حـتــى آخــر مـواطــن ســوري؟
مصطفى اللباد
تتوالى الأنباء والصور المفزعة للمجازر المستمرة ضد المواطنين السوريين، الذين يدفعون ثمناً باهظاً لقاء حريتهم وكرامتهم ضد نظام دموي باطش، وبما يتجاوز ما تكبده أي شعب عربي آخر في إطار «الربيع العربي». وفيما يتسمر المشاهدون أمام الشاشات لمتابعة الأخبار المؤسفة القادمة من سوريا، تهتم العواصم الإقليمية والعالمية بتحقيق مصالحها الضيقة وتصفية حساباتها مع التركيبة الإقليمية الراهنة. ولتحقيق ذلك الغرض تستمر آلة القتل النظامية في حصد أرواح المواطنين السوريين العزل، وبالمقابل تقدم قوى إقليمية السلاح والمقاتلين ذوي العقيدة السلفية والجهادية لا لتحقيق الديموقراطية والحرية للمواطنين السوريين، بل لتصفية الحساب الطائفي والإقليمي مع النظام السوري. ولما كانت سوريا قد تحولت ـ حتى قبل اندلاع الحراك الشعبي فيها – بفعل غياب الخيال السياسي عن نظامها إلى ملعب للقوى الإقليمية والدولية، ولم تعد لاعباً إقليمياً مؤثراً في جوارها الجغرافي، يقرقع السلاح على الأرض السورية وتعربد قوات الشبيحة والنظام، ومعها المقاتلون المتسللون بغطاء وتمويل إقليمي، لتصفية الحساب الطائفي والإقليمي مع بشار الأسد ونظامه. يدفع السوريون لقاء كل ذلك من دمهم وأرواحهم ومستقبلهم، في معركة شريرة تستهدف تحقيق مصالح الخارج على الأرض السورية. وإذ يتأثر التوازن الإقليمي العام في الشرق الأوسط بشدة بالوضع في سوريا بسبب موقعها الجغرافي العبقري، تحاول هذه الأطراف الإقليمية تكبيد إيران المتحالفة مع النظام السوري أثمان ميل ميزان القوى الإقليمي لمصلحتها. ما ذنب الشعب السوري المسالم في هذه المعادلة الإقليمية الدموية؟ ولماذا يجب على المواطن السوري أن يريق المزيد والمزيد من دمه على مذبح توازنات إقليمية تكرست على امتداد عقود بسبب غياب الإرادة السياسية المستقلة لهذه الأطراف؟ كيف يمكن القبول أخلاقياً بأن يصبح المواطن السوري قرباناً لتصفية الحساب الإقليمي مع نظامه القمعي؟ تخوض الأطراف الإقليمية المتصارعة حربها الضروس ضد بعضها بعضاً على الأرض السورية وعلى حساب مستقبل سوريا والسوريين، فتصبح خيارات كل منا ـ كاتباً وقارئاً ـ شاهداً عليه وعلى مواقفه أمام ضميره قبل العالم. هل نرى فقط بطش النظام السوري ودمويته ـ وهي حاضرة وتحصد أرواح المواطنين السوريين يومياً ـ أم نرى فقط الجانب الآخر من الصورة/المقتلة التي تخوضها أطراف إقليمية لتحقيق مصالحها حتى آخر مواطن سوري، أم نتوخى شهادة الحق فنرى الجانبين معاً؟
بينما تمتلك الأقطاب الدولية أميركا وروسيا والصين، وكذلك القوى الإقليمية تركيا وإيران والسعودية، رؤاها الخاصة بالصراع وطرق تسويته بما يضمن مصالحها، يحاول الاتحاد الأوروبي بلورة رؤاه للحل في سوريا، واستعراض أفضل السبل للخروج من الأزمة. في هذا الإطار، دعا البرلمان الأوروبي مجموعة ضيقة من الخبراء للإدلاء بشهادتهم وتقييمهم للوضع في سوريا ـ كنت من بينهم ـ في جلسة علنية عقدت بمقر البرلمان الأوروبي، وبحضور سفراء الدول الأوروبية في الاتحاد الأوروبي، يوم الثلاثاء الموافق 19 حزيران العام 2012، بمقر البرلمان في بروكسل. يمكنك أن تبقى أسيراً للآلة الإعلامية لهذا الطرف أو ذاك، ولكن يمكنك أيضاً أن تشهد شهادة حق خالية من الغرض أمام ضميرك والعالم.
لا تهتم هذه الشهادة بتلميع صورة النظام السوري لأن هذا غير ممكن نظرياً وعملياً، بل غير محتمل إنسانياً وأخلاقياً، وإنما بتسليط الضوء أيضاً على الجانب الآخر من الصورة، وهو جانب دموي ومظلم كذلك. من المعلوم أن البناء الصراعي في سوريا له ثلاث طبقات: الأولى المحلية والثانية الإقليمية والثالثة الدولية، وبالتالي فهناك علاقات جدل بين الطبقات الثلاث لا تقنع بالتفسيرات الأحادية للأزمة ولا تكتفي بتعيين مواضع الاستقطاب على مستوى واحد لها. يبدو واضحاً أن الأطراف المنخرطة في الأزمة تلعب أوراقها برهانات عالية Higher Stakes، وبما يتجاوز كثيراً ما يتردد في شعاراتها المرفوعة بضرورة حصول الشعب السوري على حقوقه في الديموقراطية والحرية. تبدو خريطة الموزاييك الطائفي الهش والمتفجر في المشرق العربي، والتي تقف توازناتها على غير هوى هذه الأطراف الإقليمية، مرشحة للانفجار عند اندلاع حرب أهلية تكون عناوينها المرفوعة قلب سلم التوازن الطائفي الراهن في سوريا والمشرق انتقاماً من طائفة على يد طائفة أخرى، فيفقد المواطنين السوريين مواطنيتهم ويربحون هويات مذهبية متناحرة مع بعضها البعض. ومن شأن حدوث هذا الانفجار في سوريا أن يفيض على حدودها السياسية، بما يجعل المشرق العربي كله وقوداً لحرب أهلية طائفية لا تبقي ولا تذر. ولذلك الغرض وتحت ستار «التضامن مع الشعب السوري»، يتم تهريب الأموال والأسلحة والمقاتلين ذوي الميول السلفية والجهادية إلى الداخل السوري، لتتحول الانتفاضة الشعبية السورية السلمية الباسلة، التي قابلها النظام بوحشية مفرطة، إلى انتفاضة مسلحة تساهم الأطراف الإقليمية الخليجية في دعمها وإدامتها لاستمرار نزيف القتل واستدعاء التدخل العسكري الدولي بالنهاية. ونشهد استغلالاً واضحاً لمأساة الشعب السوري في تحقيق أهداف إقليمية تتجاوز الخريطة السياسية لسوريا، فهناك من يريد الاستمرار في القتل حتى تكسير سوريا الدولة ومقوماتها الأساسية، وليس مجرد إزاحة النظام الذي تحالفوا معه لسنوات طويلة، بغرض توجيه ضربة قاصمة إلى إيران ونفوذها في المشرق، عبر إسقاط النظام المتحالف معها؛ وبالتالي منعها من الإطلال على البحر الأبيض المتوسط. هنا تصبح سوريا مجرد منصة الإطلاق لأهداف تتجاوز رقعتها الجغرافية، ويصبح الدم السوري وقوداً لحرب مستترة. ومن المفارقات أن النظام السوري يتعرض لحملات إعلامية منسقة تتهمه بالديكتاتورية ـ وهو اتهام صحيح ـ ولكن من قوى إقليمية تفتقر إلى الحد الأدنى من مقومات التمثيل الشعبي ولو حتى على مستوى المجالس البلدية. من يتهم من هنا بالدكتاتورية وبالافتقار إلى الديموقراطية؟
� �*
تعرف المنطقة في السنوات الأخيرة صراعاً ملتهباً على النفوذ بين إيران وتركيا، وتبدو سوريا الآن هي مسرح هذا الصراع. طبيعي أن لتركيا مصالح في جوارها الجغرافي في سوريا، ولكن تحالف تركيا الواضح مع «الإخوان المسلمين» في المنطقة، الذين يفتقرون إلى الحضور الميداني في سوريا، يفقدها يوماً بعد يوم وهج نموذجها الذي تقدمه للمنطقة، وحيادها تجاه أطراف الأزمة، وهو ما يجعلها جزءاً من المشكلة وليس الحل. ولإخراج إيران من سوريا وتثبيت نفوذ تركي جديد في الفراغ الذي ستتركه، وبما يجعل سوريا «حديقة خلفية» لها، تم تشكيل واحتضان هيئات تمثيلية للسوريين في المهجر يهيمن عليها «الإخوان المسلمون» من وراء الستار، برعاية تركية وتمويل خليجي، بعد تهميش الرموز الوطنية السورية المناضلة في الداخل والخارج. وفق هذا المقتضى، يجري عبر عملية إعلامية – سياسية منسقة فرض تمثيل غير حقيقي للمواطنين السوريين، تمثيل لا يعكس موازين القوى السياسية على الأرض، وبالتالي يدفع المواطنون السوريون بأرواحهم ثمن استمرار آلة القتل وصولاً إلى تثبيت هذا التمثيل غير الحقيقي، وبتزييف إرادتهم يتكبدون ثمن مستقبل سياسي مظلم لم يختاروه. ولأن الصراع الكوني بين الولايات المتحدة الأميركية وروسيا، يستمر قائماً، يصبح الساحل السوري ملعباً لإخراج روسيا الساعية إلى استعادة مكانتها الدولية، من موقعها الأخير على البحر المتوسط، والثمن مرة إضافية هو دماء المواطنين السوريين ومستقبلهم.
سيقسم التدخل الدولي العسكري سوريا لا محالة ويدمر موزاييك طوائفها الهش، ولن يدع مجالاً للمنظمات الإقليمية والدولية للعب دور في الحل، وإنما لدفع الأثمان في «تحالف الراغبين» بقيادة الناتو. ومن شأن رفع سقف الأهداف المتوخاة من العملية العسكرية: ضرب مصالح إيران، تثبيت تركيا في سوريا وطرد روسيا من المنطقة، أن تجرى عمليات يراق فيها الدم وتتحطم الدولة السورية لأغراض غير مناصرة الشعب السوري وحقه غير القابل للنقاش في الحرية والكرامة. أرفض فكرة «الممر الإنساني» لأنها أفضل وصفة للحرب الأهلية كما تقول التجارب التاريخية السابقة، والحرب الأهلية ستشرعن التدخل الدولي أيضاً. الحل الأفضل الآن هو أن تتداعى الأطراف الدولية صاحبة المصلحة إلى مؤتمر دولي يبحث في مرحلة انتقالية تضمن مشاركة كل الأطراف السورية ولا تستأصل منهم أحداً، وبما يضمن سوريا موحدة لكل مواطنيها. كما يجب على المؤتمر أن يضم كل الأطراف الإقليمية ولا يستبعد أياً منها: الجامعة العربية والأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي وأميركا وروسيا والصين وإيران وتركيا والسعودية، فضلاً عن دول جوار سوريا. فليرحل بشار الأسد بمبادرة على غرار «الحل اليمني»، ولتصفِّ الأطراف الإقليمية حساباتها مع بعضها البعض على غير الأرض السورية وبغير الدم السوري. على القتل أن يتوقف الآن وفوراً، أم سننتظر أن تستمر المذبحة حتى آخر مواطن سوري؟
رئيس مركز الشرق للدراسات الإقليمية والاستراتيجية – القاهرة.
السفير