دمشق بين السيناريو اليمني وسيناريو كوسوفو
عبدالوهاب بدرخان
قيل في تحليل فوز محمد مرسي، مرشح «الإخوان المسلمين»، بالرئاسة في مصر أنه أبقى «الربيع العربي» على قيد الحياة، وبالتالي فإنه ضخّ جرعة تشاؤم داخل النظام السوري، ربما لأن فوز المرشح الآخر أحمد شفيق كان سينعش الفكرة التي يحاول ترويجها منذ سبعة عشر شهراً: بقاء النظام السابق، أو إعادة إنتاجه على الأقل.
بمعزل عما إذا كان فوز الرئيس «الإخواني» يعني «ربيعاً» في مصر أم لا، وهل ينعكس إيجاباً على انتفاضة الشعب السوري أم لا، يُفترض أن يكون النظام السوري تيقن الآن بأن عجزه عن كسر الانتفاضة حدّد نهايته مهما أمعن في التقتيل والتدمير لإطالة الأزمة.
كان بإمكانه أن يكتب نهايته بنفسه، وقد أتيح له ذلك. كان بإمكانه أن يجعل من تحالفه مع روسيا وإيران مصلحةً لسورية وشعبها، لكنه فضّل استخدام هذا التحالف لمصلحة النظام والطائفة والعائلة. والنتيجة الراهنة أن روسيا مدعوة – وإيران تريد أن تُدعى – إلى حضور «السوق» لتبيعا وتشتريا في المساومة الوشيكة على رأس النظام وبقية أعضائه.
اعتقدت موسكو وطهران أن مهمة كوفي أنان وخطّته يمكن أن تكونا خشبة الخلاص للنظام. راهنتا معه على تهاون الدول الغربية، وبالأخص الولايات المتحدة، وعدم استعدادها للتدخل. لكن عدم التدخل السريع كان يعطي الحليفين وقتاً لترشيد الإسراف في إراقة الدماء، فاستغلّاه للتورط أكثر في تأجيج العنف، وكلما بررا لنفسيهما أنهما يدافعان عن مصالحهما جازفا بخسارتها.
على رغم ضغوط الواقع توقف أحد الدمشقيين أمام انشغال وسائل الإعلام بقراءة «لغة الجسد» وحركة الشفاه في الصور المتلفزة لباراك أوباما وفلاديمير بوتين. وما لبث أن أنتج روايته الرمزية الخاصة لما دار بين الرجلين. سأل الأميركي الروسي: كم تريد في هذه الشركة (مع النظام السوري)، قال الروسي: مليون دولار. الأميركي: هذا كثير. الروسي: أسستها قبل خمسين سنة ودفعت فيها دم قلبي. الأميركي: أدفع لك مئة ألف دولار وأبقيك مديراً للشركة. الروسي: هذا قليل… ماذا لو لم أبعها لك؟ الأميركي: شاور عقلك واقبل العرض، فبعد شهرين قد تُطرد ولا يعود لك موطئ قدم فيها، ما رأيك؟
هذا الحوار الكاريكاتوري يلخّص واقع حال النظام أيضاً. فمن دعوته إلى عدم القتل، إلى حضّه على قيادة الإصلاح والامتناع عن القتل، إلى تدخل الجامعة العربية لمساعدته في وقف العنف وإقامة حوار مع المعارضة، وأخيراً إلى تدخل دولي – عربي، انتقل النظام من فشل إلى فشل، ومن غباء إلى صلف، ومن القتل إلى المجازر، ومن التشبيح إلى التدمير واقتلاع السكان… معتقداً أنه سيفلت من كل هذه الجرائم. وبعدما بدد احتمالات الحل السياسي الداخلي، والنقل السلمي للسلطة، وعروض الخروج الآمن، ها هو يضع المجتمع الدولي أمام حتمية إخراجه من السلطة بعدما صار أسير جرائمه ولم يعد يؤتمن أو يصلح لأي دور في مستقبل سورية. كان بإمكانه أن ينخرط في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي في ما يشبه «السيناريو اليمني» على رغم حصيلة دموية كانت تقلّ آنذاك عن عشرة آلاف ضحية، أما الخيارات المطروحة حالياً فلا بد أنها أقل من ذاك السيناريو، فليس وارداً منح رأس النظام وأعوانه أي حصانة، وكل ما يمكن أن يتوقعوه من روسيا أن تضمن هروبهم. كانت لائحة المرشحين للاستنقاذ أكبر ثم راحت تتقلّص. صارت الأسماء معروفة، لذلك وجد المُستَبعدون ضرورةً للاعتماد على أنفسهم والاتصال بالمعارضة طالما أنهم سيُتركون لمصيرهم. ولم تعد الأجهزة الخارجية تتردد في التوسط لهذا وذاك كي يبقى، بعدما أصرّت روسيا على استبقاء أربعة تثق بأنهم يضمنون مصالحها، وبعدما اتضح أن للأميركيين والفرنسيين والبريطانيين والألمان رجال مفضّلون، وأن الإيرانيين سيسعون إلى تحصين عملائهم على رغم هذا الازدحام، لا بد أن لإسرائيل خيارات ستنكشف في هذه التنزيلات المفتوحة.
يتوقع أن يلتقي قريباً، ربما بعد غد، في جنيف ممثلو دول «مجموعة الاتصال» التي اقترحها كوفي أنان لمساعدته في تفعيل خطّته لوقف العنف والتمهيد لحل قائم على «نقل السلطة». وتبدو هذه «المجموعة» بمثابة البديل من المؤتمر الدولي الذي سعت إليه روسيا، ثم ارتضت أن يُعقد تحت مظلة «خطة أنان»، وشدّدت موسكو وأنان على مشاركة إيران بصفتها جهة مؤثرة مسموعة الكلمة في دمشق. لكن حضور إيران بالنسبة إلى الدول الغربية لا يختلف بشيء عن حضور النظام السوري نفسه، وفي حال كهذه ما الذي يمنع حضوره والمعارضة السورية أيضاً. مفهومٌ طبعاً أن أنان يريد إشراك إيران لأنها لاعب إلى جانب «الشبيحة» والقتلة، من قبيل الموازنة مع الحضور السعودي والتركي والقطري الداعم للمعارضة. لكن الفارق أن مصلحة إيران كانت ولا تزال تقتصر على بقاء نظام يُراد تفكيكه، في حين أن المقاربة العربية تتعلق بسورية نفسها ووحدة شعبها وأرضها وجيشها ودولتها. من هنا، إن إيران يمكن أن تستغلّ الخلافات التي لا تزال قائمة حول تفاصيل خريطة الطريق ل- «نقل السلطة» لتعطيل أي اتفاق عليها، خصوصاً إذا كان حضورها يعطيها حق النظر والاعتراض.
إذا أمكن خريطة الطريق هذه أن ترتسم فعلاً فإنها ستعني بداية توافق دولي على حل سياسي في سورية، وبشروط حاول النظام دائماً التهرب منها والتحايل عليها. فحتى روسيا وإيران باتتا تعرفان أن النظام يجب أن يدفع ثمن الشروع في الحل، وإلا فلا حل على الإطلاق. ففي بداية الأزمة كان بإمكان النظام أن يضحي بعدد قليل من الرؤوس، وبعدئذ بعدد من «رموز» القمع والوحشية، وأخيراً صار ملزماً بتقديم رأسه. في المقابل يجري تحضير المعارضة في الداخل والخارج للدخول في حوار لن تتضح معالم طرفيه أو أطرافه إلا مع بداية تطبيق الخطة. وتتوجس قوى المعارضة من ضغوط قد تمارس عليها لقبول ما سيظهر بدايةً أنه «حوار مع النظام»، إذ كانت اشترطت أولاً وقف القتل وإطلاق المعتقلين عندما كان لديها استعداد للحوار، أما بعدما اتسع بحر الدم بينها وبين النظام وتأكد لها أنه لن يوقف القتل بأي حال فلم يعد أي حوار معه مقبولاً. لكن المعارضة ستضطر إلى ذلك متى اتضح أنها إزاء إرادة دولية حتى لو قُدّر أن يبدأ الحوار مع استمرار النار، باعتبار أن هذه هي الطريقة الوحيد لتفكيك المعادلة المستعصية: لا النظام قادر على الحسم على رغم ترسانته، ولا الانتفاضة قادرة على إسقاطه على رغم أنها زعزعته.
في أي حال، هذا مجرد سيناريو، قد ينضج سريعاً وقد يتماطل بفعل تعنت النظام وتملّصه، أو بسبب حسابات ومطامع ومساومات روسية – صينية – إيرانية. أساسه أن يرحل رأس النظام وزمرة القتلة. عقدته أنه يطمح لاستخلاص نظام آخر من أطراف ليس بينها أي لحمة سابقة. وعماده توافق أميركي – روسي لا يزال في حدّه الأدنى. لكن الأكيد أن نجاح هذا السيناريو أو فشله سيحدد طبيعة التدخل الدولي الذي سيكون ضرورياً في الحالين، سواء وفقاً للنموذج اليمني أو للنموذج الكوسوفي.
* كاتب وصحافي لبناني
الحياة