صفحات العالم

الهاون الكوري والجدار الاسرائيلي!


الياس خوري

-1-

أمر الرئيس الكوري الشمالي الشاب كيم جونغ اون باعدام نائب وزير الجيش اون كيم تشول عبر قصفه بقذيفة هاون! والحكاية ليست في سبب الاعدام، وهو سبب تافه، اذ اتهم نائب الوزير بشرب الكحول خلال فترة الحداد على الرئيس السابق لكوريا الشمالية كيم جونغ ايل، وهو والد الرئيس الحالي، وابن الرئيس الذي سبقه! الحكاية هي طريقة الاعدام اذ ارتأى الرئيس ان لا يبقى من نائب الوزير اي اثر بعد موته، فتفتقت العبقرية الاجرامية عن شكل غير مألوف في الاعدامات، فتم وضع المتهم المسكين في نقطة هدف لمدفع هاون، ثم اطلقت عليه قذيفة بحيث دُمر الرجل بالكامل.

في كوريا الشمالية لا وجود لثورة او حرب اهلية، هناك فقط مجاعة يتحملها الكوريون بشجاعة من اجل بناء ترسانة الصواريخ والأسلحة النووية، فداء للسلالة الحاكمة التي تشكل اليوم النموذج الأكثر عتوا لأنظمة الاستبداد في العالم.

من اجل الانتقال السلس للسلطة من الجد الى الأب فالى الابن، لا بأس من توجيه رسالة بقذيفة هاون الى كل من تسوّل له نفسه التفكير بامكانية التحايل على القيم الاستبدادية التي ارساها كيم ايل سونغ، التي تتمركز حول فكرة ان الرجل المؤسس سوف يحكم بلاده الى الأبد.

لو كتب روائي كوري هذه الحكاية لقام بعض النقاد بتحليل اثر الواقعية السحرية على الأدب في آسيا، واعتبرها بعضهم الأخير تضخيما مبالغا فيه وغير قابل للتصديق.

لكن ما يبدو تضخيما هو الواقع بعينه، فخيال الجريمة لا حدود له، خصوصا عندما يتقمص الطاغية الالوهة، ويعتقد ان سلطته المطلقة على الاحياء تبيح له ان يتصرف كما يشاء وان يغالي في سلطة الموت التي لا يملك سواها.

ما يجنن المستبدين حين يمتلكون سلطة الموت، هو انهم لا يملكون سلطة منع موتهم هم، لذا تتحول سلطتهم الى شغف بدم الآخرين، كأن قتل الآخرين تبعد عنهم الكأس الذي لا بد من شربه في النهاية.

في فيلمه ‘الطوفان في بلاد البعث’ اشار المخرج السينمائي السوري الراحل عمر اميرالاي الى ان السلطوية في المدارس العامة السورية بنيت على النسق الكوري الشمالي. جاءت هذه المعلومة في سياق هامشي في الفيلم، حين رواها احد الاساتذة في قرية نائية من قرى الفرات. ولم نكتشف اهميتها الا حين بدأت تأتي صور القمع والتعذيب في سورية، حيث يأمر الشبيحة السجناء بالقول ‘لا اله الا بشار’.

اي ان النموذج الكوري الشمالي انتقل الى سورية بنكهة جديدة، هي نكهة تأليه الديكتاتور الذي يميت. اي ان المستبد المطلق يملك اساسا سلاح الترهيب، وعليه ان يستخدمه كاملا كي يحافظ على بقائه.

ونجد صدى كل هذه الوحشية في السيارة المفخخة التي اودت باللواء وسام الحسن، فالهدف لم يكن قتل الرجل فقط، بل محوه عن وجه الأرض، وتحويله الى اشلاء.

كيف حسبها الرئيس كيم جونغ اون؟ انا لا اتحدث عن الاعدام هنا، بل عن الطريقة المبتكرة التي استنبطها خيال الرجل الشاب الذي ورث السلطة.

اغلب الظن ان الورثاء يشعرون ان عليهم التفوق على آبائهم، كي يستحقوا الارث، وهذا ما حصل في كوريا الشمالية. فالرئيس الكوري الذي ورث نظاما نجح في ابتزاز العالم بسلاحه النووي، اراد ان يبتز شعبه بطريقة اقرب الى افلام الرعب، فسرّب خبر قذيفة الهاون، كي يقول انه لن يبقي لأعدائه اي اثر، بل سيمحوهم.

اما في سورية، فان الوريث الشاب وجد نفسه في مواجهة الثورة السورية امام خيار واحد هو ان يتفوق على جريمة والده في حماه عام 1982، فحول كل المدن السورية الى حماه، واستخدم براميل المتفجرات في قصف المدنيين، معتقدا انه بذلك يعلن جدارته ويؤكد ابدية النظام.

-2-

في الجانب الآخر من الصورة تبدو الفاشية الاسرائيلية وهي تبلغ ذروتها في التحالف الانتخابي بين نتنياهو وليبرمان. تحالف اليمين العنصري الذي يتخذ هنا ‘شكلا متحضرا’، لا يختلف في همجيته عن همجية براميل المتفجرات او قذائف الهاون. لن ادخل في تحليل الانزلاق اليميني الفاشي في المجتمع الاسرائيلي، يكفي ان نقرأ الصحافي الاسرائيلي جدعون ليفي كي نفهم ان اسرائيل تنتحر، بل سأقف امام هذا الروسي المتشنج الذي كان شعار حملته الانتخابية انه يفهم العربية، اي ان ليبرمان اراد ان يقول انه يفهم على العرب ويفهم انهم لا يفهمون سوى لغة القوة.

هذا الكلام موجه الى الفلسطينيين اولا واخيرا. فهذا الحلف الجديد يريد التضحية بالخروف الفلسطيني الذي دافع مستميتا عن السلام، بل وعرّى نفسه من كل شيء، معتقدا انه سيكون شريكا للذئب الاسرائيلي.

الذئب يقول اليوم للخروف ان اللعبة انتهت، وان اوان افتراس الضحية قد جاء، وان ‘المقاطعة’ التي شهدت حصار ياسر عرفات وقتله، سوف تشهد فصلا جديدا لن يكون اقل مأسوية من الفصل الذي سبقه.

الاسرائيليون يلعبونها بوحشية من يملك سلطة اللغة وسلطة القتل في آن معا. وهم يعلنون على لسان يعالون، المرشح الوحيد لمنصب وزير الدفاع في الحكومة التي ستشكل بعد الانتخابات، ان على الفلسطينيين ان ينسوا الضفة الغربية، ويكتفوا بقطاع غزة المحاصر، الذي تمن عليه امارة قطر بفتات من عائدات غازها كي يستمر على قيد الحياة! وكي يصير هو كل ما تبقى من فلسطين، كامارة اسلامية صغيرة محاصرة بالاحتلال لا حول لها ولا سيادة.

لعبة الثنائي نتنياهو- ليبرمان سوف تتم في الضفة الغربية، وسوف يكون ضحيتها الأولى الخروف الفلسطيني المستسلم ليأسه وعجزه، وبذا تتحول الدولة العبرية الى دولة ابارتهايد كاملة الأوصاف، لا يحيطها سوى الركام الذي صنعه حكم البعث للمشرق العربي.

لن يلجأ ليبرمان الى اعدام ضحيته الفلسطينية بالهاون، لكنه سيجعل من ‘ارض الميعاد’ ارضا للموت الفلسطيني المستمر.

-3-

فاشيتان وحشيتان تحاصران العرب. الفاشي الاسرائيلي ينعم بالتواطؤ والمشاركة الامريكية، كما يتنعم بدعم اليهود الروس في اسرائيل الذين تحولوا الى رأس حربة العنصرية، وبدعم اللوبي اليهودي في روسيا الذي يزداد نفوذا. اما الفاشي السوري فانه يتكىء على الدعم القيصري الروسي، ويتنعم بالرضى الاسرائيلي على ادائه الذي يقوم بتدمير سورية وبلاد الشام كلها.

حصاران لن ينكسرا الا في دمشق.

فمتى تفتح عاصمة العرب كوة في هذا الجدار الأخير؟

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى