدينية وصف «الثورات المضادة».
طبعاً، يتوجب أن نتوقف قليلاً أمام هذا المفهوم، والذي لا ريب يملك في الأدبيات السياسية حمولة سلبية. كما أنه يؤكد بلا شك جهل الفيلسوف الأميركي بما حدث في الجزائر على الأقل. فجبهة الإنقاذ التي جاءت احتجاجاً على السلطوية الثورية، وانحرافاتها وأخطائها الكبيرة، نجحت في الانتخابات ولم تطلب الوصول إلى السلطة على ظهر الدبابات أو بمساعدة خارجية، وكان النظام «العلماني» هو من عطل العملية الديموقراطية، كما عطل العالم الحر العملية الديموقراطية في فلسطين بعد فوز حركة حماس في الانتخابات.
من جهة ثانية، تجدر الإشارة هنا أيضاً، إلى أن حركات التحرر لم تكن حركات تغريبية، لا علاقة لها بثقافتها الوطنية، بل كانت علاقتها بها، شأن علاقتها بالغرب، انتقائية. أجل لقد تربى ذلك الجيل في مدارس انكليزية وفرنسية، ولكن هل يكفي ذلك ليكون المرء ديموقراطياً أو علمانياً؟ ثم لماذا يتوجب فهم العلمانية دائماً كنقيض للثقافة الدينية؟
لقد أراد رعيل التحرير مواجهة التقاليد التي تقف خلف التخلف وكانت سبباً في الاستعمار، وهو أمر لا شك فيه. لكن من التجني اعتبار الحركات الدينية المعاصرة التي جاءت احتجاجا على فشل المشروع التحرري استمراراً لتلك التقاليد. فتلك التقاليد التي قبلت بالاستعمار وبررته دينيا، لا يمكنها أن تؤسس لتقاليد دينية احتجاجية.
لقد اعتمد والزر في حكمه على الحركات الدينية المعاصرة على أحكام أطلقها رعيل التحرير على الثقافة التقليدية في سياق مختلف، مثل النقد الذي وجهه نهرو للتقاليد الهندية، كما أن الفيلسوف الأميركي لجأ إلى تقييمات استشراقية للثقافة الهندية مثلاً، كتلك التي ينشرها الكاتب نايبول، والتي لا تختلف عن الكتابات الاستعمارية حول الشرق وثقافاته.
لا عجب إذن أن يعتبر والزر حركات التحرر منتوجا «غربيا». وبلغة أخرى، أن الإحتكاك بالقيم الغربية هو الذي دفع بالمستعمرات في رأيه إلى نهج طريق التحرير. إنها رؤية مركزية معروفة، نجدها حتى عند مثقفين نقديين في السياق الأوروبي يعتبرون أن قيماً مثل الحرية والعدالة، والاستقلال الذاتي والنقد إلخ… حكر على الثقافة الغربية.
يرى والزر أن مشروع التحرر الوطني كان مشروعاً مزدوجا للتحرر من عنف مزدوج داخلي وخارجي. الإستعمار خارجيا، وداخليا، التقاليد التي شرعنت الإستعمار وتسببت به. إنه مشروع للتحرر مما يسميه لابوتيي بالعبودية المختارة. لكن موقف والزر من حركات التحرر يظل رومانسياً، فهو يتناسى أنها كانت حركات إقصائية بامتياز، ولم تسمح لسرديات أخرى غير سردية «التحرر» من التواجد في الفضاء العام، بل إن فهمها للتحرر كان أيديولوجيا بامتياز وهدف إلى الوصول إلى السلطة وليس بالضرورة إلى تحقيق تغير مجتمعي، وهو ما يجعلنا نعيش اليوم في المجتمعات العربية نوعا من الاستعمار الداخلي. كما أن والزر المستغرق في مركزيته الغربية، يغفل الدور الثوري الذي لعبه الدين في عملية التحرر الوطني.
لكن، وعلى رغم قراءته الأحادية لتاريخ حركات التحرر العلمانية، سيضطر والزر في نهاية كتابه إلى الدعوة لتجاوز موقف الرفض للتقاليد والدين، الذي نعرفه عن التيار الماركسي، والدعوة إلى بناء حوار بين الحركات العلمانية والدينية، معتبراً أن مشروع التحرر لم ينته بعد.
* كاتب مغربي
الحياة