حياة في الفنادق/ بشير البكر
حين سكنت في بيتي الجديد لم أكترث في الأيام الأولى أنني أصبحت جاراً لأحد الفنادق، ولكن مع مرور الأيام بدأت المسألة تشغل بالي، ذلك أني كلما تحركت في المساحة الصغيرة وجدت نظري يتجه نحو باب الفندق ونوافذ غرفه التي تطل باتجاه شرفتي. يوماً بعد آخر صارت تردني خواطر محورها حياة الفنادق، وذات أمسية باهتة حاولت أن أستعيد بعض ذكرياتي في الفنادق، فوجدت أن لدي حصيلة هامة تخولني وضع كتاب حول الأمر، وسرعان ما استهوتني الفكرة التي يحتاج تحقيقها إلى إمكانات ووقت، لأن وضع كتاب من دون القيام برحلة معاكسة الآن سيظل ناقصا، وما يجعل الحكاية مثيرة هو أن أرجع لأزور فنادق سكنت فيها، والتي يقع بعضها في بلدان بعيدة لم أزرها منذ زمن طويل.
حين كنت أفاوض على الانتقال إلى هذا البيت، لم أفكر إطلاقاً بما يمكن أن يشكله لي مستقبلا أمر السكن إلى جوار فندق، ولم يخطر في بالي أني سأتوقف ذات يوم لأطرح على نفسي سؤالا حول تداعيات السكن بجوار فندق، فقد كان الأمر في تلك اللحظة ضربا من الترف، ولاسيما أنني أعتبرت البيت الذي استأجرته حين وصلت الى لندن مكانا مؤقتا، وكنت بحاجة إلى تغييره، لكن هذه الإقامة المؤقتة تحولت من لعبة ممتعة في أشهرها الأولى، كونها تشبه الحياة في فندق، إلى كابوس بعد أن تجاوزت السنة وصارت تتمدد لتلامس العام الثاني. وكلما اقتربت من إكمال السنة الثانية بدأ الوقت يتباطأ ويغدو ثقيلا. صار يعتريني هاجس بضرورة الهرب من هذا السكن بأي ثمن، ومن بين الأسباب في عدم حصول ألفة بيني وبين هذا المكان، أن مصادفة غريبة حصلت بعد قرابة شهرين من سكني في هذا البيت، وتمثلت بانتقال مقر العمل إلى عمارة تقع قبالة هذا البيت، وهذا أمر في حد ذاته حدّ من حركتي وقيدني ضمن مساحة صغيرة جدا، فلا أستقل وسائل مواصلات، ولا أفكر بأحوال الطقس، وشيئا فشيئا اختلطت حياتي الشخصية بالعمل، ولم يعد لي سوى الواجبات التي تنحصر في العمل والنوم، وسقطت من يومياتي
” الطقوس الصباحية التي عودت نفسي عليها منذ زمن طويل بالإدمان على المشي عدة كيلومترات يوميا قبل الذهاب إلى العمل، مهما كانت أحوال الطقس. وهذه الطقوس هي مصدر خزان ذاكرتي من صور حول المكان وسكانه، ومع اختفائها من برنامجي الصباحي صرت أتضايق يوما بعد آخر من سكني، أنا الذي كان المكان الجديد يمنحني مخيلة جديدة، غدوت في سكني هذا أحس وكأني بلا مخيلة أو أنى فقدت الدهشة، والسبب واضح وهو أنى كنت أتحرك ضمن دائرة لا يتجاوز قطرها نصف كيلومتر، وبالتالي صرت أسير المشهد والحيز المكاني الذي لا يتغير، وأصبحت كالساكن الذي اعتاد الحي منذ زمن بعيد إلى حد لا يبعث على الكشف والفضول. قد تكون رؤية الأمر على هذا النحو نابعة من متطلبات شخصية تجاه السكن ذاته بعد أن سافرت كثيرا وغيرت بيوتا عديدة، لكن إحساسي بأني أعيش في سكن مؤقت يشبه فندقا لم يفارقني منذ البداية، من دون الامتيازات التي يوفرها الفندق من خدمات يومية كالتنظيف ووجبة الفطور والجو الجماعي. ورغم أن هذه الحياة تقدم قدرا كبيرا من الكسل الإجباري الممنوع من تأنيب الضمير، إلا أنها لا تروقني، ولا أحسد الذين يعيشونها، فهي بالنسبة لي عبارة عن تشرد مقنّع حتى لو أقام المرء في فندق خمس نجوم، ومثال ذلك النجم الراحل عمر الشريف أو الكاتب الفرنسي جان جينيه الذي عاش في فنادق رديئة حين كان فقيرا، ولكنه صار يرتاد فنادق مريحة عندما تحسنت أحواله المادية، إلا أنه ظل يتصرف كمتشرد. أما عمر الشريف فقد أمضى عدة سنوات في فندق “رويال مونصو” الذي كان يملكه رجل الأعمال السوري عثمان العائدي قريبا من شارع “الشانزليزيه” في باريس، وكان المتعارف أن العائدي منح عمر الشريف إقامة مجانية في جناح خاص، لكن مقربين من النجم السينمائي نقلوا عنه رواية مختلفة وهي أنه كان يعيش في غرفة صغيرة، طالما اعتبر أن حياته فيها مهدورة ومقطوعة الصلة بالعالم لأن غرفة الفندق لا تؤهله لأي صلات إنسانية حميمة.
الفندق الذي بجوار سكني الجديد فيه شيء من صفات الفنادق، ورغم أنه حديث ويتوفر على حوالي 200 غرفة، فإنه يبدو مثل محلات البيتزا الإيطالية في موناكو التي لا يرتادها أحد، لكنها لا تغلق أبوابها. وفي البداية ظننت أن هناك أبوابا أخرى تقع في جهة أخرى غير تلك التي قبالة شرفتي، ولكن بالمسح الدقيق تبين أن هناك بابا رئيسيا واحدا، ومع ذلك يظل موصدا طوال الوقت.
خطر لي في أحد صباحات عطلة نهاية الأسبوع أن أذهب لتناول طعام الفطور في هذا الفندق كي أضع قدمي على طريق اكتشاف هذا الجوار الغامض، ولكني أجّلت الأمر وعزمت أن أتصرف كما لو أني شخصية في رواية أنهيت الفصل الأول منها، وبدأت أنتقل إلى الفصل الثاني.
العربي الجديد