خارطة السوسيولوجيا في العالم العربي اليوم: الانتفاضات ودور الباحث المحلي؟/ محمد تركي الربيعو
يرى السوسيولوجي الفلسطيني ساري حنفي، والباحث الفرنسي ريغاس أرفانيتس في كتابهما المشترك «البحث العربي ومجتمع المعرفة: رؤية نقدية جديدة» أن نشوء علم الاجتماع في المنطقة العربية قد تزامن مع بدء المشروع الاستعماري، ولذلك برز في أواخر حقبة الاستعمار وغداة استقلال الأقطار العربية اتجاهان رئيسيان لعلم الاجتماع، شجب الأول العلوم الاستعمارية، بينما عاين الثاني التبعية الاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي برزت بعد الاستقلال. وكانت الإشارة إلى ابن خلدون ممرا لا بد منه للتفكير في «خصوصية» العالم العربي وتمايزه. وتحت تأثير فرانز فانون والاتجاه اليساري المستوحى من فكرة العالم الثالث، انشغل كثير من الاجتماعيين آنذاك (أنور عبد الملك، وعبد الكريم الخطابي وغيرهما) ببراديغم هوية العلوم الاجتماعية إلى أن أضناهم البحث أحيانا، ولذلك لم يكونوا قادرين على إنتاج بحوث تساهم في إحداث شرخ بينها وبين العلوم الاستعمارية.
في حين انشغل أنصار الاتجاه الثاني، وهم الحداثيون بتحديث المشروع الوطني، واعتمدوا غالبا نموذجا حداثيا، ونظر لعلم الاجتماع بوصف مهمته الأساسية تكمن في كيفية خدمة الدولة أو الأمة أو المشروع الحديث الذي تنفذه الدولة، وهذا ما أدى إلى انهماك العلوم الاجتماعية في حل المشكلات التقنية عوض انتقادها، وربما هذا الواقع هو ما دفع عالم السوسيولوجيا المغربي عبد الوهاب بوحديبة إلى القول ذات مرة «لا يوجد علم الاجتماع إلا في سوسيولوجيا التنمية».
وانطلاقا من الواقع السابق، حاول الباحثان إعادة الوقوف من جديد على حجم إنتاج العلوم الاجتماعية ومكانها في الوطن العربي، عل هذا الوقوف يساعدنا بعد عقود عديدة من زمن الاستعمار والإصلاحية الوطنية على معرفة إلى أين وصل الدرس السوسيولوجي في العالم العربي، وما هي علاقات تشابك هذا الدرس مع الدروس السوسيولوجية الأخرى، خاصة مع المدرستين الأمريكية والفرنسية.
ولتوضيح هذا الأمر، حاول الباحثان رسم خريطة السوسيولوجيا في العالم العربي، من خلال الاعتماد على تصنيف ميشال بوراووي الشهير للعلوم الاجتماعية. إذ يميز الأخير بين أربعة أنواع لعلم الاجتماع. النوعان الأولان (علم الاجتماع المهني والنقدي) على صلة بالجمهور الأكاديمي؛ ويدرس علم الاجتماع المهني برامج بحثية متعددة متداخلة، لكل منها افتراضاته الخاصة، ونماذجه الأصلية، وأسئلته المحددة، وأدواته المفاهيمية والنظريات الناشئة عنه، بينما يشتغل البحث الاجتماعي النقدي على الأسس الظاهرية والمتضمنة، والمعيارية والوصفية – التي تقوم عليها البرامج الخاصة بالبحث الاجتماعي المهني. أما الجانبان الثالث والرابع (علم الاجتماع العمومي والسياسي) فهما يعنيان بتأسيس حوار بين البحث الاجتماعي وأنواع مختلفة من الجمهور. وهذا ينطوي على حوار مزدوج وعلاقات متبادلة، يعزز فيها الحوار الهادف إلى التعلم المتبادل الذي لا يدعم ذلك الجمهور فحسب، بل يثري أيضا البحث الاجتماعي نفسه ويساعد على وضع أجنداته.
وفي ما يتعلق بموقع علم الاجتماع المهني والنقدي على خريطة السوسيولوجيا العربية، يحاول الباحثان دراسة هذا الموقع من خلال دراسة حالتين: الأولى تتعلق بإعادة تقييم لكل أعداد مجلة «إضافات» للعلوم الاجتماعية، التي تصدر عن الجمعية العربية لعلم الاجتماع، بالتعاون مع مركز دراسات الوحدة العربية. وقد ارتأى الباحثان في هذا السياق، التركيز على أعداد المجلة التي صدرت بدءا من عام 2008 حتى عام 2012، وذلك بالنظر إلى بعض المتغيرات المتعلقة بالكتاب وطبيعة المواضيع المتداولة والمراجع التي استخدمت في المقالات المنشورة. ومما يلاحظ في سياق تحليل (584) مادة، أن هناك ثلاثة أقطار مغاربية كان لها الحظ الأوفر في النشر، وهي تونس والمغرب والجزائر، ويعود هذا التفوق المغاربي إلى عاملين: الأول هو جودة التعليم الجامعي في العلوم الاجتماعية هناك، مقارنة بالجامعات الوطنية في المشرق العربي. والثاني هو الاستعمال الأكثر توازنا للمراجع العربية والأجنبية. ويحتل لبنان (الذي يعتبر ذا سوسيولوجيا فرانكفونية أيضا) المرتبة الرابعة ويتبعه الباحثون الاجتماعيون الفلسطينيون في الداخل والشتات.
ومما يلاحظ أيضا في ما يتعلق بمشاركة الباحثين في كتابة مقالات مشتركة، أن هناك 94٪ من المقالات مكتوبة من قبل مؤلف واحد. ومما يلاحظ أيضا عن طبيعة البحوث، أن هناك فقط 29٪ من المقالات مبنية على بحوث ميدانية، بينما كان ما يماثلها مقالات مبنية على قراءات، والباقي هي مقالات نقاشية. أما بخصوص الموضوعات المدروسة، يبين التحليل أن الكلمتين المفتاحين الأكثر تناولا هما علم الاجتماع السياسي، وعلم اجتماع الهجرة، ويبرر الباحثان ذلك بكون الوطن العربي يعيش في أزمة سياسة خانقة منذ استقلال هذه البلدان، تلي ذلك موضوعات في النظريات الاجتماعية ومن ثم في علم الاجتماع التاريخي، وعلم اجتماع الدين، والشباب ودراسات الجندر، وظاهرة الكولونيالية، ومؤخرا الثورات العربية.
وفي السياق ذاته الباحث عن مكانة ودور علم الاجتماع الأكاديمي في دراسة الحياة اليومية العربية، يُظهِر الباحثان من خلال تحليلهما لمضمون (519) مادة منتجة عن الانتفاضات العربية بين عامي 2011 و2012. أن غالبية المقالات بشأن الانتفاضات العربية 75٪ منتجة خارج الوطن العربي، بينما 25٪ فحسب من المقالات منتجة ضمن المنطقة (النسبة الكبرى في الولايات المتحدة) من المرتبطين بالجامعات، الذين يميلون بقدر أكبر إلى النشر بالإنكليزية.
أما في ما يخص التخصصات المعرفية للمؤلفين، فيظهر التحليل توزع المؤلفين بحسبب التخصص. تقريبا نصف المؤلفين هم باحثون في علم السياسة. بينما لا يشكل السوسيولوجيون سوى نسبة 8٪، والأنثربولوجيون نسبة 2٪. وفي الإجمال يحتكر علماء السياسة التأليف المتعلق بالثورات العربية في اللغات الثلاث.
كما يُظهر الباحثان أيضا من خلال تحليل شبكي للاقتباسات، أن ثمة أربعة منظرين فحسب ممن يتم اقتباسهم بشكل كبير في موضوع الانتفاضات العربية. وهؤلاء المؤلفون هم صموئيل هنتنغتون، وإدوارد سعيد ومانويل كاستلز وتشارلز تيلي. ويعتبر هؤلاء روادا في حقول اختصاصهم، وغالبا ما يقتبسهم المؤلفون لإبداء التقدير، لا للنقد بالضرورة. أما قائمة المؤلفين المحوريين، فتضم لائحة مؤلفين في جامعات مثل جورج تاون وجورج واشنطن وأسماء مثل مارك لنش، وستيفن هايدمان، ولاري دياموند، ودانييل برومبرغ وليزا أندرسون. وهناك مؤلفون شبه طرفيين لا ينتمون إلى المراكز النظرية المهيمنة المختصة بالسياسة، ولكنهم ليسوا مهمشين. لقد اختص هؤلاء في هذا التصنيف بالمعرفة، كذلك يتميزون بأنه قد أتوا من خلفيات مجتمعية غير ناطقة بالإنكليزية (مثل الباحثة الفرنسية بياتريس، والمصرية منى الغباشي/أستاذة السياسة في كلية برنارد، جامعة كولومبيا). وتعد مقالة الأخيرة «أداء الثورة المصرية2011» من أكثر ما اقتُبِس من كتاباتها عن الانتفاضات العربية، إذ وصفت الاحتجاجات المصرية بتفاصيل دقيقة، إضافة إلى الأحداث التي أدت إلى حدوثها، كما أنها رفضت الافتراض القائل إن الثورة كانت اندفاعا عفويا قام به الشعب، فـ»المصريون كانوا لسنوات يجربون عبر مقاومة النظام، وبأفعال كالإضرابات والاحتجاجات، وما إلى ذلك، لخلخلة حدود سيطرة النظام، ولذلك كانت أحداث كانون الثاني/يناير عام 2011 محضرة لسنوات، إذ ومع 25 كانون الثاني/يناير 2011، واجه نظام قوي مجتمعا قويا منتظما بسياسة الشارع».
كما نعثر على مؤلفين حاولوا أن ينظروا إلى الانتفاضات العربية عبر عدسة ثورية أو بديلة من أمثال، جويل بينين أستاذ تاريخ الشرق الأوسط في جامعة ستانفورد، والسوسيولوجي المعروف آصف بيات السوسيولوجي مؤلف أطروحة «الحياة سياسة: كيف يغير الناس العاديون الشرق الأوسط»، الذي غالبا ما يستند في عمله إلى معرفة أمبريقية مديدة وعميقة في بعض المجتمعات الشرق أوسطية (مصر وإيران)، كما أن عمله على السياسات اليومية الشبابية، أظهرت حساسيته تجاه التفاعل بين ظروفهم الاجتماعية والتغيرات في الخطط الثقافية التي توثر في رؤيتهم تجاه العالم وتطلعاتهم.
أمّا على مستوى علم الاجتماع العمومي والسياسي اللذين غالبا ما يكونان على صلة مباشرة بالجمهور، حاول الباحثان تبيان وضعهما على خريطة السوسيولوجيا والبحث الأكاديمي العربي، من خلال دراسة مقالات الرأي التي يكتبها بعض الأكاديميين اللبنانيين في الصحف اللبنانية (الأخبار، النهار، ديلي ستار التي تصدر بالإنكليزية). ومما يلاحظ في تحليل الباحثين هو أن ثمة قلة فقط من الأكاديميين والسوسيولوجيين ممن يكتبون مقالات رأي في الصحف اللبنانية، وأن الأغلبية هم من الجيل الأكبر سنا، بينما يحجم جيل الشباب عن المشاركة بوجود هذا الشكل من التدخل العام. ويبدو أن اللبنانيين هم أساسا من يكتب مقالات الرأي، فالأكاديميون الأجانب في لبنان مثلا غير مهتمين بذلك، خاصة أن الكثير منهم يعتقد أنه لا يمتلك صدقية المشاركة في المناقشات المحلية. ويظهر التحليل أيضا أن الأغلبية الساحقة من التحليلات ذات طابع سياسي، فالأكاديميون يكتبون بشكل رئيسي في السياسة، مقابل نسبة قليلة 18٪ في القضايا الاجتماعية، ولا ترجع غلبة السياسة إلى وجود المزيد من العلوم السياسية والمجالات ذات الصلة (دراسات شرق أوسطية وعلاقات دولية ) فحسب، بل أيضا الى أن الصحف اللبنانية أكثر اهتماما بالسياسة. وفي رأي الباحثين يمكن ذكر تفسيرات عديدة لتردد الأكاديميين والسوسيولوجيين في الكتابة للصحف والاقتراب من الجمهور، من بينها: عدم اعتراف نظام الترقية في الجامعات بمثل هذه الأشكال من المشاركة المجتمعية، وصعوبة إيجاد صحيفة مناسبة، والخوف من الانتقاد العلني، وعدم الثقة بوسائل الإعلام وبقدرتها على تقديم الأبحاث من دون التضحية بالجودة الأكاديمية، بالإضافة إلى تعريض العمل المهني للخطر من خلال النشاط العام المستهلك للوقت.
كاتب سوري
القدس العربي