حوار مزعوم.. رصاص، وفطر مسموم
ثائر موسى
في مطلع الثمانينات من القرن الماضي نشأت نقابة التضامن في جمهورية بولونيا الشعبية، وعلى رأس تلك النقابة، وقف ليخ فاونسا ليقود مع آخرين من المعارضين البولون معركة تحرر بلاده من سيطرة النظام الشيوعي الذي كان رابضا على صدور الناس منذ أربعين عاما.. في ذلك الوقت كان حزب العمال البولوني الموحد، وبحسب الدستور، هو الحزب القائد للدولة والمجتمع.. وهكذا حرصا من الحزب على “الأمان والسلم الأهلي”، فقد صدرت الأوامر بنزول الجيش البولوني إلى الشوارع، حيث سيطرت الدبابات على المدن، وتم إعتقال ليخ فاونسا والقيادات الأخرى لنقابة التضامن.. ورغم كل القسوة التي مارسها الجيش والأجهزة الأمنية، فإن النظام فشل في القضاء على المعارضة البولونية، وإضطر في النهاية لإخلاء سبيل فاونسا ورفاقه، لتعود المعارضة أقوى مما كانت، ولتبدأ رحلة النظام نحو النهاية، حيث أخذ يتداعى تحت ضغط الشارع الشعبي، الذي قرر ألا يتوقف بعد ذلك حتى إنهاء النظام…..
في تلك العاصفة من الأحداث المصيرية، راجت في بولونيا طرفة ترددت في كل أنحاء البلاد، وغدت مادة للضحك في البيوت البولونية وخارجها، وهكذا فقد وصلت هذه الطرفة في إنتشارها إلى المعهد العالي للسينما والتلفزيون حيث كنت أدرس الإخراج السينمائي.. وتقول الحكاية أنه، وأمام فشل كل إجراءات حزب العمال البولوني الموحد في مواجهة الحراك الشعبي، فإن الرفاق السوفييت في حزبهم الشيوعي، والذي كان مسيطرا على كل الأحزاب الحاكمة في دول المعسكر الشيوعي، إقترحوا على الرفاق البولون إرسال وفد من المعارضة إلى موسكو لإجراء حوار معهم، وذلك على أمل أن يتمكن الآباء الروحيون السوفييت من إقناع هؤلاء المعارضين بالتخفيف عن الإخوة الطيبين من حزب العمال البولوني الموحد.. وكان الأمر، فقد سافر وفد المعارضة البولونية إلى موسكو، وخلال عدة أيام أجريت ” حوارات بناءة ” معهم، ليعود بعدها الوفد المؤلف من ثلاثة أشخاص إلى بولونيا، لكن الملفت للنظر أنهم عادوا في ثلاثة توابيت ؟؟!!! وحين فتح التابوت الأول كان هناك جثمان المعارض الميت ومعه ورقة كتب عليها: بعد سلسلة من الحوارات البناءة، وتبادل وجهات النظر في جو من الإحسساس العالي بالمسؤولية، فقد قام هذا الضيف بنزهة إلى الغابة التي كانت مليئة بالفطر الشهي، وحين أكل الفطر، تبين لسوء حظه أنه كان ساما، فمات .. وحين فتح التابوت الثاني تكررت نفس القصة عل الورقة المصاحبة للجثمان حيث كتب عليها: ذهب إلى الغابة.. أكل الفطر، فتسمم.. ومع فتح التابوت الثالث لاحظ الحاضرون وجود ثقب في جبهة الميت، وكأن رصاصة قد دخلت لتخترق الجمجمة وتخرج من الجهة الخلفية للرأس ؟؟!!! وهناك أيضا وجدت ورقة كتب عليها: ضيفنا هذا رفض أن يأكل الفطر؟
أتذكر اليوم تلك الطرفة في وقت تطرح فيه مسألة الحوار بين السلطة والمعارضة في سوريا.. حوار بات مطلوبا في وقت يبدو فيه ألا أحد من الطرفين قادر على حسم الأمر لمصلحته.. حوار يصبح ملحا لوقف ذلك النزيف المؤلم للدماء السورية من مدنيين وعسكريين.. لكن هنا لابد من القول أن المبادرة تبقى في يد السلطة، وذلك من حيث ضرورة الإعتراف بوجود حراك شعبي سلمي يشكل الطرف الآخر للحوار.. حراك لأبناء البلد، أهلنا وإخوتنا، فهم ليسوا دعاة فتنة، ولابيادق في مؤامرة.. هم سوريون حريصون على الوطن، يريدون لبلادهم أن تدخل في عصر جديد من نمط الدولة، حيث يسود القانون، ويتم تداول السلطة في إحتكام لصناديق الإقتراع، فمن هو اليوم في السلطة يصبح غدا في المعارضة، ومن لديه اليوم تفويض من الشعب، يعرف أن خدمة الوطن وتحسين معيشة المواطنين، هي الغاية الأساس لكل حكومة، وأن الفشل في ذلك يعني خسارة الإنتخابات ومجيء آخرين إلى سدة الحكم .. بهذه الروح على السلطة اليوم حوار معارضيها، وأي روح أخرى إقصائية كانت أم تخوينية، ستعيدنا إلى ذكرى أولئك المعارضين البولون في حوارهم مع خلفاء الزمن الستاليني ، ذلك الحوار المزعوم، حيث الرصاص والفطر المسموم
السوري حتى العظم
ثائر موسى