دماء الشهداء لا تكذب: ما لم يفهمه بشار الأسد وبقايا أنظمة الاستبداد
د. يحيى مصطفى كامل
‘إن الذين يصنعون نصف ثورة يحفرون قبورهم بأيديهم’……. سان جوست
فيما مضى كتبت أجرم أنظمة العنف والاستبداد التي حكمتنا وبددتنا مديناً إياها بالجهل والغباء بالإضافة إلى دماء الشهداء؛ بعدها سقط القذافي كما كان من الواجب والمتوقع ولم يبق من رؤساء الانظمة سوى الفتى بشار وتابعيه من القفف وقاطعي الطريق وأبواقه من الإعلاميين التافهين، ولا يعني هذا مطلقاً أن ذلك النظام المجرم القاتل بامتياز مازال يتوفر على أية مزايا إيجابية أو مكتسباتٍ شعبية تؤهله للاستمرار وتبرر بقاءه، وإنما تكمن المشكلة في أن نجاحه الوحيد طوال الأربعة عقودٍ السابقة تجسد في منظومةٍ أمنٍ تستند على فرزٍ طائفي شبه صارم واصطناع علاقاتٍ إقليمية أضحت أوراق ضغطٍ مكنتاه وما تزالان من البقاء….فهو على ذلك واقعٌ وسط شبكةٍ من الخيوط المعقدة والمصالح المتضاربة وعلى خطوط التماس والنفوذ الإقليمي بين المعسكرات المتناحرة التي حالت دون التدخل أو الضغط المؤثر، مما يمكن هذا النظام المجرم القاتل من الاستمرار في حملةٍ دمويةٍ محكوم عليها باللاجدوى وجعلنا جميعاً شركاء مشاهدين في جريمة الصمت أمام حملة اغتيالٍ وإبادةٍ جماعية لجماهير الشعب السوري.
لكن كل ذلك لا ينفي أزمة النظام المحيقة ونهايته الوشيكة المتقدمة بخطى ثابتةٍ واثقةٍ دامية، فعقليته (بفرض وجودها) محكومةٌ بملكةٍ أمنيةٍ متضخمة تجور على ما سواها من القدرات التي ذبلت عبر عهود القمع والكبت والتعذيب دون مقاومةٍ تشبه ما يلقاه الآن، تتسلط عليها تصوراتٌ ومعطياتٌ من عالمٍ ميت وحقبةٍ انتهت، في تاريخ سورية قبل غيرها..لذلك كله لم يفهم بشار وزبانيته وسائر مخلفات الأنظمة التي تتشبث بالبقاء عدة مستجداتٍ فارقة تجعكل العودة إلى الوارء مستحيلة:
بدايةً لم يفهم بشار ورهطه مغزى ثورات الربيع العربي حين هبت رياحاها فرحب بها معتبراً إياها رد اعتبارٍ له ولأبيه الرحيم القلب ونظامه فتصور لجموده العقلي وحماقته أنها تصب في أشرعته وأنها رد فعلٍ متأخر على التنكب عن مسار المقاومة وعلى كامب ديفيد وما تعنيه وما جرته، ولا ريب أن فيها شيئاً من ذلك إلا أنها في الأساس ثوراتٌ على القمع والاستبداد السياسي والاقتصادي وما يستتبعه من التهميش وبثٍ للفرقة والتطاحن وفقاً للمرجعية إقليميةً كانت أم طائفية، وهي الأمور التي يمثلها نظامه المهترئ اكثر من غيره باقتدار.
لم يفهم أن الخوف من الاعتقال فالتعذيب والقتل الذي يردع الناس لم يعد قائماً، بل انكسر جداره العازل مخلفاً مكانه كراهيةً سوداء ورغبةً مستعرةً حارقةً في الثأر؛ لــــم يدرك أساطين النظام أن جدوى سلاح الإرهاب والترويع تكمن في التلويح به مع الاقتصاد في استخدامه بحيث يظــــل فاعلاً، يرتع في مخيلة الشعب…أما حين يتطور بهذا الاسلوب متخطياً كل تصــــور فيصبح القتل كثيفاً، عشوائياً فإن الخوف يفقد معـــناه ويدفــع القتل الناس للتضامن والتصدي… إن غريزة الخوف خلقت لتحمي الإنسان أما حين تباد شوارعٌ ومدنٌ بأكمـــلها فتكون النتيجة عكسية تماماً فتبعث في الناس حساً فدائياً مستبسلاً هازئاً بالموت…
لم يفهم بشار وأعوانه أن إذلال شعبٍ عريق ٍ وأبيٍ كالشعب السوري لا يمكن أن يستمر بهذه الصورة، ولا أن التعايش بين النظام وبين الشعب استحال مذ فقد مئات الآلاف ذويهم على يد آلة بطشه.
لم يفهم أن الشعب السوري حين ثار لحريته وكرامته كاسراً كل التوقعات التي كانت تتحسب بطش قوى النظام الأمنية قد استعاد اعتداده بنفسه وإحساسه بقيمته، فقد فاجأ نفسه والعالم بطول نفسه وصلابته وقدرته على المقاومة وابتكار أساليبها، وأنه يستحيل عليه التفريط في تلك المكتسبات.
لم يفهم بشار ونظامه على وجه الخصوص أن قضية الممانعة والصمود في وجه إسرائيل التي كان يزايد بها على سائر الأنظمة (التي نعترف قبل غيرنا بأنها لا تقل عنه انحطاطاً..) فتوفر لنظامه نوعاً من المسوغ الأخلاقي قد سقطت وتهشمت تماماً، ليس لأن تصريحات السيد رامي مخلوف وأمثاله الذكية فقأت هذه الفقاعة، وإنما لأن الواقع العملي المشهود يكذبها ولأن الشعب الذي يتعرض للإبادة من هكذا نظامٍ قاتلٍ بربريٍ منحطٍ لن يشتري منه دعاوى الممانعة على جبهات الآخرين فضلاً عن كونها ليست ألح أولوياته أمام احتمالات الموت المجاني اليومي الحاضرة بشدة..لم يفهم أنها وفقاً لتعريف نظامه صارت ذات معنىً رث، وفي حومة البارود والشهداء الساقطين والدم المسكوب لم تعد تعني أو تساوي شيئاً، بل بالأحرى تحورت وصارت تعني مقاومة تقدم قواته الهمجية وممانعة الإهانة والقتل؛ الأهم من ذلك أنه بسقوط ورقـــــة التــــوت الهزيلة تلك ظـــهر ذلك النظام في كامل عريه القبيح وتفاهته وخوائه: أمنياً أولاً وأخــيراً منعدم المبادئ والأخلاق تماماً.
لم يفهم الفتى بشار أن قمة الخزي تتمثل في كون النظام الذي ورثه عن أبيه والقائم على الفرز الطائفي والإقليمي الذي يصب في انفراد طائفةٍ بعينها بمقاليد الأمن في بداية عهده ثم ما لبثت أن استأثرت بالثروة ايضاً وسط توافقاتٍ مع أثرياء المدن، ذلك النظام الذي ادعى العلمانية وتبجح بتخطي الطائفية لا يجد له دعماً صريحاً سوى من الأقليات الطائفية، والمفارقة أن بعضها ممن دُفع أفراد طائفته للهجرة بشكلٍ أو بآخر طوال عهده الميمون!
لم يفهم أن حجة وقصة العصابات المسلحة والأطراف الثالثة التي مازال يلجأ إليها أسوة بالنظام المصري لم تعد تخيل على أحد ولم تعد تجد من المغفلين من تقنعه، كما أن تصديقها يثبت أن ذلك النظام الأمني الدماغ ذا الآلة العسكرية الباطشة فاشلٌ بامتيازٍ وتفوق.
أما آخر ما لا يفهمه هو أن الشعب السوري يفهم جيداً مقولة سان جوست التي صدرت بها المقال وإن لم يكن الكثيرون قد سمعوا بها، فهم يدركون بعمق أن هذا النظام لا أخلاق لديه ولا أمان له، وأنه لن يتورع عن القتل بلا حدود.. يقبلـــــون على التضحــــيات الباهظة أولاً لــتوقهم الشديد للحرية والكرامة والانعـــتاق من نير ذلك النظام المجرم وثانياً ليقينهم من أن رجوعهـــم إلى بيــــوتهم يساوي الانتحار…لا يفـــهم بشار أن مجرد تصوره أنه يستطيع الاحتيال عليهم مهينٌ لهم في حد ذاته …و أنهم ليست لديهم أية أوهام في مقدرة هذا النظام على الحوار بعد كل ما سفك من الدماء.
لعل بشاراً يطمح في التفوق على أبيه في القسوة وفيما سفك من الدماء في حماة وغيرها وفي استهلاك مرادفات القمع والإرهاب من معجم العربية على ثرائه، ونحب ان نطمئنه أنه ليس بعيداً عن ذلك، وهو الآن ببلاهة يحسد عليها وصل إلى نفس الدرب الذي سبقه عليه سائر المخلوعين حيث يخير شعبه بين نظامه أو الفوضى والحرب الاهلية ناسياً أو جاهلاً أن الأصل في الأمور أن الشعب هو محور الأمان والاستقرار لا النظام وأن دعواه تلك إقرارٌ ضمني بالفشل في صناعة مجتمعٍ متماسك ينبذ الطائفية والتشرذم.
لقد كذب بشار ونظامه وأجرما… وسوف يستمران في الكذب والقتل والإجرام، فلم يعد لديهما سوى العنف ولا يفهمان سوى منطق القوة وقد وصل الصراع بينهما وبين طالبي الحرية من شعبه إلى مفترق طرقٍ لم يعد معه التعايش بينهما ممكناً منذ عهدٍ طويل في عمر الثورة…
للأسف، ربما أطالت المؤامرات الإقليمية عمر نظامه…و ربما تكبد الشعب السوري المزيد من الشهداء والآلام والخسائر العينية، ولن يعدم من الكتبة والأفاقين وذوي المصالح والمأجورين من يدافع عنه..لكن دماء الشهداء وأجسادهم لا تكذب وهي تشهد وتصدح بأن النظام ساقطٌ لا محالة.
‘ كاتب مصري
القدس العربي