دليلك إلى مدينة حلب في ظل سيطرة النظام/ خالد الخطيب
أقدمت عصابة “العناجرة” المسلحة، قبل أيام، على سرقة كامل بناء “اليازجي” المؤلف من ستة طوابق في حي الإذاعة. البناء سكني كان أصحابه قد انتهوا من إعادة هيكلته وتجهيز لوازمه من جديد تمهيداً لعودة سكانه إليه. في صباح اليوم التالي لانتهاء أعمال الترميم، سرقت “العناجرة” كافة محتويات البناء، من الأثاث والأبواب وصنابير المياه إلى تجهيزات الكهرباء والتدفئة.
ويعيش الحلبيون أسوأ أيامهم في ظل السيطرة المطلقة لمليشيات النظام على مفاصل الحياة في المدينة، على عكس ما كانوا يأملون. فتحوّلت الأحياء الشرقية التي أخلتها المعارضة إلى مقاطعات تحكم كل واحدة منها مليشيا مسلحة، وأصبحت منطلقاً لأعمال الخطف والسرقة، ومقراً للعصابات المسلحة التي يتهمها أهالي حلب بارتكاب فظائع بحقهم، وإعاقة أي محاولة من قبلهم لإعادة الحياة إلى قطاعي الصناعة والتجارة اللذين اشتهرت بهما المدينة.
وأبرز المليشيات التي يتهمها أهالي حلب بالنهب والسلب هي “لواء الباقر” و”اللجان الشعبية” و”آل بري” و”العناجرة” و”لواء القدس الفلسطيني” و”كتائب البعث”، بالإضافة إلى مجموعات الشبيحة التي تنتشر في أحياء المدينة الغربية. ويرتبط هؤلاء بمسؤولي النظام الأمنيين ويتقاسمون معهم العوائد التي يجنونها من السرقة.
ولم يفِ النظام بتعهداته بإعادة تشغيل الخدمات العامة من مياه وكهرباء وصحة وتعليم وبلديات، على الرغم من مضي خمسة شهور تقريباً على سيطرته الكاملة على المدينة. وما تزال موجات العطش تجتاح الأحياء الغربية التي تحوي العدد الأكبر من السكان على الرغم من انتزاع النظام محطة الضخ قرب نهر الفرات من يد تنظيم “الدولة الإسلامية”. ويعود ذلك إلى تحكم المليشيات بمحطات التحويل، التي تجني من ورائها أرباحاً طائلة عبر تشغليها لأسطول من الصهاريج المخصصة لبيع المياه.
ليس غياب المياه وحده ما يؤرق الحلبيين، بل شمل ذلك أيضاً مختلف القطاعات الخدمية التي كانوا يعتقدون أنها ستنهض بعد سيطرة النظام على كامل المدينة، وفقاً لوعوده التي سبقت وتلت العملية العسكرية الواسعة نهاية العام 2016. فالخدمات تحتكرها وتتحكم بها المليشيات وأصبحت مصدر دخل لها. والمشافي التابعة للنظام كمشفى الجامعة والرازي وزاهي أزرق والتوليد ومشفى جراحة القلب، لا تقدم خدماتها للعامة مهما كانت الحالات اضطرارية. ويحتاج المريض إلى وساطة من قبل المليشيات التي أصبحت وصية على هذه المشافي، التي تقع جميعها في الأحياء الغربية، التي ظلت بعيدة عن المعارك طيلة السنوات الخمس الماضية.
اللجوء إلى المشافي الخاصة والعيادات التخصصية أصبح مستحيلاً بالنسبة لأصحاب الدخلين المتوسط والأدنى، وتجاوز سعر الكشف عند الطبيب المختص 5 آلاف ليرة سورية (10 دولار)، ويصل الرقم أحياناً إلى 25 ألفاً إذا ما أجرى المريض تحاليل مخبرية بسيطة، أي ما يعادل راتب موظف من الدرجة الثالثة في مؤسسة عامة.
ويشكو الطلاب في جامعة حلب من تحولها إلى وكر لعناصر مليشيات النظام التي تدير فيها عدد من شبكات الاتجار بالحبوب المخدرة. وتسود حالة من التنافس بين المليشيات للسيطرة على الجامعة، ما تسبب بنشوب عدد من المشاجرات في الحرم الجامعي استخدمت فيها الأسلحة النارية والبيضاء. ولا يستطيع أمن الجامعة ولا الهيئات الإدارية في الكليات منع عناصر المليشيات من دخولها حاملين معهم أسلحتهم.
ويعاني الحلبيون من تسلط شرطة المرور على رقابهم، وأصبحت دوريات الشرطة الثابتة والمتنقلة أشبه ما تكون بدوريات جامعي الضرائب والتشبيح العلني، ويتم فرض المخالفات بشكل اعتباطي، ولدى كل دورية شرطة عدد يومي ومحدد من المخالفات يجب توزيعها على سائقي السيارات. في الوقت ذاته يمكن مشاهدة عناصر المليشيات وهم يجوبون شوارع المدينة بأقصى سرعة، بسياراتهم العسكرية والخاصة، وبالدراجات النارية، ولا يمكن لأي جهة إيقافهم أو محاسبتهم على التجاوزات المرورية التي كثيراً ما تسببت بمقتل وجرح المارة من المدنيين.
يقول أحد سكان حي الجميلية لـ”المدن” إن الدراجات النارية “الموتورات” ظاهرة جديدة تنتشر بشكل كبير بين عناصر المليشيات والعصابات المسلحة، وتستخدم عادة في أعمال السرقة والنهب، بسبب سرعتها وقدرتها على الحركة في الشوارع الضيقة والمزدحمة، ناهيك عن الرعب والهلع الذي تسببه للمدنيين. ويحق لسائقي الدراجات النارية من عناصر المليشيات ما لا يحق لغيرهم، وكثيراً ما تكررت حوادث ضرب سائقي السيارات العامة والخاصة في حلب من قبل هؤلاء بسبب خلافات مرورية أو التأخر في إفساح المجال في الطريق لمرور المجموعات المسلحة.
ويعاني الحلبيون في الأحياء الغربية من ظهور عصابات خطف تديرها المليشيات وتستخدم فيها النساء لاستجرار الشباب من أبناء الطبقة ميسورة الحال. الخطف يطال أيضاً الأطفال، وقد سجلت عشرات الحالات منذ بداية العام 2017 انتهى بعضها بمقتل أشخاص تم خطفهم بسبب عدم استجابة الأهل لمطالب الخاطفين.
مليشيات النظام صادرت عدداً كبيراً من المنازل والشقق في الأحياء الغربية، ولم تسلمها لأصحابها الأصليين الذين عادوا منذ سيطرة النظام على كامل المدينة. بعض المنازل تم تحويلها إلى مقرات عسكرية، وأخرى تم تأجيرها واستملاكها من قبل المليشيات، وأتاح ذلك فرصة كبيرة لنشوء مكاتب تأجير واحتيال تستغل حاجة المدنيين للسكن لتؤجر على سبيل المثال المنزل لأكثر من مستأجر في الوقت نفسه وتقبض مبالغ مقدمة، ولا يستطيع المستأجر الذي تعرض للاحتيال أن يقدم شكوى بسبب تبني المليشيات لهذه المكاتب.
وتنتشر في الأحياء الغربية ظاهرة السرقة بشكل واسع منذ بداية العام 2017، وتسجل بشكل يومي العديد من حالات السرقة لمحال الأجهزة الالكترونية والفنادق ومحال المفروشات. السرقات عادة ما يقوم بها عناصر المليشيات الذين تحول الكثير منهم للتشبيح والسرقة، ويتم خلع وكسر أبواب المحال المستهدفة أمام سكان الأحياء ولا يتجرأ أي أحد منهم على مقاومتها أو منعها، أو حتى إبلاغ الشرطة لأنه سوف يكون فريسة للانتقام ومصيره الموت على يد عناصر المليشيا.
ونشأت في الأحياء الغربية تجارة جديدة تعتمد على البضائع المسروقة، يتمتع أصحابها بحماية أمنية من ضباط “المخابرات الجوية” الذين يتقاسمون معهم الأرباح الطائلة، التي يجنونها من شراء البضائع المسروقة ثم بيعها إلى مشاريع إعادة الإعمار للمؤسسات والإدارات التابعة للنظام، أو مشاريع البناء في القطاع الخاص التي يُفرض على أصحابها شراء لوازمهم من تجار المسروقات.
جزء من رأس المال الصناعي والتجاري كان قد عاد إلى مدينة حلب بعد سيطرة النظام على كامل المدينة، وبالتحديد رؤوس الأموال التي توجهت قبل خمس سنوات تقريباً إلى مصر. قسم كبير منهم رجع إلى المدينة ليعيد تشغيل مصانعه المتوقفة في قطاعات النسيج وصناعة الأحذية والألبسة الجاهزة وتصنيع وإعادة تدوير المواد البلاستيكية وصناعات المواد الغذائية وتعليبها. ويواجه هؤلاء الصناعيون والتجار ابتزاز مليشيات النظام التي تقاسمهم مشاريعهم ومعاملهم الخاصة، وتفرض عليهم مبالغ طائلة كـ”ضرائب حماية”. وتتحكم المليشيات بأسعار المواد الخام اللازمة للصناعة والتجارة القادمة إلى حلب، من خلال الحواجز التي تنتشر على طريق حلب–السلمية، وبين المدينة والضواحي أيضاً.
ويتهم الصناعيون والتجار وأصحاب المشارع الصغيرة في الأحياء الغربية جهات معينة بالتعاون مع المليشيات لسرقة أموالهم. ومن بين تلك الجهات المتنفذة “مجموعة عفر” التجارية، التي تمسك باقتصاد حلب بالتعاون مع أمن النظام والمليشيات، وتفرض رسوم إدخال وإخراج البضائع، وتفرض الضرائب على الصناعيين والتجار. كما برزت عائلات أخرى تتمتع بسلطة كبيرة ويد نافذة وتتلاقى مصالحها مع مصالح المليشيات.
مليشيات النظام بحلب بالاشتراك مع المتنفذين من أصحاب رؤوس الأموال في المدينة تسيطر على التجارة والصناعة والخدمات بشكل شبه كامل، ولا يمكن لأي نشاط تجاري أو صناعي أن يقوم إلا بعد أن يذهب جزء كبير من أرباحه إلى جيوب قادة المليشيات. هذا التزاوج بين المال والسلاح خلق أجواءً من الاحتقان الشعبي الذي ظل التعبير عنه في أحسن الأحوال في مواقع التواصل الاجتماعي التي غصت بالشكاوى والمناشدات التي تدعو لتخليصهم من هذا الجحيم الذي يعيشونه.
المدن