“داعش”… ادعاء باتريك كوكبيرن وارتباك مازن شندب/ أسامة فاروق
احتلت كلمة “داعش” المركز الثامن عالمياً ضمن الكلمات العشر الأكثر بحثاً عبر محرك البحث الأشهر غوغل. تفوق الممثل الكوميدي روبين ويليامز، محتلاً صدارة لائحة البحث من الأميركيين بعدما أقدم على الانتحار في منزله في 11 آب/أغسطس الماضي، وفي مصر تصدرت الراقصة صافيناز (أو صوفينار)، لأسباب لا مجال هنا لذكرها.
تنظيم داعش احتل الصدارة أيضا بالفيديوهات الأخطر والأشرس والأكثر مشاهدة في “يوتيوب” ومواقع التواصل الاجتماعي، فصل للرؤوس وقتل عشوائي.. مشاهد صاخبة على الهواء مباشرة لا تستطيع أفضل استديوهات هوليوود إنتاج مثيل لها، لأنها ببساطة حقيقية.
محاولات الفهم لا تتوقف، عشرات الأبحاث ومئات المقالات كلها تدور في فلك واحد تقريبا لتحاول فك شيفرة الكلمة الأشهر واللغز الأخطر. حديثاً بدأ الناشرون في ملاحقة الحدث وقريباً ستكون هناك عشرات الكتب التي تتناول التنظيم بالتنظير، أحدثها كان “داعش… ماهيته، نشأته، إرهابه، أهدافه، إستراتيجيته” للباحث مازن شندب وصدر عن الدار العربية للعلوم، و”داعش عودة الجهاديين” لمراسل صحيفة the independent في الشرق الأوسط باتريك كوكبيرن وصدرت ترجمة الكتاب عن دار الساقي. والاختلافات بينهما كثيرة ودالة.
يتحدث مازن شندب من منطلق الباحث، يطرح الأسئلة ولا يدعي حتى أنه يقدم إجابات، فالأمر مربك “الكل تائه في داعش والكل ضائع مع تنظيم الدولة، والكل محتار مع خطوة إعلان الخلافة”، بل يذهب لما هو ابعد من ذلك، ليقول بأن أشخاصا عددهم بعدد أصابع اليد الواحدة داخل هذا التنظيم يدركون حقيقة داعش وحقيقة الخلافة! يعترف شندب أيضاً بأن إنجاز كتاب عن هذا التنظيم الآن ليس بالأمر الهين، ليس فقط بسبب ضحالة المراجع، ولكن “للضياع الفكري” الذي يمكن أن يصيب أي باحث عندما يجد أن المكتوب حول داعش في غالبيته متناقض.
فى حين يتحدث باتريك، وفق منطق المراسل الصحافي، من على أرض الواقع الذي احتك به حتى وإن فشل في اختراقه، لكن الملفت أنه يتحدث كمَن يملك الحقيقة، رغم صعوبة الجزم بشيء في ما يخص هذا التنظيم الأخطر والأشرس عربياً وربما عالمياً.
لكن على الأقل هناك ما يشبه الاتفاق على البدايات. فلم يظهر تنظيم “داعش” من فراغ. هو امتداد لحركات الإسلام السياسي المسلح، وبخاصة نموذج تنظيم “القاعدة” الذي ارتبطت به غالبية التنظيمات المتطرفة التي جاءت بعده، بصلات مختلفة، كما أنه يعد امتداداً مباشراً للتنظيم الذي أنشأه الزرقاوي.. لكنه، وفق باتريك، أكثر خبرة وحنكة من التنظيم الذى انبعث منه حتى في قمة نجاح القاعدة، في حين يرى شندب أن ما أراد “الخليفة” البغدادي قوله بالإعلان عن داعش أولًا، وبإعلان الخلافة ثانياً، وبتأسيس الدولة الإسلامية ثالثاً، هو أن القاعدة أضحت تنظيماً هرماً وأن قادتها وعلى رأسهم أيمن الظواهري، باتوا خارج التاريخ بل يشكلون خطراً على المشروع الجهادي، الذي يجب وفق البغدادي، أن يسلك طريقه السليم.
وقد أثمر حصاد أبي بكر بعدما سمعنا وشاهدنا حجم الانشقاقات والتحولات التي حدثت في فروع “القاعدة”، وبعدما انخرطت في داعش مجموعة كبيرة من التنظيمات التي كانت تعمل تحت راية “القاعدة” وهو ما يفسر حجم وطبيعة الميليشيا التي بات تمثل التنظيم.
يضيف شندب بعداً آخر وهو بنوّة داعش الشرعية لثورات الربيع العربي، بل يقول “لو تواطأنا مع نظرية المؤامرة لقلنا بأن الربيع العربي ما فجّره من فجّره إلا لينجب داعش وتنتهى مهمته”! يفسر المؤلف رؤيته فيقول إن هناك “تخريفا” أصاب منطق الربيع العربي، فلسنا أمام ثورة ولا أمام فصل مرتقب من ديموقراطية عربية، ليصل في النهاية إلى أسئلة بلا إجابات واضحة: “من أعطى الأوامر للتنظيمات الإسلامية المتطرفة أن تنشط فى مصر وليبيا واليمن ولماذا؟ ومن أعطى الأوامر لتشكيل داعش ليبني دولته في العراق وسوريا ولماذا؟ وهل الأمر واحد أم أكثر؟”.
الأمر ربما أكثر وضوحا لدى باتريك، فبعيداً من نظرية المؤامرة، يرى أن أمر الثورات العربية لم يختلط على الحكومات وحدها، وإنما أيضا على الإصلاحيين والثوريين الذى نظروا إلى “انتفاضات” الربيع العربي على أنها ضربة قاضية للأنظمة الديكتاتورية القديمة في المنطقة، ولوهلة بدا أن الطائفية والديكتاتورية قد انهارتا، وأن العالم العربي يقف على عتبة مستقبل جديد، خال من الحقد الديني يتنافس فيه الخصوم السياسيون فى انتخابات ديموقراطية. لكن بعد ثلاث سنوات، وبعدما تقهقرت الحركات في أنحاء المنطقة أمام ثورة مضادة ناجحة وطائفية عنيفة متنامية، بدا أن تلك الحماسة كانت “ساذجة” لأنها ببساطة أفسحت المجال تماما، أمام الحركات الدينية والتيارات المتشددة لتتصدر المشهد وحدها.
باتريك لم يحاول البحث كثيراً في الأسباب، وأقرّ في الصفحات الأولى لكتابه بالأمر الواقع، مكتفياً بتعريف جامع في ثنايا الكتاب يقول فيه إن داعش هي طليعة حركة عسكرية دينية، لن تسمح بإزاحتها بسهولة، ومثل الفاشيين في إيطاليا وألمانيا، في العشرينيات والثلاثينيات، ستقدم على سحق كل من يحاول ذلك.
أما في إطار البحث التأصيلي حول ولادة تنظيم داعش يرصد مازن شندب مجموعة كبيرة من الآراء والتحليلات. الرأي الأول يرفض أي خلفية سياسية لتنظيم الدولة الإسلامية ويحصر الموضوع فى إطاره الديني، حيث يعتبر أصحاب هذا الرأي أن داعش يستند إلى أسس عقائدية وطائفية سنية، تسعى إلى مواجهة المؤسسات والتنظيمات الشيعية في العراق وسوريا “وقريبا في دول عربية محيطة”. وفي مقابل هذا الرأي، يوجد آخر يرفض حصر القضية بالمقاربة الدينية البحتة، فرغم تشديد أصحاب هذا الرأي على العامل الديني أو الطائفي إلا أنهم لا ينكرون البُعد السياسي، ويستنتج المؤلف أن هؤلاء يرون أن خلف الأمر كله “مخططاً إيرانياً” للسيطرة عبّر عنها الإيرانيون مؤخرا بقولهم أن إيران صارت على المتوسط، وأنها صارت على حدود إسرائيل في جنوب لبنان.
تتطابق مع هذه الرؤية رؤية أخرى تقول إن العامل السياسي هو الأساس مستنداً إلى خلفيه دينية، بمعنى أن التطرف السنّي ممثلا بداعش كان نتيجة لفعل سياسي إيراني شيعي، وهم بذلك يعتبرون أن ما حصل هو غزو خارجي لتنظيم إجرامي وجد في الفراغ الأمني في شمال وغرب العراق وشرق سوريا بيئة مناسبة للتمدد والنمو.
أخيرا يلخص شندب الأمر كله فيقول:”مع داعش عليك أن تعرف وتعلم وتدرك أن كل جرم أو عمل إرهابي يرتكبه إنما يرتكبه لتيقنه بأن هناك قطافاً سياسياً من ورائه، فيعدل عن ارتكابه إن وجد السلة فارغة”.
المدن