صفحات الحوار

آرام كره بيت يروي الجحيم التي عاشها في السجون السورية

حميد زناز

آرام كارابيت مهندس سوري كان يعمل في مدينة الحسكة ويناضل سلميا في منظمة يسارية تدعو إلى تغيير ديموقراطي في سوريا. ألقي عليه القبض في 24 تشرين الأول 1987 واحتجز في مركز الأمن السياسي بالقامشلي بمعية مناضلين آخرين بتهمة التآمر على قلب نظام الحكم بالقوة. في كتابه “الرحيل إلى المجهول” الذي صدرت ترجمته الفرنسية تحت عنوان “13 عاما في السجون السورية”، يروي آرام رحلته في متاهات السجون السورية وجحيمها. بطيبة الرجال الكبار وتواضعهم، أجاب عن أسئلتنا.

– تصف في كتابك مشاهد تعذيب وقهر يقشعر لها بدن القارئ. كيف استطاع النظام أن يحوّل البعض جلاّدين يرتكبون الأفعال الوحشية بكل عفوية؟

– مارس نظام حافظ الأسد التعذيب الممنهج طوال مدة حكمه ووجوده في السلطة. كل سلطة غير متجذرة سياسياً واجتماعيًا في البنية الاجتماعية تلجأ إلى أقسى أنواع التعذيب لتكريس سيطرتها على المجتمع. في العام 1997 كنت في مهجع يقال له المهجع الثالث، الباحة الثالثة. كان يوجد في الباحة قالب حديد مثل قالب الحذاء يتم تدريب المجندين الجدد على التعذيب من خلاله. هذا القالب على مقاس القدم، يبدأ الضرب عليه إلى أن يتقن المجند الجديد فن التعذيب بشكل كامل. التدجين يبدأ بمرحلة مبكرة، في فترة الطفولة، عبر “طلائع البعث”، يزرعون في عقول الطفل حب الرئيس ومدح صفاته الشخصية والوطنية، وعندما يشب تتلقفه “شبيبة البعث”، وكل الافكار تتمحور حول الرئيس وقيادته الحكيمة. عندما يصبح مجندًا يكون الشاب قد امتلأ بالديماغوجيا والكذب والتشوّه النفسي والعقلي والإنساني. مرات كثيرة، كنت اسمع بعض السجانين الشباب، يرجو الرقيب أن يدخل المهجع ويعذب أحد السجناء، ليس مهما سين أو عين، المهم أن يفرغ الحمولة، أو الشحن الذي خزّنه منذ زمن طويل في جسد السجين السياسي المقهور.

– كيف كانت العلاقة بين الاسلاميين واليساريين في تلك الظروف العصيبة؟

– في سجن تدمر العسكري جرى تقسيم السجن باحات منفصلة بعضها عن البعض الآخر، كل باحة تتألف من مهاجع، وعدد النزلاء يختلف من زمن إلى آخر، بحسب درجة القمع والحركة السياسية للمجتمع. في الثمانينات كان السجن مملوءًا، كل مهجع فيه أكثر من مئتين. البعض يسجل دوراً للدخول إلى الحمام وينتظر ثماني ساعات ليقضي حاجته، الكثير اختنق من الحرارة الزائدة وخصوصاً أولئك الذين يعانون من مرض الربو أو مشكلات في التنفس. كل عشرة اشخاص يأكلون بيضة واحدة، برتقالة واحدة. كثرت أمراض السل، السرطان، السكري وغيرها. جرت تصفية ألف سجين بإعدامهم في يوم واحد، وكان يتم إعدام الكثير كل يوم اربعاء طوال 12 سنة. من أجل بقاء السلطة خسرت سوريا الكثير الكثير. لا يمكن في هذه العجالة ان اسرد كل شيء.

في سجن تدمر العلاقة بين اليسار واليمين مقطوعة تمامًا. كل مهجع له معاملة، في أسلوب التعذيب، والأكل. اليسار لم يحمل السلاح، لذا فإن معاملته كانت أقل قسوة من “الأخوان المسلمين” والبعث العراقي. لم يكن بيننا وبينهم اي احتكاك في هذا السجن القاتل. معاملة اليمين كانت في منتهى القسوة. عندما تفتح الشرطة الأبواب لتقديم الفطور، يطلب الرقيب المشرف أن يخرج “المعلمون”. في السجن فتحة في السقف يطل الشرطي على داخل المهجع من خلالها، يراقب السجناء. الجميع يطمشون عيونهم وينامون على صفحة واحدة، لا يسمح لهم بالحركة أو الخروج إلى المرحاض، ومن خلال هذه الفتحة التي تدعى الشراقة يختار الشرطي سجينا او اثنين او ثلاثة، يقول لهم “أنتم معلمين”. في الصباح يطلبهم. عندما يخرج السجين يغلق الباب وراءه، يصبح مادة أو عجينة بيدهم، يبطحونه على الأرض، ويرفعون قدميه إلى الأعلى، يتم ضربه في الحد الأدنى مئة وخمسين كابلاً. أما احد الاعلى فليس له سقف. ربما خمسمئة، واحيانًا أكثر، بحسب تقدير الرقيب المشرف. أما اليسار فالتعذيب في حدود عشرة في المئة من تعذيب اليمين.

– بينما كنت أقلب تلك الصفحات المعبأة بالتعذيب الجسدي والنفسي والجو المرعب الذي كنتم تعيشونه، كنت أتمنى أن توقّع تلك الوثيقة اللعينة وتخرج من جهنم لكنك لم تفعل؟

– الجنون جزء من لعبة الأقدار، هذا ما اذكر أنني كتبته في كتابي في الحسابات العادية، الربح والخسارة، كان يجب ان أوقّع واخرج من السجن واكسب تسعة اعوام من عمري، وارتاح من التعذيب الممنهج. لكني اخترت الاصعب، فلم اوقّع. عندما استدعاني الضباط الأربعة برتبة عمداء في غرفة، قالوا لي: السيد الرئيس اصدر مرسوم عفو عنك، بيد أنك يجب ان توقع وتحمل ثيابك وتخرج من السجن. قلت ما هو الذي سأوقعه؟ قال كبيرهم، أن تترك الحزب، والعمل السياسي، وتتعاون مع شرطة الأمن السياسي، وتراجعهم كل عشرة أيام. قلت لهم، لا أوقّع. ولن اتحول من صاحب حق إلى مدان. قالوا: أنت لست مدانًا، إنه مجرد توقيع بسيط. قلت إذا كان كذلك فدعوني اذهب بدون توقيع. قالوا لا. إما أن توقّع وإما أن تبقى. قلت سأبقى. وبقيت في السجن من 1991 إلى 2000. خرجت عندما مات حافظ الاسد. لقد مارست اقتناعاتي، وعشتها، ولم أندم اليوم على يوم واحد أمضيته في السجن. غمرني الفرح عندما نزل شعبنا إلى الشارع يطالب بحريته، وانكشف هذا النظام القاتل على ابشع صورة له. وعرف الجميع ما قاسيناه.

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى