صفحات العالم

بعد أربع سنوات: نقاش عقيم وملامح جديدة/ نهلة الشهال

 

 

ما زالت تتوالى الموجات الارتدادية للزلزال الذي ضرب المنطقة قبل أربع سنوات، مستولدة سواها، حتى ساد انطباع عام بأن المجهول يخيم تماماً على الأفق. لكن ازدحام الأحداث وقوتها، الذي يتناقض مع حالة ركود سادت إجمالاً لعقود، لم يترافق مع «خروج عن النص»، لا في ما يخص المنطق الحاكم لمقاربة الواقع وصفاً وتحليلاً وتقييماً، ولا في ما يخص الدوافع والنوايا التي تقف خلف المواقف. لم يترافق الحدث الغني بما يوازيه أو يكافئه فهماً وتأويلاً، على رغم محاولات اختص بها باحثون شبان، من مصر تحديداً، تميزت بتوسيع زوايا النظر إلى مجريات الأمور، والتنقيب خلفها باعتبار الكيفية التي تقدم بها نفسها جزءاً من السؤال، والتخلص من اللغة الجامدة صيغاً ومفردات.

سمتان تغلبان في السائد: الأولى هي البحث عن «المؤامرة» و»المخططات» وتقديم الفرضيات عن هويات أصحابها ومصالحهم وأغراضهم. إنها «أيريكا» أو «وجدتها» الشهيرة!، والثانية اختزال الأحداث بأحد أوجهها، ما يجعل المنطق التبسيطي القاعدة، فتقدَّم الوقائع بناء على احتمالين حصريين كل مرة، وهو ما يمتد فيصل بسرعة إلى التخيير بين مفاضلتين من نمط: ألم يكن وضعنا أفضل «قبل» مقارنةً بالاضطراب الحاصل أو بكمّ القتل أو حتى العسف القائم… مقابل عدمية أخرى لا ترى مشكلة في الخراب الجاري بل تعتبره ضريبة أو طريقاً موصلاً إلى التغيير. ويلازم ذلك استقطاب حاد، ثنائي، لمن هم «مع» أو «ضد». بل إن قانون الاستقطاب المذهبي السني – الشيعي المستفحل والذي اتبع سياقات مختلفة أو موازية، لا يخالف تلك القواعد ولا يخرج عنها. والحصيلة إفقار للنقاش الذي يفترض أن يواكب الأحداث الجسام، وحبس محكم له داخل دائرة مفرغة تكرر نفسها بلا توقف. وإن جرى تلمس أو تخمين أو صياغة أفكار فذة، فهي تبقى في دائرة الإعلان الأولي عنها. من يا ترى عمق مقولة الفشل المدهش للإخوان المسلمين في مصر الذي انكشف خلال سنة من تسلم محمد مرسي السلطة، حيث تبين أن القوم أمضوا 80 عاماً يحلمون بهذه اللحظة من دون تطوير أي استعداد لها وكفاءة؟ من يا ترى يناقش اليوم بتعمق إستراتيجية الإخوان كما تتبدى في تلك المظاهرات الطيارة الدائمة على سبيل المثال، لرؤية القصد منها أو مآلاتها؟ من قدم تحليلاً فعلياً لمعنى الانتقال من المجلس العسكري إلى الرئيس السيسي وما يفترض (ولكننا لا نعلم!) انه رافقه من تفاعلات في المؤسسة العسكرية المصرية، هائلة الحجم والنفوذ، ومن يناقش الصلة بينها وبين أجهزة الأمن؟ من يمكنه أن يفسر خروج الحوثيين في اليمن على تلك الشاكلة وتمددهم، وما سيحدث بعد ذلك؟ من فسر بجدية اختلافات حركة النهضة التونسية ضمن مشهد المسلمين المشتغلين في السياسة، بما يتجاوز تلك العجالة عن تأثير الغرب (العقلاني؟)، وبخاصة فرنسا، على السلوك والتفكير التونسيين، أو عن التجانس العالي للمجتمع التونسي (حقاً؟ ثم لماذا تنتج منطقة القصرين نفسها في تونس حركات ثورية يسارية ثم إسلامية سلفية خلال عقد واحد، وما الرابط…؟). وما صلة انتقال الحالة السورية من الانتفاض إلى الحرب الأهلية، ببنى المجتمع والنظام (وليس بالحدوتات والتآمرات)؟ والاهم، ما الآليات المحتملة، المرغوبة والممكنة، لوقف نزيف الدم، وما حجج وتصورات وتكتيكات من لا يرى غضاضة في استمرار الحال؟. وهناك مئات الأسئلة غيرها التي لا تجد أجوبة خارج التأكيدات المعلبة سلفاً والعنتريات والعناد بلا اكتراث فعلي بما يجري في الواقع السائر بتخبط وعشوائية.

وسط هذا القصور المخيف، تبرز نقاط يمكن تسجيلها لما لها من قيمة ودلالات. أهمها ربما، ومبتدأ سواها أنه قد لا يمكن تفسير الانتفاضات التي جرت قبل أربع سنوات، على الاختلافات المهمة بينها وفق الأماكن، من دون إدراك التغيير الذي لحق بالأنظمة الحاكمة في المنطقة في السنوات الماضية (بلا انقلاب في هوية الفئة الحاكمة). فقد جنحت السلطات إلى ما يمكن توصيفه بالبرّانية الشديدة، متخلية عن مهماتها الاجتماعية (التعليم، الصحة، السكن، العمران بكل مناحيه…) وفق أي منهج، وتاركة المشكلات الكبرى تتعفن، معلنة ذلك جهاراً نهاراً، فإذا بالخطاب الذي يفترض به الإحاطة بالشرعية وتجديدها ولو شكلياً، يضمحل ويحل مكانه الصمت أو التبرير – التبرم المبتذل. وقد خرج العديد من الحكام ومعهم المتنفذون سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، إلى السكن في مناطق معزولة مكتفية بذاتها، مكونين شرائح لا تصادف المناظر المؤذية للبؤس، ووصل الأمر إلى حد الإمعان في إهمال المدن تماماً (والقاهرة مثال واضح هنا). وبرزت فئة شابة من داخل الفئة الحاكمة تعتمد النهب بالقنص، حتى تحول الاقتصاد قطاعاتٍ مفككة تماماً (وهو ما جرى في مصر جمال وعلاء مبارك ومجموعاتهما، وعلى يد بشار الأسد…)، ما ضاعف كله وبلا حدود الفساد بمعناه المكشوف والكاريكاتوري (ومثال من بين سواه هو بن علي وجماعته وأقاربه).

تحول كل هؤلاء إلى عبء صافٍ، وفقدوا أي صفة من صفات «الضرورة» حتى في إدارة الأمور. ولعل ذلك ما يفسر تطلب «الكرامة» الذي كان أحد الشعارات الأساسية في الانتفاضات، معبراً عن قيمة رمزية مقابل «العنف الرمزي» ذاك (الذي استخدم كـ»وسيلة أساسية في إعادة إنتاج علاقات الهيمنة»)، والمتمثل هنا، في مجتمعاتنا، بالإهمال والاستهتار المستهدِفان إرساء اليأس من وجود احتمال آخر غير الواقع السائد على رغم بشاعته الفظيعة وتدهوره. وقد جرى اشتغال منهجي وراسخ وطويل الأمد على تأسيس اليأس ذاك وترسيخه وتسويقه فكرياً ونفسياً (فكرة اللاجدوى أو التشكيك بالحالمين بوصفهم مغفلين أو مشبوهين…)، مترافقاً مع القمع – التخويف حين يتململ الناس، لو حصل ذلك.

تناول المآل الذي وصل إليه اليوم الصراع الدائر، لا يمكنه تجاهل التغيير الذي يخص هذه النقطة تحديداً، حيث يسعى الرئيس السيسي مثلاً إلى استـــعادة كســب تأييد الناس له ولو من دون برنامج يجيب عن المعضلات، وبتوسل خطاب نصف عاطفي نصف شعاراتي عمومي، أو ما يعنيه صعود الباجي قايد السبسي رفيق درب بورقيبة، أو حتى ما يمثله تسويق «الحرب على الإرهاب» بصيغها المختلفة، باعتبارها غلافاً (جدياً أو جديراً) للفعل السلطوي.

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى