رفيق شامي يحكي عن “صوفيا” ودمشق ومآسي اللاجئين
يأخذنا حوار DW عربية مع الكاتب الألماني من أصل سوري رفيق شامي إلى الرواية نفسها وإسقاطاتها، وإلى أوضاع سوريا والسوريين، الذين انتشروا لاجئين في أرجاء المعمورة . كما يحضر حنينه وحبه الأول والباقي أبداً: دمشق.
يعد الروائي الألماني من أصل سوري، رفيق شامي، من أنجح الروائيين في الوقت الحاضر على الساحة الألمانية، كما تُرجمت رواياته إلى 28 لغة. ويتميز شامي بأسلوبه الساحر في القص، وبخياله الأخاذ، وبعباراته المنمقة، وبلغته الألمانية “الوردية” المترعة بالأجواء والصور الشرقية. يُركب شامي القارئ في أُرجُوحَة بين الشرق والغرب، وينقله بسلاسة بين أزمنة وحقب عديدة.
في الرابع والعشرين من آب/ أغسطس الماضي أصدر شامي روايته الجديدة “صوفيا أو كيف تبدأ كل الحكايات”، التي تروي عن الشابة صوفيا وكيف وقعت في حب جنوني لكريم، ولكنها تزوجت من صائغ غني. وحين أُتهم كريم بجريمة قتل، من غير وجه حق، ساعدته وأنقذت حياته. وحينها وعدها بمساعدتها عند الحاجة وحتى لو كلفه ذلك حياته.
تمضي السنون ويعود ابن صوفيا الوحيد، سلمان، بعد أربعين سنة من المنفى في إيطاليا إلى دمشق، التي يصلها قبل أيام من اندلاع “الربيع العربي”. يتعرض سلمان لمؤامرة من قريبه الضابط في المخابرات ويُطلب القبض عليه. تبدأ هنا رحلة من التخفي والمطاردة. وتدور أحداث الرواية بين دمشق وروما وهايدلبيرغ الألمانية، هنا تتذكر صوفيا وعد كريم وتطلب مساعدته. وبمناسبة صدور الرواية التقت DW عربية الكاتب الألماني من أصل سوري رفيق شامي وكان هذا الحور:
DW عربية: في أحد جوانبها، روايتك الجديدة “صوفيا” وهي رواية مطاردة بوليسية، يقول أحد شخوص الرواية: “لماذا ليس لدينا روايات بوليسية جيدة باللغة العربية؟” أحيل السؤال إليك وأسال: هل ألقى البوليس السري القبض على أقلام الكتاب؟
شامي: ليس البوليس السري إلا أحد وجوه الاضطهاد عبر الطاغية. القبلية والطائفية وجهان آخران له. فإذا كانت قناعة أي مواطن – مهما كانت بساطته – بأن البوليس الجنائي ليس له أي سلطة في البحث عن الحقيقة، فكيف لكاتب مهما بلغت فهلويته اللغوية أن يقنع القراء بذلك. تصور بربك مفتشاً في مدينة كدمشق يستجوب قريباً من الدرجة التاسعة للطاغية. تصور من جهة أخرى مفتش بوليس جنائي ينتمي بالصدفة إلى طائفة معادية للطائفة التي حدث في أحد منازلها جرم ما. فكيف لنا نحن القراء أن نقتنع بأن مفتش بوليس في الرواية يحقق كما يشاء ويعتقل كما يشاء. هذه الرواية ستعبث بدل التشويق ضحكاً ساخراً يصيب القارئ بألم في المعدة.
يُقال إن كل النساء في رواياتك يتصفن بشخصية قوية. لماذا؟ اسم الرواية “صوفيا” رغم أنها لا تلعب دوراً كبيراً؟
ملاحظتك لدور النساء في رواياتي صحيحة. أعتقد أني أصف النساء بكل موضوعية، لكن صورة المرأة في الروايات العربية مشوهة من كتاب أمضوا العمر وهم يتغنون بالفحولة وهؤلاء هم من أعطوا للأدب العربي هذه الصورة البائسة عن النساء. صوفيا هي أم البطل سلمان، لكن من يقرأ القصة بتروي يفهم أن هذه القصة ما كانت لتُحكى بدون صوفيا، لذلك وضعت عنوان للرواية يعطي محتوى الرواية بصدق: “صوفيا أو كيف تبدأ كل الحكايات”.
يحضر الحب كموضوع للكثير من رواياتك وحتى كعناوين لها، كيف يمكن أن يكون الحب دافعاً وملهماً لمقاومة الأنظمة الديكتاتورية؟
للحب ثلاث ركائز تجعله ينبوعاً للمقاومة. أولهما احترام وتقدير الآخر لأنك لا تحب من تحتقر. وثانيهما، الرقة تجاه الآخر والشعور بالمسؤولية في الدفاع عنه في حالة ضير ألَّم به. وثالث ركيزة هي التضحية حتى بالنفس من أجل الآخر. هذه الركائز كانت أكثر الدوافع التي غمرت في لحظة ما نفوس الثوار في كل أنحاء العالم.
“قوة الحب” هي أحد أهم الموضوعات في الرواية. إلى أي حد يمكننا الحديث عن “قوة الكراهية” فيما يحدث في سوريا؟
إلى ما وراء كل حدود يتصورها العقل البشري. إنها الكراهية الناتجة عن رجال “كشطوا” الإنسانية من عقولهم وقلوبهم فتحولوا إلى برابرة. كيف يبني سوري نظاماً قمعياً سادياً ضد شعبه، لم يبنه المستعمر. يفقد أحد أبطال روايتي “الوجه المظلم للحب” عقله في معسكر الاعتقال لأنه لا يصدق أن سوريين يعذبون أبناء وطنهم، بل يصرخ تحت التعذيب بأنه معتقل في إسرائيل.
التسامح هو موضوع آخر في الرواية. هل تعتقد أن السوريين سيسامحون ويتسامحون فيما بينهم؟ هل سينسون؟
لقد دافعت في مقالات عدة (نشرت في صفحات سورية) عن التسامح الذي وصفته بالثوري والثأر الذي وصفته بالرجعي والهدام لكل دولة تبغي بناء الديمقراطية. شيء من النسيان لا بد منه، لكن دون التغاضي ببلادة عن مرتكبي الجرائم الإنسانية. فدون هذا النسيان نظل بعقلية القبيلة التي لا تعرف التسامح. كل الدول الحديثة اضطرت في مرحلة ما للتسامح وإلا تعذر بناء دولة حديثة بقضاء حر وتعددية سياسية. أي أنها حولت عبر التسامح الصراع الدموي إلى صراع ديمقراطي تنافسي وأنقذت بذلك الدولة. أيضاً بلدان مثل فرنسا وألمانيا، أو فرنسا وبريطانيا، حيث بلغت الكراهية بعد سلسلة من الحروب الطاحنة حدوداً لا معقولة، مدت أيديها لبعض وأصبحت الآن أصدقاء وعلاقتها ببعض أفضل من أي علاقة بين البلدان العربية.
شامي: لقد رأيت بلدان المعمورة من موسكو إلى لشبونة ومن هلسينكي إلى صقلية. لكن دمشق تبقى أجمل بقعة على وجه الأرض. إنها شامتها.
يقول أحد شخوص الرواية: “أنا لست جهاز قياس الزلازل، أنا الحمامة التي تستشعر الزلازل قبل حدوثه”. هل استشعرت ما يجري في بلدك الآن؟
لا، أبداً. رغم متابعتي لكل أحداث سوريا.
ما موقفك مما يجري في سوريا منذ أربع سنوات ونصف. هل هي ثورة أم أزمة أم حرب أهلية أم حرب بالوكالة أم مزيج من كل ما سبق أم ليس أي شيء مما سبق؟
ما زلت واثقاً من أن الحرية والديمقراطية هي أول الخطوات التي يحتاجها شعبنا لبناء مستقبله. لا يوجد ثمة مستقبل تحت سلطة نظام قاتل أو “داعش” أو أي اتجاه سلفي. التعددية هي أساس الديمقراطية. يغمرني حزن شديد عبر متابعة الأحداث وما يحز بقلبي هم الأطفال، فهم بالتأكيد الخاسرون في كل حرب. لقد قضى النظام وبمساندة العالم على ثورة سلمية بشرت بالخير وهذه الثورة نتجت عن أزمة مميتة لهذا الوطن، وكانت مخرجها التاريخي الصحيح.
نُكِسَت الثورة بالدم وتحت أبصار العالم. للأسف ظل الجيش خانعاً للنظام ولم يخرج عن ذلك إلا بعض أفراد. وتحول الصراع في غياب قيادة حكيمة للمعارضة شيئاً فشيئاً إلى صراع مسلح، وليس إلى حرب أهلية كما يحلو للبعض تسميته. إنه صراع بين قوى تغولت ومُدَت بمساعدات سخية ليصبحوا أداتها لتهديم البلد. من يريد إقناعي أن لبنان يتجرأ على السماح لحزب الله باجتياز حدوده وقتل سوريين دون موافقة الولايات المتحدة وفرنسا، فهو طفل سياسي رضيع.
النظام بمخابراته الدموية هو المسؤول أولاً وأخيراً عن هذا التطور. ونحن الآن أمام مزيج رهيب لكل ما سبق وصفه. الشعب السوري فقط يقف عاجزاً عن الحراك، هذا الشعب الذي بدأ بشجاعة لا مثيل لها، بات اليوم مشلول القوة، جائعاً، مهدداً.
ل ما ذكرته هو سبب تحول السوريين من طالبي حرية وكرامة في عام 2011 إلى طالبي لجوء اليوم؟ أم أن هناك أسباب أخرى أيضاً؟
فشل الانتفاضة الشعبية وأصدقاء الشعب السوري في إيجاد حل أو على الأقل منطقة آمنة.
ما هو برأيك الحل الأمثل لموجات اللجوء والخروج الكبير للسوريين إلى بقاع العالم ومن ضمنها أوروبا؟
الثقة بهذا الشعب الكريم الأصيل ووضع المبادئ الإنسانية فوق كل الاعتبارات الثانية.
هلا فصلت ووضحت بآلية واضحة وخطوات عملية؟
مثلاً ألا يُعامل السوريون في الجوار وكأنهم من المجرمين. الشعب السوري احتضن في تاريخه ملايين اللاجئين وعاملهم بكرم. هذه الأزمة الخانقة لن تدوم للأبد. لو احترمت البلدان العربية حداً أدنى من الإنسانية لما لجأ سوري واحد إلى البلدان البعيدة الغريبة عليه بلغاتها وثقافاتها. وإنه لعار أبدي على كل هؤلاء الذين يترنحون تحت ثقل ملياراتهم أن يمد الأتراك يدهم الكريمة بشكل أفضل من كل أبناء يعرب. دبي تستقبل رامي مخلوف بملياراته التي سرقها من فم الشعب السوري وعرقه لكنها تضع الشروط والعوائق في وجه السوريين الآخرين.
شامي: دافعت في مقالات عدة (نشرت في صفحات سورية) عن التسامح الذي وصفته بالثوري والثأر الذي وصفته بالرجعي والهدام لكل دولة تبغي بناء الديمقراطية.
لقد أسست مع عشرة أصدقاء “منظمة شمس” لرعاية وحماية الأطفال والشبان السوريين وكلنا لا نملك سوى أملنا وطيبة قلوب المواطنين في هذا البلد. وقد تمكنا عبر التبرعات والحفلات الخيرية التي أقمتها، من مساعدة مئات الأطفال في مخيمات اللجوء التركية واللبنانية والأردنية. ولا أظن أن الكتاب والمحامين والأطباء والمهندسين العرب ناهيك عن الأثرياء أعجز منا على القيام بواجبهم تجاه مستقبلنا الذي يحمله هؤلاء الأطفال في قلوبهم وعيونهم الحزينة.
قد تلاحظ أني لا أحدد أي خطوات على الأوروبيين القيام بها، وهذا ينبع من متابعتي لأحوال المشردين السوريين في بلداننا. من أسعفه الحظ ووصل إلى ألمانيا والبلدان الأوروبية الأخرى فهو بألف نعيم رغم كل المرارة، مقارنة بإخوته في البلدان العربية المجاورة لسوريا. ورغم ذلك نقدي أقوله للألمان مباشرة وبلغتهم وليس من وراء ظهرهم بلغة أخرى فهذا قلة حياء.
هل تشكل عودة بطل الرواية بعد 40 سنة من المنفى إلى دمشق هي عودة متخيلة لك إليها؟
صحيح، وهي في الوقت نفسه نقد لهذا التصور الرومانسي عن العودة. لكني لست البطل. هناك ناحية طريفة أشعر بها عند الكتابة ويمكنني شرحها عبر صورة سينمائية: تصور معي أن نفسيتي وفكري وقناعتي السياسية والاجتماعية وحلمي تشكل معاً لوحة فسيفسائية. عند البدء بالكتابة ترتفع هذه اللوحة وتتفتت إلى أحجار ملونة أو قطع (كما في لعبة الـPuzzle) لتسقط مجدداً على الأرض وهناك تدخل هذه الألوان أو القطع بكثرة أو قلة في نفوس أبطال الرواية. فتجد جزءا منها في ما يقوله البطل وجزءا آخر في ما يقوله أبوه أو صديقه، الذي جن بعد عذاب مرير في سجن تدمر.
تسربت أنباء عن واتصالات ومفاوضات مع الحكومة السورية عام 2009 للسماح لك بالعودة. هلا حدثتنا عنها ولماذا قررت في آخر لحظة العدول عن قرارك بالعودة؟
هذا صحيح. البداية كانت في منتصف 2008 عندما بدأت أشعر بأن مرتزقة الكلمة كفّوا بأمر من المخابرات عن مهاجمتي. في مطلع 2009 اتصل صديق طفولتي بي وشرح لي أن السفير السوري ح. ع. يود مقابلتي للتفاوض حول إمكانيات عودتي، وأنه معجب جداً بأدبي خاصة وأنه يتقن الألمانية. شيء يشبه فيلماً خيالياً. بعد سنين من الحرب الإعلامية هذا العرض للتكريم… لم أصدق… بعد عدة مكالمات هاتفية تبين لي أن السفير جاد في مسعاه وهو رجل هادئ دمث الأخلاق.
وجرت مقابلتي معه بحضور أصدقاء. لكن فيما بعد تبين لي أن السفير ليس له أي سلطة وأن رجل المخابرات في السفارة هو المسؤول عن كل إغراءات العودة والترحيب الرسمي الذي أعدته المخابرات من لحظة دخولي إلى سوريا وحتى لحظة مغادرتي. وقد شرح لي هذا “الحقير” بصفاقة كيف أن النظام يوضح كل ما يريده من كل من يدخل إلى سوريا حتى لو كان من غير السوريين. ولذلك لا أصدق أي شاعر عربي يتغنى بصدام أو بالقذافي أو بالأسد أنه هكذا وباعتباطية قام بذلك، بل اعتقد جازماً أنه قبل خانعاً كل الشروط ليشفي غليل غروره وليفتخر باستقباله في المطارات وصحف النظام الصفراء وكأنه من نجوم السينما.
بعد عدة مكالمات طويلة ومعقدة قررت عدم العودة لأن هذا “الحقير” وضح لي أنه علي أن أتوقف عن نقد النظام و”التصيد في الماء العكر” بالحديث عن سجون ومعتقلات.
نلت عشرات الجوائز في أنحاء العالم ولك حضور جيد في وسائل الإعلام غير العربية. لماذا لم تنل جوائز عربية، ولم لك هذا الحضور الإعلامي الكبير في وسائل الإعلام الغربية؟
لم أنل – ولله الحمد- أي جائزة عربية لأي من كتبي التي بلغ عددها حوالي 40 كتاباً تُرجم غالبها لأكثر من عشرين لغة. أضفت – ولله الحمد – لأن هذه الجوائز فعلاً مسخرة كما نقول في الشام.
حوصرت إعلامياً من قبل مرتزقة الكلمة المتممين لعمل المخابرات. أحد الزملاء يسميهم “فرع المخابرات الثقافي”. لكن ما هو أمرّ من الأنظمة جبن وانتهازية “قواد المعارضة الفكريين” الذين اشتروا سلامتهم في ظل الأنظمة بصمتهم وطاعتهم، وتحاشوا الكلام، ناهيك عن الاتصال بكتاب المنفى. هذه كانت حتى اندلاع الثورة الخطوط الحمراء التي وضعها النظام لهم… وبالتالي كانوا متممين للنظام وليسوا نقيضاً له…وكم كنت أعجب عندما التقي بأحدهم كيف يكيل لي “بيني وبينه” المديح ومتى عاد يقطع كل علاقاته معنا.
تقول أحلام مستغانمي ما يلي: “نحن لا نكتب إهداءً سوى للغرباء، وأما الذين نحبهم فهم جزء من الكتاب وليسوا في حاجة إلى توقيع في الصفحة الأولى”. وأنت أهديت الرواية لزوجتك روت وابنك إميل. هل هما غريبان؟ ودمشق الغائب في الإهداء، الدائمة الحضور والعضوية في رواياتك؟
هذا هراء غبي سواء قالته أحلام مستغانمي أم علتان المستغابي. الرواية ثمرة عمل طويل وتقديمها لمن أحب هدية أجمل من كل ذهب هذه الدنيا. وأما دمشق فهي طفولتي التي أحن إليها وسأغني لها ما دمت حياً. لقد رأيت بلدان المعمورة من موسكو إلى لشبونة ومن هلسينكي إلى صقلية. لكن دمشق تبقى أجمل بقعة على وجه الأرض. إنها شامتها.
أنت مسكون بدمشق وأزقتها وحاراتها وصبحاتها وياسمينها إلى درجة أنك جعلتها محور الكثير من رواياتك. متى ستُشفى من حب دمشق؟
الحب، كما يقول ابن حزم، هو المرض الوحيد الذي لا يرغب من أصيب به في الشفاء منه.
أجرى الحوار: خالد سلامة
دويتشه فيله