حقائق يتجنب النظام السوري مواجهتها
فراس كيلاني
بقدر ما دفعت الاحتجاجات الدموية التي تمر بها سورية منذ نحو ثلاثة أسابيع الخطاب الرسمي السوري لاستحضار الماضي، القريب منه والبعيد، بقدر ما بقي سؤال المستقبل مؤجلاً من قبل القيادة السورية، في انتظار المجهول الذي قد تحمله هذه الاحتجاجات، والتي تمتد من مدينة لأخرى أسبوعاً بعد أسبوع، وما تستدعيه من جراحات استئصالية حيناً أو تخدير موضعي حيناً آخر بإدارة الرئيس بشار الأسد مباشرة.
وباستثناء التحذير الرسمي المضمر من مستقبل سترسم السواطير ملامحه، لم تقدم الخطوات التي اعلن الرئيس السوري اتخاذها أي ملامح لهذا المستقبل، خصوصاً في شقه السياسي، رغم أنها الأزمة الأشد التي تواجهه منذ تسلم السلطة قبل عقد ونيف.
منذ بدء الاحتجاجات حرص الخطاب الرسمي، كما تبدى في كلمة الرئيس الأسد وتصريحات مستشارته وأخبار وكالة الأنباء الرسمية ‘سانا’، على تأكيد عنصر ‘المؤامرة’ و’الاستهداف الخارجي’ المتساوق مع بعض الداخل ‘المندس’، وذلك عبر ‘استغلال تظاهرات مطلبية’ لإثارة الفتنة التي ستقود إلى ما حرص هذا الخطاب على تجنب ذكره، وهو ‘الحرب الأهلية’ على أساس طائفي في تذكير بما كانت البلاد على شفير الانزلاق إليه مطلع الثمانينيات من القرن الماضي.
ورغم سقوط عشرات الضحايا منذ اندلاع هذه الاحتجاجات في العديد من المدن رافعين شعارات سياسية يتصدرها مطلب ‘الحرية’، بدءاً بدرعا ومرواً باللاذقية وحمص وحماة ودمشق وصولاً للمنطقة الشرقية، إلا أن الموقف الرسمي السوري لا يزال على حاله، أقله في الشق المعلن منه، لجهة التركيز على الخلفية المطلبية للاحتجاجات، وعلى عنصر ‘المؤامرة’ مدعماً باتهام ‘عناصر مسلحة’ باستهداف المتظاهرين ورجال الأمن على حد سواء، ومحاولة إحداث ‘الفتنة’، خصوصاً في المدن المختلطة كاللاذقية التي عاشت بضعة أيام من رعب الحرب الطائفية.
وبغض النظر عن حقيقة ما جرى ويجري في مدن سورية في ظل تعتيم إعلامي غير مسبوق، مقارنة بما جرى في مصر وتونس واليمن وحتى ليبيا والبحرين، وبغض النظر أيضاً عن الانتقادات والمآخذ التي غصت بها الصحف والفضائيات، ومن الصديق قبل العدو، بشأن الطريقة التي تعاطت بها القيادة السورية مع الاحتجاجات، فإن ثمة مسألة لم يتضح أن هذه القيادة بتعدد مستوياتها وخصوصاً السياسية والأمنية، قد أعملت النظر فيها، وهي أن سورية التي استطاع الرئيس بشار الأسد قيادة دفتها طيلة العقد الماضي لن تبقى هي ذاتها حتى وإن نجح النظام في الخروج منها سالماً، لأنه سيكون مثخناً بالكثير من الجراح على الأرجح.
ورغم صعوبة التنبؤ بالمنحى الذي ستنحوه الأمور لجهة خصوصية سورية، إلا أن وضع الآثار القريبة والبعيدة التي ستخلفها الاحتجاجات نصب أعين القيادة السورية التي من الواضح أنها تستبعد إمكانية خروجها من السلطة، قد يدفعها لإعادة النظر في العديد من القرارت التي صدرت أو قيد الصدور قريباً. وفي ما يلي محاولة لاستشراف بعض هذه الآثار:
أولا: اهتزاز صورة الدولة الأمنية وانكسار حاجز الخوف بطريقة غير مسبوقة منذ نحو ثلاثين عاماً. فوقع مشاهد تهديم تماثيل وحرق صور الرئيس بشار الأسد ووالده الراحل حافظ الأسد كان هائلاً، وربما أسهم في دفع الكثير للنزول إلى الشارع والمشاركة في الاحتجاجات. وهي صور تم التقاطها من قبل ناشطين شاركوا في هذه التظاهرات بكاميرات هواتفهم الخليوية وأرسلوها لموقع ‘يوتيوب’، الذي بات يشكل مصدراً مهماً للفضائيات التي منع مراسلوها من تغطية هذه الاحتجاجات، وعرضت بالتزامن مع هتافات ما كان الشارع السوري ليجرؤ على مجرد التفكير فيها، وتخللتها مشاهد دموية لا تثبت صحة الرواية الرسمية للطريقة التي قتل فيها الكثير ممن قضوا في هذه الأحداث، ولأخرى توضح الأسلوب الذي تعاطى به رجال الشرطة والاستخبارات والجيش مع المحتجين.
كلها صور هزت بقوة أسس وأركان النظام الذي جهد الرئيس الراحل حافظ الأسد على تثبيته، وسهل مهمة الرئيس بشار الأسد كثيراً في تأمين انتقال سلس للسلطة عام ألفين، واستمرار حكمه بعد ذلك لسورية أو ‘جمهورية الخوف’ بحسب عنوان مقالة تناولت الاحتجاجات التي تشهدها البلاد في عدد مجلة ‘نيوزويك’ الأخير.
ثانياً: اهتزاز صورة الرئيس بشار الأسد شخصياً عبر خطابه الذي عكس تأييداً مضمراً للإجراءات التي تم اتخاذها لقمع الاحتجاجات، عبر تشديده على أن ‘لا مكان لمن يقف في الوسط’، وتأكيده أنه لن ينفذ أي إصلاحات تحت الضغوط بقوله، ‘إن الناس الذين يعوّدون دولتهم على أن تكون خاضعة للضغوط في الداخل، فيعني أنها ستخضع للضغوط في الخارج’. ولا تبدو ذاكرة السوريين مثقوبة هنا، خصوصاً أنه لم يمض الكثير من الوقت على التنازلات المؤلمة التي اضطر النظام السوري لتقديمها تحت الضغط الأمريكي والغربي، بعد حرب العراق حين أقدم على تسليم العديد من المطلوبين، وبينهم الاخ غير الشقيق للرئيس الراحل صدام حسين للولايات المتحدة الامريكية، وبعد اغتيال رئيس وزراء لبنان الأسبق رفيق الحريري، حين اضطر لسحب جيشه من لبنان.
ثالثاً: وربما الأهم اختبار خطر الحرب الأهلية في مدينة اللاذقية التي استباحتها لعدة ساعات عصابات مسلحة سعت لتأجيج سكانها طائفيا ضد بعضهم البعض، حرصت بعدها مكونات المدينة الدينية على الاعتصام مجتمعة لرفض الانزلاق إلى حرب أهلية، وهو حرص وإن بدا من المبكر التعويل عليه، إلا أنه عكس موقفاً متقدماً في مدينة عانى سكانها الأمرين في العقود الماضية نتيجة ممارسات أبناء النظام. وأهمية هذا الاختبار أنه قد يدفع جزءاً من الطائفة العلوية التي يعاني الكثير من أبنائها شظف العيش، للانضمام إلى الاحتجاجات مستقبلا، من دون خوف من انتقام ظل فزاعــــة تخيفهم منذ أحداث الأخوان المسلمين، خصوصاً أن هذه الطائفة قدمت آلاف المعتقلين السياسيين من المعارضين لنظام الرئيس الراحل والحالي.
وليست هذه الآثار الأولية للاحتجاجات السورية هي ما يجب أن يدفع الرئيس السوري وفريقه الحاكم لإعادة النظر في طريقة التعاطي مع هذه الازمة فقط، وإنما التحولات الكبرى التي تشهدها المنطقة، والتي لم تغب عن خطاب الأسد أمام مجلس الشعب حين قال بأنها ‘ستترك تداعياتها على كل المنطقة’. فبعد فترة وجيزة لن تتعدى العام في أسوأ التوقعات، سيجد النظام السوري نفسه محاطاً بديمقراطيات عربية في العراق ولبنان والأراضي الفلسطينية ومصر وتونس وليبيا واليمن وجنوب السودان، وربما ببعض الملكيات الدستورية أيضاً في الكويت والأردن والمغرب والبحرين، وسيكون من الصعوبة بمكان الاستمرار في آليات الحكم الحالية، أو بصيغ التفافية عبر إصدار قانون أحزاب قبل إلغاء المادة الثامنة من الدستور، التي تضع كافة السلطات بيد حزب البعث، أو بإلغاء هذه المادة بالتزامن مع إصدار قانون الأحزاب وإبقاء يد المؤسسة الأمنية فوق الجميع.
هذا عربياً، ولكن أيضاً على نطاق أوسع لا تبدو الصورة أقل سوداوية، فتركيا التي نافست مؤخراً إيران بعلاقتها مع سورية، لم تخف مطالبتها الرئيس الأسد بإجراء إصلاحات تحقق كل ما يطالب به الشعب من مطالب سياسية. وكذا الأمر بالنسبة لفرنسا التي كانت استأنفت علاقاتها مع دمشق مؤخرأً. أما بالنسبة للدول الغربية الفاعلة الأخرى فلا داعي لاستحضار موقفها بهذا الخصوص.
وفي خضم هذا كله يبدو من المهم التذكير بأنه وإن بدا بأن الصور الواردة من المدن السورية تحيل إلى زمن آخر يعود كثيراً للوراء، إلا أن العولمة أدخلت الجميع بمن فيهم الشعب السوري في قلب اللعبة عبر جهاز كمبيوتر وهاتف محمول.
وليس من المتوقع أن ينفع مع هذا الشعب خطاب ‘المؤامرة’ و’الاستهداف’، وإن صح في بعض جزئياته، وذلك بعد أن ثبت عدم نجاعته في ردع الاحتجاجات الحالية. وحتى قول الأسد بأن الهدف هو ‘إضعاف سورية وتفتيتها’ لتزال ‘آخر عقبة من وجه المخطط الإسرائيلي’ قد يرد عليه مواطن سوري من أقاصي الكرة الأرضية عبر الفيس بوك بالتساؤل ‘ماذا لو تطلب إبقاء سورية قوية وعقبة أمام إسرائيل تغيير النظام برمته؟’.
خلاصة القول بأن كل المؤشرات تؤذن بعصر سوري جديد، عاجلاً أم آجلاً، ولا يزال بإمكان الرئيس بشار الأسد أن يكون المبادر في الولوج بشعبه هذا العصر، ولكن بقرارات جريئة تعترف بلحظة تحول داخلي كبرى وبتغييرات خارجية أكبر.
‘ كاتب فلسطيني ـ لندن