صبحي حديديصفحات الرأي

أطلال “نهاية التاريخ”… بعد ربع قرن/ صبحي حديدي

 

 

انقضت خمس وعشرون سنة على مقالة فرنسيس فوكوياما، “نهاية التاريخ”، التي ساجلت بأنّ التاريخ لعبة كراسٍ موسيقية بين الإيديولوجيات (عصر الأنوار، الرأسمالية، الليبرالية، الشيوعية، الإسلام، القِيَم الآسيوية، ما بعد الحداثة…)؛ وقد انتهى التاريخ وانتهت اللعبة، لأنّ الموسيقى توقفت تماماً (سقوط جدار برلين، وانتهاء الحرب الباردة)، أو لأنّ الموسيقى الوحيدة التي تُعزف الآن هي تلك الخاصة بالرأسمالية والليبرالية واقتصاد السوق.

ليس في استعارة لعبة الكراسي الموسيقية أيّ إجحاف بحقّ أطروحة فوكوياما، بل لعلها أفضل تلخيص للتمثيلات الكاريكاتورية التي وضعها الرجل لعلاقة البشر بالتواريخ، ولتأثير البنية الفوقية (الإيديولوجيا والنظام الفكري)، على البنية التحتية (الاقتصاد والنظام الاجتماعي)، وعلى “ولادة إنسان لا حاجة له بالتاريخ لأنه ببساطة خاتم البشر”! وفي كلّ حال، ليس هنا المقام الملائم لمناقشة مآلات تلك الافتراضات، التي لم تُهزم شرّ هزيمة، فحسب؛ بل أحالتها الوقائع اللاحقة ـ الصاخبة المضطرمة العنيفة، من استفحال حروب الحضارات إلى استيقاظ حروب القوميات… ـ إلى محض طلل، ضمن سلسلة أطلال “الفلسفات” التي أشاعتها تيارات “المحافظين الجدد”.

طريف، في المقابل، أن يقف المرء على ذلك الطلل، صحبة صانعه، الذي سبق له أن أجرى تلك الوقفة في مناسبة الذكرى العاشرة لنشر مقالته (التي استطالت إلى كتاب، بعدئذ)؛ و أجراها قبل أيام أيضاً، في الذكرى الخامسة والعشرين. وإذْ لم يكن في وسعه إنكار حال التاريخ الراهنة، وكيف يغلي ويستعر لهيباً، والبشر يموتون كلّ يوم بفعل القاذفات والصواريخ والمدافع أكثر من الكوارث الطبيعية؛ فإنّ فوكوياما قدّم تنازلاً واحداً وحيداً يخصّ تتويج التاريخ في صيغة الدولة الليبرالية الحديثة. “كانت هذه الأطروحة خاطئة تماماً”، قال فوكوياما، “لأنّ التاريخ لا يمكن أن ينتهي ما دامت علوم الطبيعة المعاصرة لم تبلغ نهايتها بعد، ونحن على أعتاب اكتشافات علمية ذات جوهر كفيل بإلغاء الإنسانية في حدّ ذاتها”!

طريف، أيضاً، ما دمنا نعيش أهوال العراق الراهنة، وصعود منظمة “داعش” الإرهابية من باطن التاريخ الذي صنعه الغزو الأمريكي للعراق، قبل انبثاقها من أيّ غيهب جاهلي؛ أن نستعيد موقف فوكوياما من هذا الملفّ تحديداً، وكيف كان السبب الجوهري في امتناعه عن انتخاب جورج بوش الابن، في الدور الرئاسي الثاني. كان ذاك الاختيار دراماتيكياً من رجل عُدّ أحد أبرز أدمغة اليمين الأمريكي المعاصر، وأحد كبار الموقّعين على النصّ الشهير “مشروع القرن الأمريكي الجديد”؛ الذي نُشر سنة 1997 بتوقيع صقور عجائز من أمثال ديك شيني ودونالد رمسفيلد وبول ولفوفيتز وريشارد بيرل وريشارد أرميتاج وزلماي خليلزاد، وهو النصّ الذي لا يتردّد الكثيرون اليوم في القول إنه كان المسوّدة الأولى التي مهّدت لغزو العراق.

إنه، بادىء ذي بدء، اعترض أصلاً على غزو العراق، ليس لأنه كان قراراً خاطئاً بالمعنى الاستراتيجي، فقط؛ بل أيضاً لأنّ الإدارة وقعت بعد الغزو في سلسلة أخطاء قاتلة، لم تعترف بها ولا تنوي التراجع عنها. وهو، ثانياً واستطراداً، رأى أنّ العراق لن يكون واحة سلام وأمان وازدهار، ولن يصدّر “فيروس الديمقراطية” إلى مختلف أنماط الاستبداد العربي، بل سيصدّر بضاعة واحدة وحيدة هي الإرهاب والتشدّد الديني والانقسامات المذهبية. وهو، ثالثاً، كان غاضباً من صديقه وزير الدفاع الأمريكي دونالد رمسفيلد، وعاتباً عليه، وطالب باستقالته من منصبه دون إبطاء.

أسباب وجيهة، لا ريب، ولكن هل كانت تعكس فعلاً دخيلة فوكوياما وقناعاته الحقّة، أم كانت مجرّد واجهة تخفي نقائض ما هو معلَن؟ وهل يصحّ التفكير، كما يتردّد هنا وهناك في الأوساط الإعلامية الأمريكية، أنّ سخط فوكوياما الفعلي إنما يعود إلى خروجه من مولد استيلاء المحافظين الجدد على البيت الأبيض… بلا حمّص، البتة! كان الموقف لافتاً، في كلّ حال، والأيام برهنت على أنّ النقد محقّ، أياً كانت دوافع فوكوياما في نقله إلى العلن.

وبذلك فإنّ الطلل، مثل صاحبه الشاخص إليه، يخدم اليوم في تثبيت اعتبار واحد ثمين على الأقلّ: أنّ التاريخ حيّ، بل نابض بالصخب والعنف؛ وأنّ كبرى فلسفات اليمين الأمريكي المعاصر آخذة في التفكك والتفسخ، سائرة حثيثاً نحو الاندثار.

موقع 24

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى