حوار بين علماني مؤيد و آخر معارض في سورية
فراس قصاص
إنه حوار حقيقي في بعض فصوله ومتخيل في بعضها الآخر، طرفاه علمانيان سوريان، أولهما مؤيد للنظام السوري وثانيهما كاتب هذه المادة والذي يجهر بمعارضته لهذا النظام منذ ما قبل الثورة. يدور هذا الحوار حور مبررات كل فريق لموقفه من النظام والثورة السورية.
يقول المؤيد :كيف لي ان اقف ضد نظام علماني، وأساهم في دفع البلاد صوب مستقبل تسيطرعليه قوى سلفية ستسلبنا نسقا من الحريات المهمة التي تمتعنا بها أيام النظام الحالي، صحيح أن نظام الرئيس بشار الاسد استحوذ على المجال السياسي وصعد إلى السلطة دون شرعية شعبية وبانقلاب عسكري، إلا أن الشعب السوري تمتع بهامش معقول لممارسة حريات شخصية، هي من الأوسع في المنطقة العربية، حرية ممارسة الطقوس الدينية، حرية إلايمان و عدم الإيمان، حرية تناول المشروبات الروحية، حرية ارتياد الملاهي الليلية، قد ينظر احدهم الى ذلك بازدراء، إلا أنني والكثيرين يرون في ذلك جزء لا يتجزأ من الحرية. ثم لا تنسى أن الفن في سورية قد حقق نهوضا مهما، فعلى حد معرفتي، لم يعاني أي فنان سوري من تبنيه لأي موقف ابداعي أو مدرسة فنية، لم يكن ليتعرض احد له، طالما بقي بعيدا عن محرم السلطة و السياسة، انظر الى الدراما السورية كيف حققت في السنوات الاخيرة قفزة نوعية وتسيدت أو قاربت، الساحة الدرامية في المنطقة. المسيحي في سورية يعيش مطمئنا، وكذلك الدرزي والإسماعيلي والمرشدي، حتى الايزيدي لا يعاني من قمع ديني ذو صبغة مؤسساتية.صحيح أن لبعض العلويين السوريين ميزات ووضع خاص، إلا أن ذلك لا يصل الى حد التمييز الواضح والتحيز اليهم ضد المكونات السورية الأخرى. ثم لا أدري كيف تتجاهل حقيقة مواقف السلطة في سورية الممانعة والداعمة للمقاومة وللحقوق الفلسطينية والعربية، وكيف أن ذلك يجعله نظاما غير مرغوب فيه بالنسبة للغرب وأمريكا وقبلهما اسرائيل، بالتالي ألا يصب هذا في منطقية أن تكون ما تسميه أنت ثورة ليس إلا مؤامرة امريكية واسرائيلية، و إلا كيف تفسر لي الحرص الأمريكي على إدانة النظام وحشد المجتمع الدولي ضده في مجلس الامن واستماتتها في تبني موقف اسرائيل واستخدام حق النقض الفيتو في نفس المجلس. يا صديقي كنا نعيش أمانا قبل هذه الاحداث التي تسمونها ثورة، كنا نأمن على أنفسنا وحياتنا وممتلكاتنا، الآن لا أحد منا يضمن حياته ولا يجرؤ أيا كان على السفر من محافظة الى محافظة اخرى خوفا من قاطعي الطريق وخاطفي البشر الذين يطالبون بفديات مالية باهظة مقابل الافراج عن ضحاياهم.
يرد المعارض: لم يكن نظام الاستبداد في سورية نظاما علمانيا بأي حال، النظام العلماني لا يجذر الطائفية، ولا يوظف التناقضات الدينية والمذهبية خدمة لتسلطه وبقائه، النظام العلماني يدعم التنوير في المجتمع ولا يعمل ضده، ألم يحافظ النظام السوري على الوعي الطائفي وكرس الغيتوات النفسية بين الطوائف السورية بدلا من العمل على حلها، ألم يمنع العمل السياسي والمدني والحقوقي الذي يكسر الحواجز الطائفية بين الناس ويغني المواقف العقلانية لديهم، ألم يوظف العامل الديني حين تحكم به وصنع ولاءات وداعمين له ينطقون وفقا لهواه السلطوي، قل لي من أعاق جدلية صراع الأفكار الاجتماعي السلمي في سورية وبالتالي منع من تحقيق تقدم حقيقي وايجابي في صيرورة الوجود السوري، أليس هو النظام الذي لم يسمح لأي نسق فكري أو سياسي بالتواجد في المجال العام سوى نسقه هو، ألا يخلق الجديد من رحم التلاقح والصراع بين الافكار والمواقف والقراءات المختلفة في المجتمع. النظام السوري أراد أن يحافظ على الشروط القروسطية معرفيا التي انتجت الحالة التي تسيدها هو، فوظف كل الأدوات التي تمتلكها السلطة من نظام تعليمي وتربوي وإعلامي لإنتاج ستاتيكو معرفي ومجتمعي وسياسي أفرز في واقع الأمر مواتا وصمتا وركودا و لم ينتج أمانا و حيوية وحياة سليمة. أما عن الحريات التي صانها النظام، حرية ممارسة الطقوس والشعائر الدينية، الحريات الفنية و الشخصية، فما هو معروف تماما أن كل الأنظمة التي حكمت سورية الحديثة قبل النظام السوري، بل كل الحكومات بمعنى أصح، كانت حامية لهذه الحريات ومدافعة عنها أكثر وأجدى بما لا يقاس من النظام الحالي، ينطبق ذلك على الحريات الفنية والشخصية كما ينطبق على الحريات الدينية، الطقسية منها والشعائرية، نذكر جميعا ويذكر المعنيون بقطاع السينما السورية كيف كان الفن عموما والسينما خصوصا، أكثر تحررا من الرقابة وأكثر تعبيرا عن الحياة وواقع الناس بالقياس الى وضعها الحالي، وضع المرأة أيضا كان أفضل في المراحل السابقة على النظام من عهد الاستبداد الحالي، كانت سائرة على طريق التحرر وتحقيق المساواة وحاضرة في الحياة العامة والفنية والثقافية بشكل أكثر عمقا وأكثر تجسيدا لقضية تمكين المرأة التي عدنا فيها خطوات كثيرة الى الخلف هذه الايام، والدلائل كثيرة.
أما عن تطرقك لوضع المسيحيين في سورية الذي وصفته بالجيد والمصان في حقبة النظام المستبد الحالي أقول: المسيحي لم يكن يعيش أمنا وحسب قبل النظام الحالي، بل كانت علاقته مع المسلم في الاطار المؤسساتي والاجتماعي والعام أكثر غنى وسلامة وتطورا، كذلك كانت علاقة المذاهب الاخرى ببعضها، لم تكن علاقة سليمة بالمعنى الذي نتطلع إليه، لكنها كانت أقرب الى السلامة والإثمار الاجتماعي والسياسي مما هي عليه الان في مرحلة النظام السوري المستبد، حتى علاقة الطائفة العلوية بالسنية في سورية، والتي تضمنت خلاصات عن تماسات تاريخية صراعية عانى منها العلويون في معظم المراحل بوصفهم أقلية، حتى هذه العلاقة كانت في طريقها الى التصحيح تحت سقف الحياة السياسية والثقافية الواعدة ولولا هذا النظام وسياساته الاستبدادية التي وضعت المجال الروحي في خدمة مصالحه و دوام بقائه، لتغير المتخيل الطائفي لدى الجميع، واستبدل بعناصر مدنية للهوية الجماعية على النحو الذي تستحقه بلادنا و انسانها.
عزيزي المؤيد :ليس هناك ثمة مبررات دامغة لمخاوفك عن حدوث سيطرة سلفية متعصبة على البلاد، سورية ليست محكومة بسيناريو تسيطر بموجبه على الحكم قوى سلفية ومتعصبة ولا حتى صيغ أكثر اعتدالا من الاسلام السياسي، سوريا ليست كتونس ولا كمصر وليبيا، فيها من التنوع الديني والمذهبي أولا،والإثني المعبر عنه بابتعاد عن الخلط بين الدين والسياسة ثانيا، ما يمنع وصول نظام ديني متعصب الى سدة الحكم في سورية، وليس عليك النظر إلا الى النسب المئوية للمكونات السورية ومن ثم الى ما يتوقع من ميولها وانجذابها الانتخابي بعد سقوط النظام حتى ينتفي الاحتمال و الهاجس الذي تحدثت عنه.
عن حديثك حول البعد الممانع لسياسة النظام ودعمه للمقاومة أقول: حتى لو أهملنا حقيقة أن الشعب السوري كله كان و لا يزال أكثر التصاقا وحملا للدفاع عن الحقوق العربية من النظام المستبد الحالي، وأن كل حكوماته السابقة كانت أيضا أكثر إيمانا بالمقاومة لإسرائيل وأكثر عملا لها وتأسيسا لإنجاحها، حتى لو أهلمنا كل ذلك، يكفي دحضا للفهم الذي تحدثت عنه، واقع أن هذا النظام استخدم الصراع مع اسرائيل حجة لقتل السياسة وسحق الحياة العامة، ألم يعلن حالة الطوارئ والأحكام العرفية التي رافقت سنين حكمه كلها، فقتل باسمها الحرية والشعور بالكرامة لدى الشعب السوري، ألم يؤدي ذلك في المحصلة الى اضعاف سورية وموقفها في الصراع ضد اسرائيل، بدلا من تصليبه وتعزيزه، السلطة التي تنتهك حرية وكرامة وحقوق شعبها لا يمكنها أبدا، أن تنجح في أي صراع خارجي صعب، كالصراع مع اسرائيل، وفشل النظام السوري في ذلك الصراع لا يحتاج الى اثبات مع بقاء الجولان السوري محتلا حتى هذه اللحظة، ذلك الفشل الذي تحوله آلاته الاعلامية المضللة الى انتصار وصمود اسطوري فقط حتى يبعد النظرعن تهافت شرعيته المرتبطة بموضوع المقاومة التي روج لها دائما، قبل ان تسقط بشكل مدوي عندما استدار ليقتل شعبه بدلا من محاربة اسرائيل.
بقي أن أقول حول هذه النقطة : إن الربيع العربي طال نظما صديقة وغير صديقة لأمريكا، دولا ذات علاقات مع اسرائيل وأخرى لا تربطها بها علاقات، ثورات الربيع العربي جاءت استجابة طبيعية لتغير المحتوى المادي والتقني للواقع الذي يتطلب تغييرا في المحتوى السياسي والثقافي والفكري والقيمي بشكل يستحيل معه بقاء انظمة قمعية واستبدادية مطلقة ومغلقة على هذه الشاكلة الموجودة في المنطقة، سقوط النظامين التونسي الصديق لأمريكا و المعتدل جدا بالنسبة لإسرائيل وسقوط النظام المصري الحليف الاستراتيجي للولايات المتحدة والذي تربطه استثناءا عن الدول العربية علاقات ومعاهدة سلام مع اسرائيل، كل ذلك ينفي نظرية المؤامرة الاسرائيلية الامريكية على النظام في سورية، بل لعل وربما أهم اسباب عدم الحسم الذي اظهرته الولايات المتحدة إزاء النظام السوري يكمن في بقاء اسرائيل على الحياد في موضوع النظام والموقف منه إن لم نقل منحازة له بشكل ضمني، و إلا لتحرك اللوبي الاسرائيلي في امريكا وضغط على الادراة الامريكية لجهة أخذ موقف حاسم منه، وكلنا يعرف كم هو مؤثر موقف هذا اللوبي على القرار الامريكي، الذي لو تحرك لمصلحة اسقاط النظام مرافقا لسياسة اسرائيلية داعمة استراتيجيا لهذا الخيار على المستوى الدولي، لسقط منذ اشهر طويلة، من مصلحة اسرائيل استمرار الوضع الحالي على ما هو علي، و عدم القيام بأي عمل من شأنه انهاء حالة النظام السوري، فتحول الاوضاع في سورية الى صراع أهلي وطائفي، الحاصل شيئا فشيئا الان، يصب في مصلحتها، إسرائيل ليست متحمسة بالتأكيد لدولة ديمقراطية تحفظ كرامة شعبها وتنتصر لإرادته وتعكسها في سياستها الخارجية و الاستراتيجية. مثل هذه الدولة ستشكل خطرا حقيقيا على اسرائيل و مستقبل احتلالها للأراضي العربية.
أخيرا لم يكن الشعب السوري يعيش أمنا حقيقيا في ظل هذا النظام، بل كان يخبئ احتقانا ويعاني من ضغوط قمعية واستبدادية لا بد ستفجر حياته ووضعه يوما ما، ومع ذلك لم يطل ذلك الانفجار المتوقع حصوله مع اشتعال الثورة سوى عالم الخوف الذي شيده النظام في سورية، قاوم المجتمع السوري الثائر لأشهر طويلة الآثار التي تركها الاستبداد على شخصيته، تجنب العنف و رفع شعارات وطنية تطغى عليها الرغبة في التأسيس لدولة المواطنة والمساواة والحياة المشتركة والكرامة وانطلق المجتمع مسالما يؤسس ويطالب بحريته، إلى أن أدخل النظام سورية المرحلة الخطرة التي تعيشها الآن، باستخدامه العنف وقتله للثوار السلميين، الامر الذي اضطر الشعب الى تبني خيار المقاومة العنفية دفاعا مشروعا عن النفس في مواجهة نظام يستهدف حريته ويمعن فيه القتل و المجازر، أما عن الصراعات والاخطاء والاقتتال و شيوع حالات من الاختطاف التي تحدثت عنها، فذلك لا يمت للخط الواضح للثورة بصلة ولا ينتج عن سياسات المعارضة والقوى الداعمة للشعب بأي حال من الاحوال، إن هذا النوع من التعرج و الالتواء و العنف الذي يقع في سورية ولا ينتمي الى روح الثورة هو أمر طبيعي و قد حصل أكثر منه سوءا في كل المنعطفات التاريخية التي مرت بها المجتمعات الانسانية، إذ ليست للثورات على الحقيقة، الثورة السورية وسواها،صورة مثالية، ليست ثمة ثورة مثالية أبدا، لم تكن كذلك الثورة الفرنسية ولم تكن كذلك كل ثورات التاريخ.
إن ما تعيشه سورية الان هو صخب الحياة ومخاض الولادة العسير للحرية وما كانت تعيشه قبل الثورة ليس إلا صمت القبور وأسن المستنقعات، وليس علينا إن كنا علمانيين حقا ومؤمنين بالإنسان وحقوقه وحريته وحياته كمركز لعلمانيتنا إلا أن ننتصر للثورة و نؤيدها.
كاتب و ناشط سوري
ايلاف