حركة نسائيّة سوريّة صرفة أم مشاركة سياسيّة؟/ سمير العيطة
كنت قد قدّمت في اجتماعات سابقة لتجمّعات نسويّة سوريّة دراسة لمشهد تطوّر الأوضاع الاقتصاديّة والاجتماعيّة للمرأة في سوريا منذ سنة 2000 إلى 2011، ومنذ الانتفاضة والثورة إلى الحرب القائمة حاليّاً.
الأفكار الأساسيّة لهذه الدراسة كانت:
ـ أنّ النساء السوريّات هنّ أكثر من عانى من السياسات الاقتصاديّة والاجتماعيّة خلال فترة حكم الأسد الابن حتّى 2011. هاجرن بكثافة من الريف إلى المدينة، وانحشرن في ضواح عشوائيّة وفي قرى تطوّرت بسرعة إلى مدن. لقد فقدنَ مشاركتهنّ في قوّة العمل التي انخفضت من 21 في المئة إلى 14 في المئة، أي ما يشكّل كارثة اجتماعيّة. خرج من قوّة العمل نصف العاملات بالزراعة، وثلثا النساء غير المؤهلات. وأغلب النساء العاملات أضحين المتعلّمات، حيث ربع المشتغلات هنّ مدرّسات و20 في المئة ممرّضات وطبيبات. فيما أضحت النساء في كثير من الأحيان هنّ ربّات الأسر لانشغال 1/7 من الرجال في العمل الموسميّ في لبنان. كما هاجر نصف أهل منطقة الجزيرة إلى مناطق أخرى.
ـ كان هذا نتيجة سياسات حكوميّة، أبرز معالمها «الإصلاح الزراعي المضاد» والتخلّي عن هيئة مكافحة البطالة. كلّ هذا بالإضافة إلى الصدمة الاجتماعيّة التي أحدثتها موجة اللاجئين العراقيين ومن ثمّ موجة الجفاف.
ـ هكذا فقدت النساء أسس حريتهنّ. إذ لا حريّة للمرأة من دون استقلاليّة ماديّة. وبتنَ يعشنَ لأغلبهنّ في مناخ ضغط اجتماعي في العشوائيّات القائمة، تلعب فيه جمعيّات الإسلام السياسيّ الخيريّة دوراً تأطيريّاً.
ـ اللافت أنّ جميع القوى السياسيّة والمدنيّة لم تهتمّ في أدبيّاتها ونضالاتها لهذه الكارثة النسائيّة، وصبّت جلّ خطابها نحو قضايا سياسيّة، بل جيوسياسيّة بحتة مثل العلاقة بين سوريا ولبنان. بالتالي غابت في مثل هذا السياق قضايا المرأة وحقوقها كقضايا اجتماعيّة سياسيّة بامتياز.
ـ أبرز التطوّرات منذ 2011 تمثّلت في الهجرة والنزوح. أغلب المهاجرين الذين توجّهوا إلى دول الجوار (5 ملايين) نساءٌ وأطفال، وإلى أوروبا فقط 30 في المئة نساء.
ـ في دول الجوار، بقيت النساء محرومات من المشاركة في العمل (7 في المئة مقابل 51 في المئة للرجال في الأردن مثلاً).
ـ وهنّ يعانين من غبنٍ حقيقيّ جسّده فقر، وعنف واستغلال وتحرّش وعدم إمكانيّة التنقّل والتعليم وانعدام الفرص والعزلة والزيجات غير المسجّلة وزواج القاصرات وعملهنّ والجهل والتطرّف، بحسب دراسة تركيّة. فيما لا تعتبرهنّ مؤسسات الأمم المتحدة والمنظّمات الحكوميّة للإغاثة ربّات العائلة كما هو الواقع.
ـ واللافت هنا أيضاً ضعف التحرّكات لدى القوى السياسيّة والاجتماعيّة للدفاع عن حقوقهنّ لدى السلطات المختصّة، وغياب الجهد لتأطيرهنّ للدفاع عن حقوقهنّ.
ـ الأمر هو ذاته بالنسبة للنزوح الداخليّ لـ6.6 ملايين نسمة. وهذه أكبر موجة نزوح عرفها العالم منذ الحرب العالميّة الثانية. وهي أيضاً تطال النساء (57 في المئة) أكثر من الرجال (43 في المئة). وليس هناك سوى القليل من المجموعات النسائيّة المدنيّة (حوالي 50) لا تؤطّر إلاّ النزر اليسير منهنّ.
ـ أمّا المجالس المحليّة التي أُنشئت في مناطق المعارضة، وأغلبيّتها (57 في المئة) غير منتخبة، فلا يوجد فيها سوى 2 في المئة من النساء.
ـ حتّى نهاية 2015 قدّر عدد القتلى من جرّاء الصراع بـ470 ألفاً، 12 في المئة منهم نساء و11 في المئة أطفال.
ـ هكذا، إذا خرجت سوريا من الحرب غداً فستكون أغلبيّة مجتمعها المطلقة نساءً. فيما ضاعت حقوقهنّ وأوضاعهنّ في غياهب السياسة والحرب.
أمام هذا الواقع يبقى التساؤل مفتوحاً حول المشاركة السياسيّة والاجتماعيّة للمرأة، خاصّة في مرحلة النهوض من الحرب وإعادة الإعمار. وضمنه تساؤلٌ جوهريّ حول نوعيّة هذه المشاركة: أمن خلال التنظيمات السياسيّة والمدنيّة القائمة أم عبر تنظيمات خاصّة بالنساء؟ بالطبع لا تحسم الإجابة عن هذا التساؤل سوى النساء وحدهنّ.
في بداية الانتفاضة والثورة كان دور النساء قويّاً:
ـ من خلال بعض التنظيمات المدنيّة التي أمّنت الدعم للمناطق المنتفضة والتي كانت الشابّات عمودها الأساسيّ.
ـ ومن خلال ظهور شخصيّات نسائيّة لعبت دوراً بارزاً في محاولة الإبقاء على الطبيعة السلميّة وغير الطائفيّة للثورة، مثل فدوى سليمان وغيرها.
ـ ودفعت النساء ثمناً باهظاً لنضالهنّ تنكيلاً واعتقالاً، ومن ثمّ إهمالاً.
إلاّ أنّ دور النساء تراجع تدريجيّاً مع تحوّل الانتفاضة والثورة نحو العنف والطائفيّة منذ خريف 2011، ثمّ غاب إلاّ بمبادرات نادرة مع التوجّه نحو الحرب في صيف 2012. فالعنف بطبيعته ذكوريّ. وقد انعكس هذا الأمر على تكوينات المعارضة السياسيّة، فما بالنا بالعسكريّة.
هكذا ضمّ المجلس الوطني عند إنشائه 5 سيّدات من أصل 72، والمجلس المركزي لهيئة التنسيق 8 سيدّات من أصل 71، والمكتب التنفيذي سيّدتين من أصل 25، ثمّ الهيئة العامّة للائتلاف سيّدتين من أصل 62، بالإضافة إلى رجلٍ نيابة عن السيّدة منتهى الأطرش، وصلنَ إلى 8 سيّدات من أصل 85 بعد التوسعة (4 من أصل 95 حسب الموقع). وشارك في مؤتمر الرياض 10 نساء من أصل 104 مدعوّين.
في المقابل، خسرت المعارضة المسلّحة معركة معنويّة عبر تغييب دور النساء تغييباً شبه كامل. فيما استغلّت «وحدات حماية الشعب» وأجهزة «الحكم الذاتي» في المناطق الشماليّة المشاركة الفعليّة للنساء استغلالاً كبيراً. ما أعطى دعماً معنويّاً ملحوظاً لطروحات «حزب الاتحاد الديموقراطي» في الأوساط الأوروبية والأميركيّة، ما ساهم في النهاية في حصوله على دعمٍ مباشر وصريح من قبل هذه الدول.
لم تنقلب الأوضاع حقّاً إلاّ بعد اجتماع فيينّا لمجموعة دعم سوريا في 30 تشرين الأوّل 2015 الذي أكّد الطبيعة غير الطائفيّة secular لسوريا. والذي تبعه قرار مجلس الأمن 2254 لعام 2015 الذي «شجّع على مشاركة المرأة مشاركة هادفة meaningful في العمليّة السياسيّة التي تتولّى الأمم المتحدة تيسيرها من أجل سوريا». بهذه المرجعيّة الأمميّة، وبمرجعيّة قرار مجلس الأمن 1325 لعام 2000 حول النساء والحرب والسلام، شكّل المبعوث الدوليّ «المجلس الاستشاري النسائيّ» الذي ضمّ مجموعة من السيّدات تنتمي إلى طيف سوريّ واسع.
أتى هذا التشكيل انطلاقاً من دراسات كثيرة أثبتت أنّ دور النساء محوريّ في صنع السلام بعد الحروب، خاصّة الأهليّة منها. وقد حفّز هذا التشكيل المعارضة السياسيّة على تشكيل «مجلس استشاري نسائيّ» خاصّ بها. كما ظهرت في الوقت ذاته جهود كانت قد انطلقت منذ زمن حول جندرة الدستور وحول الروابط بين العلمنة (أو رفض الطائفيّة) والحركات النسائيّة. كلّ هذا يصبّ في مصلحة النساء السوريّات، إلاّ أنّ هذه التطوّرات تستدعي الملاحظات وتبيان التحديات الآتية:
ـ لم يتمّ حقاً أيّ تفاوض سياسيّ رسميّ، بمعنى طرح الإشكاليّات لحلّ عناصر الصراع في سوريا، ومحاولة إيجاد السبل للخروج منها، في جولات جنيف 2 وجنيف 3، والتي بقيت «استعراضية» أكثر منها عمليّة. جرى تفاوض جزئي في لقاءات موسكو التشاوريّة كان أبرز إنجازاتها ورقة تفاهم المعارضة (مع تعدّد تكويناتها) والتي أهملتها السلطة. كما جرى تفاوض غير رسميّ تحت رعاية المبعوث الأمميّ من خلال المجلس الاستشاريّ النسائي ومجموعات المجتمع المدنيّ. لا يعني هذا أنّ هذه المفاوضات هي التي ستأتي بالحلّ ولكنّها يُمكن أن تؤسّس من خلال تأثير النساء وتأثير المجتمع المدنيّ على الأطراف كافّة عناصرَ لحلّ يُمكن طرحها على طاولة المفاوضات عندما سيأتي حينها.
ـ ليست القضيّة، برأيي، قضيّة «مشاركة سياسيّة» بقدر ما هي قضيّة «المبادرة السياسيّة» للنساء. فإذا كانت النساء قد أضحين يشكّلن أغلب المجتمع السوريّ المطلقة، فهنّ الأولى بإيجاد السبل لإيقاف الحرب وطرح المبادرات للتوصّل إلى الحلول السياسيّة المناسبة.
ـ لا تُلغي هذه التطوّرات ضرورة الارتقاء بالحركات النسائيّة إلى حركات شعبيّة أكثر منها مشهديّة إعلاميّة أو رمزيّة. إذ لا يُمكن تصوّر الارتقاء بأحوال النازحين واللاجئين في الدول المجاورة والدفاع عن حقوقهم، ومن ثمّ العمل على عودة هؤلاء إلى ديارهم، من دون تنظيمهم اجتماعياً. وأغلب هؤلاء النازحين واللاجئين من النساء. والآفاق واسعة لجهودٍ كهذه.
وعودة إلى التساؤل المطروح: لو كنت شخصياً امرأة لكان خياري الانخراط في حركة مدنيّة سياسيّة نسائيّة صرفة، تقوم هي بالدفاع عن حقوق النساء والمبادرة السياسيّة، حتّى لو لم يرق للرجال ذلك.
مداخلة قدّمت في المؤتمر رفيع المستوى حول «المشاركة السياسيّة للمرأة السوريّة» للوبي النسائي السوريّ (21 تشرين الثاني 2016).
االسفير