حوار مع ياسين الحاج صالح: الثورة السورية إلى أين؟
أسئلة ريتا فرج
1. كيف تقرأ الانشقاقات السياسية والعسكرية عن النظام السوري؟ وهل النظام قادر على الصمود أم أنه بات عرضة للانهيار التدريجي؟
الانشقاقات أصابت “الدولة الظاهرة” (الحكومة والجيش العام والإدارة والتمثيل الخارجي…)، أما “الدولة الباطنة” أو “النظام”، فيبدو أنها تتصلب وتمعن في القتل على ما يشهد ارتفاع عدد الضحايا اليومي منذ أوساط تموز الفائت إلى ما فوق المائة وخمسين يوميا. في المآل الأقصى يمكن تصور انهيار تام للدولة، مع تصلب أقصى للنظام وتحوله إلى مفرزة مسلحة قاتلة، مكونة من الأسرة الأسدية وكبار القتلة في أجهزة الأمن والشبيحة. وفي مآل بعد أقصى قد ينفتح هذا الاحتمال على شق البلد ذاته. أعتقد أن هذا الاحتمال الأخير مكتوب في تكوين النظام الأسدي، وقد قام دوما على شق المجتمع السوري كنهج ثابت من أجل التحكم فيه. ويتحقق هذا الاحتمال إذا أيقن النظام بأنه لا يستطيع الاحتفاظ بسورية كلها قاعدة لحكمه.
2. النظام يسير في الخيار الأمني حتى النهاية، ويبدو أنه لن يتراجع عن خياره إلاّ إذا توقف العمل العسكري من قبل الجانبين، أي الجيش النظامي والمعارضة العسكرية كما أعلن علي حيدر. إلى أين تتجه الأزمة السورية وسط تصاعد المخاوف من عسكرة الثورة من جهة وإبقاء النظام على خياره الأمني من جهة أخرى؟
قبل الثورة كان “الأمن” هو سياسة النظام حيال جميع أشكال الاعتراض الداخلي. منذ وقت مبكر من بداية الثورة، لم يعد يصح الكلام على خيار أمني من جهة النظام، بل هو أقرب إلى تستر عليه. الصحيح هو الكلام على حرب إجرامية، اختيارية كليا، من طرف النظام على السوريين الثائرين. المقاومة المسلحة نجمت عن هذا الشرط. حين تخوض حربا من طرف واحد، فإنك لن تتأخر في صنع طرف آخر محارب. لكن بعد نحو عام ونصف من الحرب الأسدية، هناك طرف واحد يرتكب المجازر، وطرف واحد يستخدم المدافع والدبابات والصواريخ والطائرات الحربية في قصف المدن والبلدات، طرف واحد قتل نحو ألفين امرأة وطفلة، طرف واحد يقوم بعمليات إعدام ميدانية. وهذا الطرف هو النظام الأسدي.
ورأيي أن إمعان النظام في الحرب في طول سورية وعرضها وطوال عام ونصف يتجاوز كثيرا قدراته، وأنا على يقين من مشاركة روسية وإيرانية في التخطيط والسلاح، والخبراء. وهو ما يعني أن الشعب السوري يواجه دولا وتنظيمات، وليس النظام الأسدي وحده.
ولذلك أرى أن “الأزمة السورية” مستمرة ومفتوحة على واحدة من ثلاث نهايات: أن يسحق النظام الأسدي الإيراني الروسي الثورة، وهذا مستبعد؛ أو أن تكف إيران وروسيا وأتباعهما أيديهما عن الثورة السورية وسيسقط النظام في وقت قصير؛ أو أن يقع تدخل دولي يعدل من تأثير الثالوث الأسدي الإيراني الروسي، هذا يخلصنا من النظام ويفتح الباب لمشكلات من نوع مختلف.
لكن قد يطول الأجل إلى حين وقوع واحدة من هذه النهايات، وخلال ذلك سيمضي النظام دون أدنى ريب في قتل السوريين وتدمير البلد، مطبقا شعاره العدمي: الأسد أو نحرق البلد!
3. كيف تقارب تعاطي المعارضة السورية (هيئة التنسيق والمجلس الوطني السوري) مع الأزمة السورية تحديداً بعد التوقيع على وثيقة العهد الوطني المشتركة في القاهرة؟ وهل استطاعت هذه الوثيقة الحد من بعض التباينات داخل صفوف المعارضة؟
في سورية ثورة. لا بأس بالتكلم على أزمة سورية للإشارة إلى الأوضاع السياسية والإنسانية الحرجة المترتبة على حرب النظام على الثورة، لكن ليس كبديل عن الثورة ذاتها كتسمية لجملة أشكال المقاومة الشعبية للنظام الأسدي.
هيئة التنسيق أصدرت مؤخرا مبادرة تتكلم على طرفين مسلحين، وتدعوهما إلى “هدنة مؤقته” بينهما (ربما عليهما معا التوقف عن استخدام طائراتهما ودباباتهما وصواريخهما، وتحريك أسلحتهما الكيميائية في وجه بعضهما!)، يطلقان خلالها “سراح جميع المعتقلين والأسرى والمخطوفين” لديهما، ويسمحان “لهيئات الإغاثة بإيصال المعونات الغذائية والطبية…”، فإذا التزم “الأطراف” بمبادرة اللا طرف الذي هو الهيئة، وليس واضحا لماذا قد يلتزم أي كان بها، “يكون المناخ قد توفر لإطلاق عملية سياسية تقوم على التفاوض بين قوى المعارضة وبين وفد من النظام يملك صلاحيات تفاوضية مطلقة يضم شخصيات لم تتلوث أيديها بالدماء”. هنا أيضا ليس واضحا إن كانت الهيئة التي تضع نفسه خارج الطرفين من “قوى المعارضة” التي ستفاوض وفد النظام، وبأي صفة ستفاوض ما دامت ليس طرفا بين الأطراف، وأصلا لماذا لا يتفاوض الطرفان مباشرة، وما حاجتهما لمفاوضين خارجيين أو لمبادراتهم أصلا. وقد قال كثيرون إن هذه المبادرة تراجع عن مقررات مؤتمر القاهرة. هذا صحيح، لكن لا يعقل أن يكون قد فات اللاطرف المبادر، أو بالأحرى بعض كوادره الذين تقدموا بالمبادرة دون نقاش داخلي ودون انعقاد مجلس وطني للهيئة. ربما هناك قطبة مخفية في أمر هذه المبادرة الخرقاء، لعلها مطلوبة من جهة ما.
ورأيي أنه ما من شيء يحد من التباينات داخل المعارضة القديمة، ولا لزوم للحد منها أصلا. ما يلزم هو بالعكس إظهارها. في سورية ثورة واضحة، وهي لا تحتاج إلى معارضة غامضة لتمثيلها. هذا ينطبق على كثيرين في المجلس الوطني وغيره أيضا.
4. ثمة تقارير تشير إلى دخول عناصر القاعدة إلى سورية، وقد نفى الجيش السوري الحر ذلك أكثر من مرة. هل هناك دور للقاعدة في سورية، وإذا توافر هذا الدور من هي الجهات التي تستفيد منها وسط الحديث عن دخول حركات سلفية/ جهادية على خط الصراع العسكري؟
هناك بالفعل معلومات ومتواترة ولا جدال في صحتها بوجود مجموعات من القاعدة في أكثر من منطقة في البلد. لكن مقاربة الثورة السورية من هذه الزاوية على ما تفعل جهات غربية، والنظام و”معارضين” يشبهونه ويسيرون في ركابه، مقاربة مضللة ومشوهة إلى أقصى حد.
لدينا ثورة شعبية، تنمو على جوانبها، وبفضل وحشية النظام وافتقار السوريين إلى أصدقاء، تشكيلات عدمية. وأخشى أنه كلما طال الأمد بمحنة الشعب السوري تولدت مقادير أكبر عناصر “المركب العدمي”، أي كل من سحب الثقة من العالم، والركون إلى العنف، والتدين الانعزالي المتشدد، وزادت فرص أن تلتقي هذه العناصر لنحصل على مجموعات سلفية (= تدين متشدد + نفي للعالم المعاصر) جهادية (= تدين + قتال). وبالفعل تشير تحقيقات ميدانية أجراها حازم الأمين، الصحفي والكاتب الخبير بالحركات بالحركات الإسلامية، في مناطق إدلب ونشرت مؤخرا في جريدة “الحياة”، إلى وجود مجموعات سلفية محلية تقاتل النظام، لكنها ليست من نموذج القاعدة. يتعلق الأمر في تقديري بمقاومة مسلحة على أرضية دينية، تغذيها وحشية النظام وطائفيته.
المشكلة أن الظروف تزداد تهيؤا إلى التقاء التوليد الداخلي للجهاديين بمجموعات جهادية دولية، أمرها مريب، وبعضها مخترق من قبل النظام السوري. إن كان لسورية أن تتجنب هذه الاحتمالات فالوصفة معلومة: سقوط قريب للنظام، وتخلص السوريين من شرط المجتمع المعنّف.
5. يكثر الحديث عن المرحلة الانتقالية في سورية وعن ضرورة تشكيل حكومة انتقالية. برأيك من هي القوى التي يجب أن تتمثل في الحكومة الانتقالية؟
أفترض أن لهذه الحكومة قضيتان: دفع الثورة إلى الأمام والعمل بكل الطرق على إسقاط النظام، ثم توفير ما يستطاع من موارد ومؤهلات للسوريين في المناطق المحررة. وهذا يقتضي أن تتشكل الحكومة من أشخاص مشاركين في الثورة، على أن يتحلوا بالكفاءة وحسن السمعة والإخلاص في العمل. ولا بد من وجود بعض الكفاءات السياسية، وتمثيل للمقاتلين من الجيش الحر، وتمثيل للثائرين على الأرض والتنسيقيات.
الحكومة الانتقالية انتقالية، ولايتها جزئية ومؤقتة. فإذا تشكلت اليوم كان لا بأس في أن يجري توسيعها بمجرد سقوط النظام، أو تشكيل حكومة مؤقتة جديدة تتولى تصريف الأمور وتمثيل البلد لعام أو نحوه إلى حين تجري انتخابات حرة.
6. هل تتخوفون من دور سياسي لبعض الكوادر العسكرية المنشقة عن النظام في سورية المستقبل؟
أنا صاحب رأي، ولست ناطقا باسم أي هيئة أو جماعة. لذلك لا “نتخوف”.
ورأيي أن كل المنشقين مرحب بهم، عسكريين كانوا أم سياسيين. لكن بعض العسكريين يقاتلون في صفوف الثورة، وقد يقتلون في أي حين. وهؤلاء جزء صميم من حركة الثورة السورية وقواها. أما العسكريون الذين يلجؤون هنا وهناك، والسياسيون، فلا أرى وجها عادلا لإشغال أي منهم مواقع قيادية في سورية المستقبل. وعلى كل حال لا يبدو أن أحدا منهم بتمتع بكفاءات خاصة أو مميزة، عسكرية أو سياسية أو مهنية، أو أن له وزنا اجتماعيا. رجال الحكم البعثي الأسدي السابقين ينبغي أن تطوى صفحتهم مع انطواء الحكم البعثي الأسدي. يشكرون على انشقاقهم، لكن هذا كل شيء.
لكن لا ريب أنه سيكون للعسكريين المقاتلين دور في الحياة العامة في سورية ما بعد الأسدية يتناسب مع دورهم في إسقاط النظام. وكلما طال أمد المواجهة وزادت عنفا نما معها وزن العسكريين. هذا مؤسف، لكن فرصة الحد منه ضعيفة طالما استمر النظام في حربه وعسكرة التعامل مع الثورة. وهو مستمر دون ريب.
7. ما هي أهم الخطوات التي يجب أن تتخذها المعارضة لتدشين المرحلة الانتقالية بشكل هادئ؟
ليس هناك أية خطوات مهمة أو غير مهمة من قبل المعارضة “لتدشين المرحلة الانتقالية بشكل هادئ” قبل سقوط النظام. اليوم لدى المعارضة قضية واحدة تنكب عليها: إسقاط النظام، والانخراط في الثورة لتحقيق هذا الهدف في أقرب وقت. من ليست قضيته كذلك ليس معارضا بكل بساطة. اليوم إما إن يكون المعارض ثوريا أو لا يكون.
أما بعد سقوط النظام فأمام سورية سنوات شاقة كل المشقة وملفات شديد التعقيد: عودة النازحين والمهجرين، ضبط السلاح، إعادة الإعمار، ترميم الرابطة الوطنية، وفوق كل هذا الحفاظ على وحدة البلد. لا أعرف متى وفي أية شروط سنتخلص من النظام. هذه الشروط تحدد ما ينبغي فعله أمام جيل السياسيين الجديد.
8. يرى البعض أن سورية معرضة لفوضى أمنية بعد سقوط النظام بسبب انتشار الأسلحة وعدم قدرة المعارضة السياسية ضبط الأوضاع على الأرض. ما رأيك في ذلك.
هذا مرجح جدا لبعض الوقت بعد سقوط النظام. لكن دعكِ من المعارضة التقليدية. حين تفكرين في الأوضاع السورية من زاوية نظر المعارضة التقليدية التي ترينها في وسائل الإعلام والأسماء التي لا تغيب عن مؤتمرات تنسى في اليوم التالي لانعقادها، فإنك تكونين أسوأ فكرة ممكنة عن سورية اليوم وفي المستقبل.
مرة أخرى كل شيء يتحدد بكيفية التخلص من النظام ومتى سيحصل ذلك، اليوم أو في وقت قريب أو ربما بعد شهور طويلة إضافية من القتل والدمار. كلما طال الأمد حتى السقوط كان الوضع أصعب بعده.
9. كيف تقرأ الدور التركي في ظل الصراع الإيراني _ التركي على إدارة الأزمة السورية؟
من وجهة نظر مصالحها الوطنية التركية، يبدو لي أن تركيا تصرفت كدولة ناضجة ومسؤولة. لكن من وجهة نظر المصلحة الوطنية السورية أعطى الأتراك غير مرة انطباعات مضللة ومبالغا فيها حول دعمهم للشعب السوري، وكانت الحصيلة محدودة جدا.
أظن أن لدى الأتراك شعور عميق بعدم الأمان، موروث ربما عن سقوط وتقاسم الامبراطورية العثمانية. ومنذ استطاعت صون كيانها في نهاية الحرب العالمية الأولى، وتجنبت أن تزج في الحرب العالمية الثانية، تتصرف تركيا بحذر في النطاق الإقليمي. ولم يخفف من ذلك عضوية تركيا في الناتو، وسعيها المستمر للانضمام للاتحاد الأوربي. وهو ما عكسته نظرية صفر من المشكلات لوزير خارجيتها أحمد داود أوغلو. النظرية فاشلة في مجال إقليمي مضطرب مثل “الشرق الأوسط”، لكنها مؤشر على تطلعات السياسة التركية. ولا ريب أن وجود دولة إيرانية قوية نسبيا وعدوانية يزيد من وساوس الأتراك وتردداتهم.
لكن تركيا أيضا طرف من طيف دولي، سمى نفسه “أصدقاء الشعب السوري”، وهو يسجل على نفسه تراجعا غريبا أمام حلفاء النظام، الروس والإيرانيين بخاصة، ويبدو لي أن المستفيد الأكبر من هذا الوضع هو… الصين.
الراي