حنين إلى أيام الخسارة/ سامر فرنجيّة
أطلقت وفاة الفنانة اللبنانية صباح موجة حنين إلى ماضٍ كان قد ولّى كثيراً من قبل، محوّلاً رحيلها إلى مناسبة «وطنية» لاستذكار ما بات يشبه الجنّة المفقودة، أي لبنان ما قبل الحرب الأهلية وطوائفه وديون الإعمار وفساده والحاضر وقشطته غير المطابقة. ومن وراء وشاح الحنين هذا، ظهرت صباح كرمز لهذه «الحقبة الذهبية» في تاريخ لبنان، حقبة الرقة واللامبالاة والتلاعب مع حداثة عوجاء قد يمثّلها البرنامج الفضائي اللبناني في فشله الجميل.
بعد بضعة أيام على رحيلها، توفي الشاعر سعيد عقل، وترافقت وفاته أيضاً مع موجة أخرى من الحنين، عكّرها بعض من مواقف عقل السياسية القديمة من دون أن يلغيها. فسياسة سعيد عقل، مثل خفة صباح وطموحات لبنان الفضائية وهيمنة موارنته وانعزاليتهم وتقرير الأب لوبريه وتنميته المتوازنة، باتت جميعاً خارج السياسة وحساباتها، ودخلت عالم «النوستالجيا» والحنين إلى حداثة فقدها الحاضر وخفّة تكسر مع سماجته و«هيمنة» باتت مسلية بالمقارنة مع العنف المتلفز وغير المهيمن الذي لحق بها.
هذا الحنين إلى حداثة عوجاء سابقة على محاولات تقويمها القسرية ليس محصوراً بلبنان، بل قد يكون أحد عناوين العلاقة مع الحداثة في المشرق العربي. فبعد فشل ثورات القرن الفائت، عاد الكثيرون إلى عصر «النهضة»، مبدين حنيناً لتلك الحقبة انطلاقاً من حاضر «الردّة» الذي أنتجته ثورات التقويم هذه. ومع العودة إلى «النهضة»، انتشر حنين إلى مشرق ما قبل القوميات ودولها، وقد يكون عـنوانه الأساسي صورة «اليهود العرب»، الذين يتمّ استذكارهم اليوم كرمز لخطيئة ما زالت المنطقة تدفع ثمنها. وإذا كانت «كوزموبوليتية» النهضة غير كافية، فهناك الحنين إلى أيام الإمبراطورية العثمانية، وقد انتشر من خلال مسلسلات تلفزيونية مستوحاة من صور نهضوية عنها ومدعّمة بقرار الحكومة التركية إلغاء تأشيرة الدخول إلى بلادها، وكل هذا أعاد المجد إلى حقبة تاريخية نبذتها أيديولوجيات القرن العشرين. الحنين، بهذا المعنى، هو ثمن المخدوعين بتقويم الحداثة.
… في الأسبوع ذاته لرحيل صباح وسعيد عقل، حدثت وفاة شخص آخر أعاد الماضي إلى الحاضر، ولكن من دون حنين يحيط به. انتحر حسن إسماعيل في خراج بلدة زوطر الشرقية، وهو المناضل الشيوعي والمقاتل في صفوف «جمول». وكان «أبو نبال» من جيل الشيوعيين، الذين ثاروا على هذا العهد الذهبي، ليجدوا أنفسهم منبوذين عندما قُضِي على ذاك العهد. من جيل الثورة إلى جيل الحرب، أو «الجيل المسكوت عنه» كما سمّاه حازم الأمين (ناو ليبانون، 4/12/2004)، طريق من رفض الحداثة العوجاء ومحاولة تقويمها، ولو بالعنف. غير أنّ تقويمها غيّر اللعبة وقوانينها، وترك «التائهين» خارج تاريخهم. ليس من حنين في هذه الرواية، بل مجرّد خسارة وضياع.
فلبنان «العصر الذهبي» يموت وحيداً، ولبنان الثورة عليه يموت انتحاراً. للأول رواية الحنين، أمّا الثاني، فمجرّد خسارة، هذا إنّ لم تكن خدعة للنفس، كما يروي جيل الثورة تجربته.
والخسارة ليس لها مغزى سياسي. فهي مجرّد اعتراف بفشل قد ينظّره البعض قانوناً كونياً ويتركه الآخرون ميزة لمرحلة ولّت. أمّا الحنين أو النوستالجيا، فاعتُبِرت أيضاً غير سياسية، إنْ لم تكن معادية للسياسة. فالنوستالجيا صورة معكوسة عن التأريخ الرسمي للحداثة وغرور حتمية التقدّم، في محافظتها على وجهة التاريخ وعكسها لتقييم هذه الوجهة. هكذا تنتشر النوستالجيا الاجتماعية عادةً عقب تحوّلات عميقة في المجتمعات بوصفها محاولة للتخفيف من وطأة هذه التقلّبات. وقد شكّلت أوروبا الشرقية، مثلاً، أرضاً خصبة للنوستالجيا حيال أيام الاشتراكية، حيث باتت إحدى الطرق للتعبير عن رفض الحاضر الرأسمالي. غير أنّ الحنين غالباً ما يتمّ استيعابه إمّا من خلال شركات تبحث عن تاريخ يشرعن ربحها الحالي أو من خلال جماعات تبحث عن تاريخ يصلّب رواياتها عن ذاتها.
وفي هذا المعنى، ليس من تاريخ لهذا الحاضر، أو بكلام أدّق، ليس من تسييس لتاريخ الحاضر. الحنين هو كل ما تبقى لليبرالي، والخسارة هي قدر اليساري. وعلى رغم محاولات دمج هذين التقليدين السياسيين، بقيت تلك التجارب متمسكة بالبنيان التاريخي للحداثة. ربّما كان دمج كهذا يحتاج اليوم إلى جرعة من المحافظة، وإلى دمج الحنين مع الخسارة بدلاً من تقدّمية الليبرالية واليسارية. ففي وجه حاضر مأزوم ومظلم، قد تكون نوستالجيا الخسارة كل ما تبقى لمنع تحويل الحنين إلى مادة دعائية وتحويل الخسارة إلى رفض للحاضر.
هو حنين إلى «العصر الذهبي» ولتفكيكه في آن واحد، لرحابة هذا العصر في وجه تفكيكه ولحتمية ضياع مشاريع التفكيك تلك. فالحنين للخسارة، في هذا المعنى، حنين لعلاقة مع الخصم تكون ذات معنى واعتراف بأنّ هذا «العدو» جزء من شروط إمكانية الثورة عليه، كما أنّه اعتراف بأنّ الثورة عليه انتحار كان لا بد منه. إنّه محاولة لإعادة إدخال بعض من الدوران في أحادية تاريخ الحداثة.
وقد يكون هذا الكلام مجرّد نوستالجيا لما سبق الحرب الأهلية وأدّى إليها. فكما كتب ميلان كونديرا: «إن غيوم المغيب البرتقالية تضفي على كل شيء ألق الحنين، حتى على المقصلة».
الحياة