رشا» … الأم الطبيبة زمن الحرب»
ما يزال زوجي الطبيب عبد العزيز يواصل عمله في المركز الصحي في كفرزيتا في ريف حماه الشمالي، البلدة التي نزحنا إليها قبل عدة أيام من مدينتنا مورك، الواقعة شمال مدينة حماه 30 كيلو متر وسط سوريا والخاضعة لسيطرة الثوار، أفحص طفلة مريضة عمرها ثلاثة أعوام أحضرتها أمها إلى منزلي الجديد، علامات الوجه والاستقصاءات الطبية تشير إلى اليرقان، جهاز اللاسلكي الذي يرصد حركة الطيران الحربي والمروحي في الأجواء، يجلس طفلي عمرو ذو الأعوام الخمسة في صالة المنزل، محاولاً إلهاء نفسه ريثما أنتهي من عملي، يوقف تشخيصي لمرض لطفلة صوت الراصد في جهاز اللاسكلي الذي يراقب حركة الطيران وأماكن القصف.»انتباه، المروحي بأجواء كفرزيتا ويستعد للتنفيذ»، أطلب من والدتها حملها واللحاق بي، اتجه إلى ولدي، منتظرة سماع صوت دوي البرميل المتفجر،»المروحي نفذ». يقول الراصد عبر الجهاز. تتسارع دقات قلبي وأنا أحضنه، أنظر إلى الأم وطفلتها بجانبي، أشاهد رعشة يد الأم وهي تحيط بطفلتها، لحظات قليلة ويبدأ الصوت بالارتفاع تدريجياً، إنه صوت البرميل المتفجر، أضع يديّ على أذني عمرو كيلا يسمعه، الصوت يعلو ثم يعلو أكثر فأكثر، ليصبح أشبه بطائرة حربية فتحت جدار الصوت، أغمضت عيني، أسمع صوت انفجاره وأصوات الزجاج المتكسر، الغبار يملأ المكان، أتحسس طفلي بين ذراعي …» أنت بخير عمرو». لا أسمع صوته، بل أتحسس رجفات جسده تداعب أناملي، أحاول التكلم معه مرة أخرى.»نحن بخير يا أمي». أخيراً نطق عمرو وهو بخير. حينها بدأت أسمع صوت الطفلة المريضة وهي تبكي بعد سماعها لصوت الانفجار القوي الذي خلفه البرميل المتفجر.
واحدة من حوادث كثيرة مرت بها الطبيبة رشا الحجي خلال 5 محطات نزوحها من بلدتها مورك ذات الموقع الاستراتيجي والتي شهدت أعنف المعارك بين الثوار والقوات الحكومية مدعومة بعناصر من حزب الله من أجل السيطرة عليها ربيع العام 2015، رحلتها بدأت من البلدات القريبة في ريفي حماه وإدلب متجهة شمالاً حتى وصل بها المطاف خريف العام الماضي إلى مدينة إدلب شمال غرب سوريا 40 كم من الحدود التركية.
رشا طبيبة أمراض باطنية، وواحدة من طبيبات سوريات في الشمال السوري لا يزيد عددهن عن أصابع اليدين، تعايش كل يوم آلام السوريين الجسدية والمعنوية، تشاركهم حالات النزوح المستمر بعدما هجرت مورك قبل 3 أعوام تاركة مشاهد حقول الفستق الحلبي الخضراء الممتدة على مدى البصر، والأبنية المتلاصقة ذات الحجارة البيضاء، التي توحي بثراء أهل المدينة، وتلتقي بأوجاع وأمراض تشخصها في عيادتها المتنقلة، متجولة في المناطق الريفية شمال سوريا المحرومة من الرعاية الصحية، تجوب بعربة إسعاف يومياً أرجاء المحافظة إلى المناطق البعيدة عن مراكز المدن لتقديم الخدمات الطبية للمرضى، في ظل نقص الكوادر الطبية وهجرتها إلى تركيا أو الدول الأوروبية، وضعف التغطية الصحية للمناطق الخارجة عن سيطرة نظام الأسد، معتمدة على سماعتها الطبية والمقاربات الطبية واستقصاء الحالات المرضية، لا وجود لأجهزة التخطيط والإيكوغراف.
تقول الطبيبة رشا:»أحاول الوصول إلى المرضى ممن لا يملكون القدرة على مراجعة الأطباء، هؤلاء المرضى لا يفكرون في زيارة الطبيب، لجهلهم بأمراضهم، ولضعف التغطية الصحية والمشافي التخصصية في المناطق المحررة، بعد تقطيع أوصال سوريا أصبح من الصعب الوصول إلى مناطق سيطرة النظام لإجراء الفحوص الطبية والتحاليل المخبرية، فهي غير متوفرة في المناطق المحررة، خاصة الحالات المزمنة، أقف عاجزة أمام بعض الحالات المرضية لعدم قدرة المرضى من إجراء التحاليل المخبرية، معظم الحالات تعاني ارتفاعاً بضغط الدم والسكري، حالات تشمع الكبد وانحلال الدم، والفشل الكلوي، لا يملك المرضى ثمن الأدوية والعلاج المرتفع لهذه الأمراض، يمكن للمريض أن يموت دون أن يكتشف مرضه، ففي جولتي الدورية إلى القرى النائية، وخلال معاينتي أحد المرضى، قاطعني صوت رجل طاعن في السن. أرجوك يا دكتورة، ولدي يحتضر ولا أعلم ماذا أفعل، خمسة عشر يوماً لا ينام الليل ولم أترك طبيباً أو صيدلياً أو طبيب أعشاب إلا وعرضت حالة ولدي عليه، ولكن دون فائدة، لا أريده أن يموت بين يدي. قالها الرجل وقطرات من دموعه بدأت تتساقط على لحيته البيضاء، خرجت من المكان الذي كنت أعاين فيه الحالات المرضية، إلى الشارع، لأجد شاباً في ربيعه الخامس والعشرين، مستلقياً داخل صندوق عربة زراعية، لم أكن أسمع سوى صرخات وأنين يقاطعان أصوات بطنه الذي أتحسسه بسماعتي الطبية، التهاب بنكرياس حاد، خمسة عشر يوماُ أمضاها المريض دون معرفة سبب ألمه، ففي منطقته لا وجود لطبيب مختص يكتشف الحالة.
تعمل الطبية رشا ستة أيام في الأسبوع خارج المنزل، تتنقل بعيادتها تارة عبر طرق ترابية، وتارة عبر طرق رئيسية ينتشر فيها عناصر مسلحة نقاط تفتيش اعتادت رؤيتهم، تبحث لعيادتها المحمولة عن مكان آمن في القرى خشية قصف الطيران الذي لا يكاد يغادر الأجواء، ولا يميز بين المدنيين والأهداف العسكرية، تلجأ إلى المساجد، أو المستودعات، أو النقاط الطبية في البلدات، لتشخص الحالات المرضية. ظروف العمل قاسية جداً، تقول رشا دائما ما يستهدف الطيران الحربي منظومات الإسعاف والدفاع المدني، منذ أقل من شهر دمر الطيران الحربي مشفى ميدانياً في معرة النعمان، واستشهد معظم كادر المشفى من زملائنا. في إحدى زياراتنا الدورية لقرية في جبل الزاوية جنوب إدلب، قبيل وصولنا للقرية شاهدنا الطائرة الحربية في مشهد اعتدنا رؤيته، عند وصولنا ساحة القرية قصفت بالصواريخ الفراغية، الأهالي يتراكضون في الشوارع باحثين عن ملجأ، غادرنا السيارة هائمين على وجوهنا في الحقول الزراعية. تعالوا إلى هنا فما زالت الطائرة في الأجواء. كان نداءً من امرأة تطلب منا الاحتماء داخل منزلها لحين مغادرة الطائرة.
وتتعدد الحالات التي تعايشها الطبيبة رشا يومياً وتدفعها للبقاء في محيط يسوده الموت، يثقلها كاهلها طفلها الوحيد عمرو، تراه في كل حالة طفل مريض، أو طفل تراه على شاشة التلفاز فقد حياته نتيجة القصف.»أنا طبيبة وزوجي طبيب ولدي طفل وحيد، نستطيع العمل ضمن اختصاصنا إذا قررنا مغادرة سوريا». تتحدث رشا عن مستقبلها وعائلتها، لكنها تسارع لنفي الفكرة. أخاف على طفلي ككل الأمهات في سوريا، أتخيل للحظات أنني انتشله من تحت الأنقاض، متحسسة شعره الذهبي، أو أراه جثة هامدة في يوم من الأيام، لكن شعور الأم يدفعني لأقف بجانب الأمهات اللواتي يبحثن عن طبيب يعالج أولادهن، ومهنتي الإنسانية التي درستها في جامعة حلب، كل ذلك جعل من ولدي دافعاً لي لأقدم المزيد، أحاول نفي ما أراه بابتسامة طفلي حين أعود من العمل، حين يضمني وهو نائم ، للحظات أفقد قدرتي على التحمل، لماذا قُدّر لي أن أكون أماً وطبيبة في زمن تسوده الحرب، لماذا لم أكن مثل كل الأمهات في العالم، ينتظرن مستقبل أبنائهن في الجامعات أو الحياة المهنية، وترافقهم ذكريات الحب والاستقرار، لماذا لم أكن مثل طبيبات العالم، يعملن في ظروف آمنة، أخاف على المرضى من الموت القادم من السماء والأرض، ومن الموت الذي يعانونه نتيجة الأمراض. في لحظات الضعف هذه أجد زوجي يمحو كل أفكاري السوداوية، بحضنه الدافئ، وكلماته المستبشرة بغد أفضل، يبعث في الأمل من جديد، ويزيد من عزيمتي لمواصلة مهنة أحببت أن أمتهنها منذ نعومة أظفاري.
Cet article est la version originale du portrait de Ahmad Murad, correspondant de la revue Tammaddon (Civilisation) à Idlib, «Rasha al-Hajji, panser sous les bombes» paru dans le numéro spécial le Libé des Syriens.