خلط أدونيس وتعميمه بشأن “منجزات الربيع العربي”/ سلامة كيلة
لم أشأ أن أدخل في نقاش مع أدونيس بخصوص موقفه من الثورات العربية، ربما نتيجة “الردح” و”التقريع” والاتهام الذي طاوله، والذي أرى فيه ما لا يليق ولا يفيد، بل يعزِّز من رأي أدونيس ذاته. ما كنت أرى ضرورته هو “تفكيك منطقٍ” يكرّره أدونيس الذي ينطلق من مطلقات حول الواقع، وربما من نظرة “استشراقية”، وهو يتناول الأسلمة و”الوعي الشعبي”، وصولاً إلى اعتبار أن ذلك هو سبب تخلفنا. لهذا تنطلق هذه المقالة من ضرورة تفكيك منطق يطرحه أدونيس، وتتناول مقاله “مقدمة لفهرس سياسي آخر”، المنشور في صحيفة الحياة 27/7/2017. وربما كان المقال يلخص مجمل منظوره إلى “ثورات الربيع العربي”، ويوضح طريقته في التناول. فما يمكن قوله، بداية، إن المقال يتسم بالتوصيف، حيث يرصد ما جرى، لكنه يتسم كذلك بالتعميم والخلط، من دون تمييز بين نظم ونخب وشعوب، ومن دون تحديد للأسباب التي أنتجت كل ما ذكره في المقال، فهو يبدأ مقاله بالحديث عما حققته “ثورات الربيع العربي” من “منجزات”، ذاكراً سبعة منها، هي في الواقع توصيف لواقع قائم، يسخر منها بأن يسمّيها “منجزات”، لكن هذه السخرية تظهر التشوّش والخلط وكذلك التوصيف.
يشير أولاً إلى تحوّل الربيع إلى “ربيع إسلامي”، فهل الإسلامية هذه سبب الثورات أو نتيجة لها؟ كان أدونيس ينطلق أصلاً من “إسلامية” الثورات، حيث إنها تخرج من الجوامع، لكنه الآن يعتبر منجز الثورة أنها جعلت هذا الربيع إسلامياً. بالتالي كانت الثورات غير إسلامية وباتت كذلك. لكن هل فعلاً صارت إسلامية؟ لا شك في أن “الفضاء العام” المنقول بواسطة الإعلام يشير إلى “هيمنة الأسلمة”، خصوصاً في سورية وليبيا والعراق وربما اليمن. وفعلاً ظهرت مجموعات كثيرة في هذه البلدان، لكن هل كانت نتاج “الربيع العربي” أو كانت من أجل إجهاضه؟ لا يجيب أدونيس، على الرغم من أهمية الأمر، فالشعوب التي اتهمت بأنها جاءت بالإخوان المسلمين إلى السلطة أسقطتهم في مصر وحجّمتهم في تونس وأفشلتهم في
“الشعوب التي اتهمت بأنها جاءت بالإخوان المسلمين إلى السلطة أسقطتهم في مصر وحجّمتهم في تونس وأفشلتهم في ليبيا” ليبيا، وظهر واضحاً أن هدف الثورات هو غير هدف الإسلام السياسي، وهو ما انعكس على مجمل المنطقة. لكن، لم تنشأ “السلفية الجهادية” من رحم الثورات، بل جاءت من الدول التي أرادت تدمير الثورات، من النظام السوري إلى بعض دول الخليج العربي، وإيران وأميركا وروسيا وتركيا. كانت القوة المضادة للثورة التي صنّعتها دول، ودفعتها لكي تُجهض “الربيع العربي”. هنا الفرق كبير بين اعتبار هذا “الإسلام” نتيجة الثورة وأنه قد أُوتي به لمواجهتها.
هل زاد “تأسلم” الشعوب التي خاضت الثورة؟ بالتأكيد لا، على العكس، تقلّص، بالضبط لأن الإسلام السياسي لا يحمل حلولاً لمشكلاتٍ مجتمعية، قامت الثورات من أجل حلها، من البطالة إلى الفقر الشديد إلى التهميش وانهيار التعليم والصحة. هذه هي “روح” الثورات، وهي الأساس الذي كسر موجة الإسلام السياسي، وعمّق الميل نحو التحرّر والتقدّم. ربما لم يلمس أدونيس سبب موجة التأسلم التي اجتاحت المنطقة منذ نهاية القرن الماضي، أو حتى قبلها، حيث لعبت نظم (السعودية خصوصاً) على تعميم الوهابية أيديولوجية مسيطرة، وكانت ترى أنها عبر ذلك تستطيع سحق التقدّم والتحرّر، والسيطرة على المنطقة. وقد ساعدها في ذلك ميل يساري و”حداثي” إلى تعظيم “الأسلمة” و”الفكر الإسلامي”، ومنهم أدونيس الذي نشر مختارات محمد بن عبد الوهاب، وآخرون تحجّجوا بـ”الوعي الشعبي”. بالتالي، أتت أزمة الشباب الذي يريد العمل والعيش لتفرض الانكفاء نحو الدين، وأن يجري العمل على تأسيس “سلفية جهادية”، لكن أزمة الشباب فرضت الثورة، وفرضت صيرورة الثورة أن يتجاوز هذا الشباب “تأسلمه”، لأنه يريد حلولاً لمعيشه. وعملت النظم التي ارتعبت كلها من الثورة على تدعيم كل الميول الأصولية و”الجهادية” والتفكيكية من أجل سحق الثورة.
هنا، يظهر خلط أدونيس، فهل يتحدّث عن النظم؟ بالتالي، يجب أن يكشف سياساتها التي أوجدت كل هذا الإرهاب الأصولي. أو يتحدّث عن الشعوب التي تبحث عن حلول لمشكلاتها لكي تستطيع العيش، وجزء كبير منها كان يميل إلى ما هو روحي، لكي يتحمّل أزمته، لكنه حين انخرط في الثورة بدأ يبحث في كيفية تحقُّق التقدّم والتحرر، وأخذ يميل، بشكل أكبر، نحو العلمنة، والدمقرطة، والعدالة الاجتماعية. وحيث أصبح “خلع الحجاب” ظاهرةً متوسعة. وبات الهمّ الجوهري يتمثل في البحث عن بديل تحرّري تقدمي (وحتى يساري). بالتالي، فإن أهم منجز للربيع العربي هو فتح الطريق واسعاً، من أجل بلورة بديل تحرّري تقدّمي. ولهذا، أصبح الميل إلى تطوير الوعي سمةً لدى قطاع كبير من الشباب. هذا ما لا يلمسه أدونيس، على الرغم من أنه جوهري وملموس. لهذا، يشير إلى الظاهرة التي اشتغلت دول العالم على تعميمها من أجل سحق الربيع العربي، أي الأسلمة والمجموعات الإرهابية.
إذن، هل وسعت الثورة حدود “الربيع العربي” ليصير إسلامياً؟ بالمنظور الشكلي، غرقنا في
“يعتبر أدونيس ثورات الربيع العربي “تهديماً ذاتياً” و”تبعية” شبه عمياء” الأسلمة. لكن، هل ذلك هو نتاج الثورة أو نتاج النظم التي أرادت سحق الثورة؟ هذا ما على أدونيس أن يجيب عنه. بالنسبة لي، عمّقت الثورة الوعي الثوري التحرّري التقدمي، ودفعت جيلاً جديداً نحو امتلاك الوعي بذلك كله. أما “الأسلمة” فقد اشتغلت كل النظم على تعميمها وتصنيع مجموعات أصولية مضادة للثورة، لأنها تعتقد أنه عبر ذلك يمكن سحق الثورة، والتخلص من “الربيع العربي”. هناك فئات مجتمعية انجرفت في هذا المسار؟ نعم، لكن الجوهري هنا أن الحراك الشعبي يريد حلولاً واقعية لمعيشه، ويعرف أنه ليس لدى هذه القوى حلولاً أصلاً. لهذا بدأ البحث في الحلول كما أشرت قبلاً.
ثانياً، يحمّل أدونيس ثورات الربيع العربي مسؤولية زيادة الفقر والبطالة والأمية والجهل، كيف؟ هل يقصد أن نشوب الثورات جعل النظم تزيد من النهب والتدمير، واعتبر هذا نتيجة للثورة؟ لا شك أن وحشية النظم أدت إلى القتل الواسع (سورية واليمن وليبيا) والتدمير والتهجير وانهيار الاقتصاد. لكن كذلك إلى ميل النظم إلى زيادة الخصخصة وفرض الضرائب وتحرير العملة وزيادة الأسعار. وبالتالي، زيادة عدد الفقراء والعاطلين من العمل والأميين، والمهجرين والأرامل.
بداية، هل ذلك هو نتاج الثورة؟ تتمثل سياسات النظم، منذ سبعينيات القرن الماضي، في الخصخصة وزيادة الضرائب ورفع الأسعار وتقليص العمالة، وانهيار التعليم والصحة. وكانت شروط صندوق النقد الدولي تفرض ذلك، بعد أن تورّطت النظم في الاستدانة (التي ذهبت إلى جيوب أفراد فيها)، وقد وصل الوضع إلى مرحلة دفع الشعوب إلى أن تثور، لأنها لم تعد تستطيع الاستمرار في العيش، فقد أفقرت وهمّشت بما وضعها في حالة موات. هذا ما دفعها إلى الثورة، ولم يكن لدى النخب والأحزاب أي ميل ثوري حينها. حتى اليسار لم يكن يفكّر في الثورة، ولم يكن يتوقعها. بمعنى أنها كانت عفوية، ويمكن أن أقول غريزية، وهو الوضع الذي يعني انفجار ثورةٍ، كما حدث في كل التاريخ. بالتأكيد، لم تملك الشعوب بديلاً هو ضروري لكي تنتصر. لهذا بدأت النظم هجومها المعاكس كما أشرت قبلاً. ومن ضمن ذلك ميلها إلى خصخصة كل شيء، والسماح بنهب كل شيء، وهذا منطق الطبقة التي تحكم، والتي باتت مافياوية لا تستطيع سوى النهب، وزيادة النهب. ولهذا تحليل آخر يتعلق ببنية الرأسمالية اليوم عالمياً ومحلياً. لكن أدونيس يحمّل الثورة مسؤولية هذه السياسة التي اتبعتها النظم. فهذا من “منجزات” ثورة الربيع العربي، فيتجاهل أنه أصلاً نتاج سياسات النظم التي فرضت حتمية الثورة، وقد استمرت بهذه السياسات بعد الثورات، لأنها لا تستطيع سوى النهب وزيادة النهب، ما يعني نشوب ثورة جديدة وأخرى، إلى أن تسقط النظم.
التعميم واضح هنا، وكما سنرى تالياً، حيث إن الحديث عن زيادة الفقر والبطالة والأمية منجزات الثورة يبرئ النظم، ويلقي اللوم على الشعوب التي ثارت، وكأن أمر الثورة قرار واع، ومخطط له، بينما كان في وسع هذه الشعوب أن تتحمّل وضعها “لكي لا يسوء أكثر”، والأمر الواضح أنه لم يكن بإمكانها غير أن تثور، بالضبط لأنها لم تعد تستطيع العيش. ولأن الوضع ازداد سوءاً ستثور من جديد. وهنا، لا يتعلق الأمر بالثقافة و”الوعي”، بل بالحياة ذاتها، بما هو ملموس، والذي سيفرض وعياً مطابقاً يسمح بانتصار الثورة.
ثالثاً، يظهر التعميم واضحاً حين يشير أدونيس إلى العرب الذين كانوا “أكثر سيطرة على ذواتهم وأدواتهم وثرواتهم، فصاروا اليوم أكثر قرباً إلى ما يناقض هذا كله”، وأن “الحضور العربي، اليوم، في العالم لا يقوم على التفرُّد العلمي أو التقني أو الأخلاقي”، بل يقوم على “الثروات” والفضاء الاستراتيجي والعدد السكاني.
أي عرب؟ ثم هل هذا الوضع هو من “منجزات ثورات الربيع العربي” أو أنه قبل ذلك بأربعة
“لم تنشأ “السلفية الجهادية” من رحم الثورات، بل جاءت من الدول التي أرادت تدمير الثورات” عقود؟ كان “الحضور العربي”، وكانت “السيطرة على ذواتهم وأدواتهم وثرواتهم” في مرحلة التحرّر الوطني، وبشكل نسبي، حيث ظلت نظم تابعة ومسيطَر عليها. وهي نفسها النظم التي تتصدّر اليوم. بالتالي، لا علاقة لهذا التحوّل بالثورة، فقد حدث قبلها بعقود، وهذا التحوّل بالتحديد هو الذي أسَّس لنشوب الثورات، حيث عملت النظم على نهب الشعوب، وتخلصت من كل المنجزات التي تحقّقت في مرحلة “النظم الدكتاتورية”، ودمّرت التعليم والصحة، وعمّمت الأصولية بالتحالف مع الشقيق الذي بات هو الأكبر، أي السعودية. وهي النظم التي التحقت بـ”الغرب”، وقبلت أن تفتح لشركاته باب النهب واسعاً.
هؤلاء هم العرب/ النظم التي جعلتها مصالحها تقبل التبعية، وتقبل النهب، وتعمل على بقاء الشعوب متخلفة و”أصولية”، وهي التي واجهت التحرّر والتقدّم. أما العرب/ الشعب فهو الذي صنع الثورة، ولم يحقق ما يريد بعد، لكنه سيحقق ما يغيّر كلية الوضع، ويعيد “السيطرة على الذوات والأدوات والثروات”، ويحقق “التفرُّد العلمي والتقني والأخلاقي”. لكن ما يريده هو أن تعمل النخب على مساعدته على تطوير وعيه وقدراته. ومع الأسف، النخب في واد آخر، وتمتلك نظرة متعالية عليه.
رابعاً يعتبر أدونيس ثورات الربيع العربي “تهديماً ذاتياً” و”تبعية” شبه عمياء، وبدا “العالم العربي” للعالم بوصفه “يأكل بعضه بعضاً” و”تابعاً”. هو تابع منذ أربعة عقود، حيث فرض تحرير الاقتصاد ذلك. أما التهديم الذاتي فقد بدأ منذ فرضت النظم سياسة الخصخصة وتحرير الاقتصاد، حيث جرى نهب ثروة المجتمع، وكذلك تدمير الصناعة والزراعة، وبالتالي، تحويل كتلة أساسية من الشعب إلى عاطلين ومهمشين، وباقي الشعب إلى “شحاذين”. أما ما يجري اليوم من حروب، إذا كان يقصد أدونيس ذلك، فهي قمة الصراع الذي تخوضه النظم ضد الشعوب التي ثارت. وهي تدمّر لكي تبقى متحكّمة في السلطة، حتى وإنْ فرض ذلك إبادة الشعب، كما يجري في سورية.
يعمم أدونيس هنا المسألة تحت عنوان “تهديم ذاتي”. بالتأكيد، من يتقاتلون هم عرب، على الرغم من تدخل دول العالم، كما في اليمن وليبيا، وخصوصاً سورية، لكن هل هو صراع “مزاجي” مثلاً، أو مفتعل؟ أليس هو صراع بين شعوب أُفقرت وتهمشت ونظم تريد النهب والسيطرة، ولهذا تمارس أقصى العنف والوحشية؟ فعلى الرغم من “سلمية” الثورات بداية، إلا أنها ووجهت بكل وحشية، وتدخل العالم لسحقها. هنا، لا ينفع الخلط بين نظم وحشية وشعوب تريد التحرر والعدالة.
بالتالي، ما يجري ليس “تهديماً ذاتياً”، بل إنه حرب النظم ضد الشعوب التي قرّرت أن تثور، وهذه النظم مدعومة من “الغرب المتحضر” و”الشرق الهمجي” تمارس كل الوحشية لبقاء سيطرتها وخدمة للطغم المالية العالمية. هذا هو التوصيف الواقعي لما يجري، والذي يفرض أن تكون النخب مع الشعوب، وليس في “برج عاج” تعوّم ما يجري.
ذلك كله ما دعاني إلى أن أقول إن أدونيس يوصّف “محايداً”، ويعمم ويخلط. ولهذا أوافقه على أن الربيع العربي كان “مسباراً يكشف عن طبقات الوعي”، رغم أنه يعيد إلى “السلطة” التي هي “نواة الوعي”. لكن مقابل ذلك يأتي دور النخب، الدور الذي استنكفت عنه منذ زمان. فالشعوب التي ثارت تحتاج إلى عيون وعقول.
كشفت الثورات العربية (المصطلح الأدق) سطحية وعي النخب، وعموميتها وتشوشها، وبالأساس ابتعادها عن الواقع، حيث تعيش في أوهامها التي هي تلخيص مشوّه لواقع “الغرب”.
العربي الجديد
مقدّمة لفهرسٍ سياسيٍّ آخر/ أدونيس
حتّى الآن، حقّقت «ثورات الرّبيع العربيّ» المنجَزات التّالية:
أوّلاً ـ وسّعَت حدود هذا «الربيع» فصار الآن إسلاميّاً أيضاً.
ثانياً ـ كانت الغالبيّةُ الكبرى من سكّان العالم العربيّ فقراء، عاطلين من العمل، أمّيين… إلخ. اليوم صارت أكثر فقراً، وبطالةً، وجهلاً.
ثالثاً ـ كانت الغالبيّةُ أكثرَ ميلاً للكفاح من أجل التقدّم والتحرّر، وهي اليوم، على العكس، أكثر ميلاً للخضوع إلى «عقليّة» التخلّف والتراجع. تركيا المثل الأوّل. السودان مثلٌ آخر.
رابعاً ـ كان العرب أكثرَ سيطرةً على ذواتهم وأدواتهم وثرواتهم، فصاروا اليوم أكثر قرباً إلى ما يناقض هذا كلّه. صارت «ذاتُهم» لغيرهم، إذا تكلّمنا بلغة الفارابي: صاروا «أدواتٍ» و «آلات».
خامساً ـ الحضور العربيّ، اليوم، في العالم لا يقوم على التفرُّد العلميّ أو التّقنيّ أو الأخلاقيّ، وإنّما يقوم، بالأحرى، على «الثّروات» والفضاء الاستراتيجيّ، والعدد السكّانيّ.
سادساً ـ أكّدَت «ثورات الربيع العربيّ» أنّها «تهديمٌ ذاتيّ» و «تبعيّة» شبه عمياء. بحيث بدا، تاريخياً، أنّ العالم العربيّ ليس موجوداً على خريطة العالم إلاّ بوصفه «يأكل بعضُه بعضاً» وبوصفه «تابعاً»، وبوصفه هوَساً سلطويّاً لا يترك أيّ مجالٍ حقيقيّ لحقوق الإنسان الفرد وحرّيّاته. ولا مكانَ فيه إلاّ لهذا الثّنائيّ: الآمِر والمأمور، المالِك والمملوك، السيّد والعبد.
يتمثّل هذا «التّهديمُ الذّاتيّ» وهذه «التّبَعيّة» في مصير القضيّة الكبرى والرمز الأكبر: فلسطين. فقد هُمِّشَت هنا، وأُهمِلَت هناك، وأُلغِيَتْ هنالك.
سابعاً ـ أكدَتْ هذه الثورات، على رغم هذا كلِّه، أنّ العالَم العربيّ خزّانٌ بشريٌّ عظيمٌ للطّاقات الإنسانيّة الفرديّة الخلاّقة في جميع الميادين. وأنّ هذه الطّاقات تتفوّق على أقرانها، أحياناً، في مختلف بلدان العالم. لكن لا سبيل لها، لكي تحيا بحرّيّة إلاّ الهجرة: كأنّها، على نحْوٍ مفارقٍ، لا «تتعرّب» ما لم «تتغرّب».
والفاجع في هذا الأمر أنّها ليست معياراً في التقدّم أو التّخلّف. المعيار سياسيّ- اجتماعيّ- اقتصاديّ، وهو، إذاً، في «المؤسّسات» و «الأنظمة».
والمثال الصارخ على ذلك لبنان وسورية.
*
هل نقول:
انتهى كلُّ شيء،
ولم يبدأ أيُّ شيء.
هل نقول:
ما أشقى بشراً
لا يقدرون أن يعملوا إلاّ بشفاههم،
ولا يقدرون أن يقرأوا إلاّ بصواريخهم.
*
وأنت أيّها «الربيع «العربيّ» الخاص»، من أين لك
هذا الظلّ الوحشيّ.
تَعانَقَ العالمُ تحت نوافذك،
قال: كلّ شيء سيكون مختلفاً. وها هو، إذاً، هذا «الاختلاف»:
نساء تُباع، بشرٌ يُذبَحون. أسواقٌ تُدَمَّر وتُنهَب. متاحفُ تُسرَق وتُباعُ. مدنٌ تُسَوّى بالأرض ـ مآثرَ وعمارات.
انهيارٌ يبتلع الفضاءَ العربيّ:
أهذا، إذاً، أنت، أيُّها «الرّبيع»؟
أسّسْتَ الحاضرَ العربيّ على أساسَين: قاطِعِ رأسٍ، ورأسٍ مقطوع.
المالُ والقَتْلُ حجَرا هذه الطّاحونة البدائيّة الحديثة:
الحَنْجَلةُ الثّوريّة، والعنفُ ضدّ الإنسان وحقوقه وإبداعاته،
معاً في سريرٍ واحد.
دمُ الإنسان يُعبِّد الطّريق. القتلُ يرسم الإشاراتِ والاتّجاهات.
السّماءُ تتمدّد على الوسائد في مُخَيَّمات الخائبين، المُهَجَّرين، الذين يتسوّلون « ضيافةَ « الأمم « الصّديقة «، « الراعية «.
أهذا، إذاً، أنتَ أيُّها « الرّبيع «؟
*
أتاح هذا « الرّبيع العربيّ الخاصّ» للتجربة الحيّة أن تترك أوراقاً يُعجبني منها ، على الأخصّ، تلك التي تتدحرج في الشّوارع مع الغُبار:
ورقة ـ 1:
نظنّ أنّ مدناً عربيّةً كثيرة تتحوّل إلى مجرّد كلماتٍ وذكرياتٍ، ورايات.
ورقة ـ 2:
ليس لماضٍ ينهض على القبور،
إلاّ مستقبلٌ ينهض على الموتى.
ورقة ـ 3:
الحرُّ هو وحده الذي يقدر أن يحرّر غيرَه.
تحرّرْ، إذاً، قبل أن تدّعي التّحرير.
ورقة ـ 4:
لا تفعل كغيرك: يكتب كتاباً وهو لا يعرف حتى أن يقرأ؛
أو يقرأ كتاباً وهو لا يعرف حتّى أن يكتب.
ورقة ـ 5:
الفردُ العربيّ «مُثبَتٌ» بوصفه فرداً، كأيّ شيء ماديّ. لكنّه ذاتيّاً
«ممحوٌّ»، لأنّه، في ذاته، ليس حرّاً: لا رأيَ له وليس مستقلاًّ
ورقة ـ 6:
ليست الفكرة، أيّاً كانت، لكي يتشَرْنَق الإنسانُ داخلَها، بل لكي تفتح له طرُقَ التّواصُل مع الآخر، ومع الواقع.
ورقة ـ 7 :
يعيش الإنسان العربيّ دائماً في أحداثٍ يفاجئُهُ بها العالم، فمتى يعيش دائماً في أفكارٍ تفاجئ العالم؟
ورقة ـ 8 :
قلّما يشقّ العربيّ طريقه في حقل الإبداع إلاّ في أرضٍ غيرِ عربيّة.
هل العروبةُ الحقيقيّةُ هي أن «تتغرّب»؟
ورقة ـ 9:
«الغرب» يبتكر الحقائق،
و «العرَبُ» يستخدمونها.
ورقة ـ 10:
طويلاً، كنّا نبحث عن الفريد ولكنّنا لم نكن نجد إلاّ المُتَشابِه.
ورقة ـ 11 :
نعم. العربيّ كمثل غيره شجرة هو أيضاً. غير أننا ننسى دائماً أن نسأل:
ألهذه الشّجرة ظلٌّ وما هو؟ ألها ثمرةٌ وما هي؟
ورقة ـ 12:
الوجه هو المكان الذي يتفتّح فيه الكون كلُّه كمثل وردةٍ تتفتّح.
ورقة ـ 13:
نَهَبَ ليلُ الثّورة نهارَها.
ورقة ـ 14:
أن تُمسِكَ بالجناح، أو تُمجِّد طيرانه،
لا يعني بالضرورة أنّك أصبحتَ جزءاً من الأفق.
ورقة ـ 15:
جاران عدوّان، كلٌّ منهما يمارس المِهنةَ ذاتها:
صَيْد البشر بصُنّارةٍ ذرّيّة.
إنّه زمنُنا:
القلبُ فيه للآلة،
وللإنسانِ الدّماغ الآليّ.
إنّه زمنُنا:
كلماتٌ تتبطّنُ سيوفاً تتبطّن أجساماً ممزَّقة.
وما الفرق هنا
بين حرف الكلمة وحرْفِ السّيف؟
ورقة ـ 16:
كان «الرّبيع العربيّ» مِسباراً يكشف عن طبقات الوعي. السّلطةُ هي
نواةُ هذا الوعي. السّلطة التي تحوِّلُ الوردةَ إلى قنبلة، والعصفورَ
إلى لغم، والعسلَ إلى سُمّ، والسّمَّ إلى عسل.
إنّها السّلطةُ ـ الهاوية: ضدَّ الإنسان، وضدّ الثّقافة، وضدَّ الحياة.
«الاستعمارُ من داخِل»: ظاهرةٌ تفسِّر آليّةَ هذه السّلطة، خصوصاً في
انقيادها الكامل للاستعمار الخارجيّ.
صار هَدمُ الإنسان مزدوجاً: مِن داخِلٍ، ومن خارجٍ في آنٍ معاً.
وهكذا لبِس الاستبدادُ، في مختلف أشكاله، لَبوسَ الثّقافة العربيّة.
ورقة ـ 17 :
الغائب الذي يُناضِل العرَبُ من أجل حضوره، يزدادُ غياباً.
لماذا ؟ وما السرّ؟
ورقة ـ 18 :
لا تَسَلْ عنه. إنّه شخصٌ لا يملك شيئاً إلاّ موهبةَ الهبوط.
هكذا يريد أن يهبطَ دائماً إلى أدنى فأدنى،
ظنّاً منه أنّه يتغلّب على عدوِّه،
الذي يصعد دائماً إلى أعلى فأعلى.
ورقة ـ 19:
لا تَسَلْ عنه. إنّه عائشٌ على الأمل بتحويل جذر الوردة البيضاء إلى مسمارٍ أحمر.
ورقة ـ 20 :
معك الحقّ أيُّها الضّوء:
أن تذوبَ في الشّمعة التي تذوبُ فيك.
ورقة ـ 21:
وداعاً صفصافتي الجميلة الأخيرة:
قامتُكِ تجرُّ وراءها ذيولَ الهواء.
ورقة ـ 22 :
أسألُكَ أيُّها الفضاء:
هل تعرف مَن وضَع أوّلاً قدمَيه على عتبة بيتي:
أهي الشّمس، أم هو الليل؟
ورقة ـ 23:
حول رأسٍ مقطوعٍ
يجلس كرسيٌّ ينتظر مَن يجلس عليه.
بعد، لم تَحن السّاعة.
ورقة ـ 24 :
أمسِ،
استيقَظَتِ الشّمس كما كان مُنتَظَراً،
غير أنّها لم تستَطِعْ أن تفعلَ شيئاً
ضدّ الغُبارِ الذي كان يغمر الفضاء.
اكتَفَتْ بأن تؤكِّد:
رئةُ الفجر في هذا الزّمَنِ العربيّ
مليئةٌ بهواء المَوْتى.
كانت الأرضُ تضعُ أذنيها بين ثدْيَي أمِّها الشّمس،
وشُبِّهَ لي، فيما أنظر إليها،
أنّها كانت تقولُ لها هامِسةً:
ربّما يعرف الجميعُ بؤسَ الزَّبد،
لكن، قولي أيّتُها الأمّ،
مَن يعرف حقّاً بؤسَ الماء؟
الحياة