خطوة نحو الشعب/ ميشيل كيلو
في لحظة سورية عصيبة ، عقد في احد فنادق مدينة اسطنبول المؤتمر التأسيسي لما سيعرف من الآن فصاعدا ب” اتحاد الديمقراطيين السوريين ” ، بعد اشهر من لقاء تشاوري جرى في مدينة القاهرة ، اتخذ خلاله المئات من مناضلي مختلف اطياف الديمقراطية السورية قرارا بتشكيله .
وقد برزت خلال المؤتمر ظاهرتان جسد اولاهما تنوع القادمين اليه من مختلف مناطق الداخل والشتات السوريين ، وكثرة القادمين من سوريا ، بما في ذلك من حمص وحماه والرقة والحسكة ودير الزور ودمشق وريفها ودرعا والجولان . وثانيتهما تنوع مشارب واصول القادمين من البوادي والارياف والقرى والمدن ، ومن المدارس والجامعات ، والمصانع والمزارع ، والشرطة والجيش ، والقضاء والمحاماة ، والصحافة والتلفاز والمسرح … الخ ، وعدد الشباب بين الحضور وما يمارسونه من انشطة مدنية متنوعة في كل مكان من وطنهم، بامكانات ضعيفة أو بدون امكانات تذكر، وما يؤكده وجودهم ونشاطهم من عودة الروح إلى الفعل النضالي المدني في كل ركن من سوريا ، حتى ان المرء ليصاب بالدهشة بسبب كثافة ما يصدر عن الشباب من تنوع في الابداعات والفعاليات ، وما يبدونه من تصميم على الاستمرار في ثورة الحرية ، رغم ما يلاقونه من قمع وقتل على ايدي النظام والتنظيمات الأصولية التي تكره الحرية ودعاتها ، وتكمل في مدنهم وقراهم وبلداتهم اعمال الاسدية ، أو تقوم باعمال جديدة نيابة عنها ، بعد أن أخرجت منها على يد الجيش الحر.
عبر المؤتمر عن سوية الوعي الديمقراطي والحر في سوريا ، بعد ثلاثين شهرا على ثورتها الشعبية العامة ، فمن جهة اتسمت مناقشاته بالانفتاح والتنوع ، ومن جهة اخرى ظهرت فيه سلوكات انتخابية حكمتها نزعات حزبية او اتنية ضيقة عفا عليها الزمن ، لكنها لم تترك بصماتها على اعماله ونتائجها، بما ان المرحلة للمواطن الحر وليست لعضو الحزب ، والوعي السياسي وعي حرية شامل وليس وعيا حزبيا جزئيا ، والوطنية لم تعد شأنا خاصا ببرنامج أو برؤية محددة،بل غدت خيارا شخصيا لمواطنين تراجعت عندهم مكانة الحزبية وفقدوا الثقة ببرامجها المغلقة ، وتقدم عوضا عنها نسق من الفهم والتفكير مفتوح على الواقع والآخر ، يبحث عن المشتركات والتوافقات ولا يأبه كثيرا لمزاعم العصمة التي يدعيها هذا التنظيم أو ذاك لنفسه، مما كنا نعيشه قبل الثورة واستمرت بعض ملامحه لدى بعض الأحزاب بعدها .
ناقش الحاضرون مؤتمر جنيف واعطوه موافقة مشروطة اقرب الى التحفظ . وناقشوا الحكومة بحضور رئيسها المكلف الدكتور احمد طعمه فمنحوها ثقة كاملة ودعما مؤكدا ، وقدموا لها توصيات تعينها على النجاح . كما ناقشوا تقارير تنظيمية وميثاقين يعرف احدهما بهوية الاتحاد والثاني بالديمقراطية التي يريدها، واستمعوا الى شهادات شهود عيان يسهمون في الاحداث على مختلف والجبهات، وسعدوا بحضور عدد مهم من المناضلات العاملات في الخدمة العامة ، والفتيات المتحمسات لبلادهن ، وانخرطوا في حوارات ودية مرتفعة الصوت احيانا .
بعد يومين ، انتخب المؤتمر هيئاته القيادية ، فبدا اضحا ان “الاتحاد” سيحصر جل جهده في الشباب والعمل الشبابي ، وسيوجه اهتماما خاصا الى المسألة الدينية والمذهبية في سوريا ، والى رجال الدين الافاضل ، الذين يلعبون دورا كبيرا في حياة الشعب ، وعندهم قدرة لا تضاهى في ما يتصل بالمحافظة على وحدته وكرامته، ومقاومة الاتجاهات المتشددة التي تدعي الدفاع عن الدين وهو منها بريء . في هذا السياق ، ناشد امين عام الاتحاد المنتخب رجال الدين المسلمين والمسيحيين القيام باعباء مكانتهم التاريخية الفريدة وذكرهم بما فعله اجداد لهم حماية للامة ، التي اعتبرها الاسلام مصدر كل شرعية ، ورأى فيها دوما مادة الدين وحامله والمدافع المخلص عنه .
خلال المؤتمر ، توافدت اعداد كبيرة من المقاتلين إلى اسطنبول للقاء المشاركين فيه . كان هؤلاء من انصار الخيار الوطني، الذي جعله “الاتحاد” مضمون الديمقراطية السورية المأمولة وسمتها الخاصة ، وجعل لها ركنين هما وحدة وسلامة الدولة والمجتمع، ورؤية كل شأن حزبي او شخصي بدلالة الوطن، والقطع التام والكامل مع عادة غدت مألوفة في السلطة والمعارضة السوريتين ، ترى الوطن بدلالة الشؤون الخاصة : الحزبية والشخصية .
في النهاية ، كان من المتفق عليه ان مشروعا كبيرا يجب ان يتخلق في فضاء العمل الوطني والديمقراطي السوري ، وأن المؤتمر كان الجزء الاولي ، السهل منه، وان ما سيليه سيكون محكا لجدارة ليس فقط من دعوا إلى تأسيس “الاتحاد” أو شاركوا في الاعداد له وحضوره ، بل كذلك للديمقراطية السورية بمختلف توجهاتها ومسمياتها وشخصياتها ، بالنظر الى انها ستجد نفسها من الآن فصاعدا أمام اختبار تاريخي سيكشف حقيقة معدنها وما إذا كانت ستحقق مستقبلا ما قدمته إلى اليوم من وعود كثيرة ، فشلت في بلوغ أي منها .
يبدأ بالمؤتمر طور جديد من تاريخ سوريا الوطني لا بد أن يكون اكثر غنى وتنوعا وفاعلية من الاطوار السابقة له ، هو طور محكوم بثورة الحرية ، التي تجعل أي شيء يقوم السوريون به الآن مختلفا جدا عن ما سبقه . هذا ما ظهر في المؤتمر من خلال ما طالب به كل متحدث من توحيد جهود وسياسات فصائل وتكوينات الديمقراطية السورية ، وتكثيف انشطتها وتوجيهها نحو الحرية ، في زمن يشهد محاولات دائبة لتفكيك تنظيمات الثورة : من الجيش الحر إلى الإئتلاف ، ونمو تشكيلات وتوجهات تنظيمية وعسكرية بالغة الخطورة على وجود سوريا : شعبا ودولة !.
المدن