سبعة أسباب حقيقية تحول دون اندلاع “نزاع أهلي” في سورية
رستم محمود
السوريون يبدون أكثر حصانةً من أن يدخلوا لعبة تصارع داخليّ
دخلت المواجهة بين الحراك الشعبي والسلطة في سوريا شهرها السادس، وأمام وحشية القمع الأمني تحوّلت المطالب التي يصدحها المتظاهرون من “الحرية والكرامة” إلى “إسقاط النظام”. أدخلت السلطة نفسها في مأزق، وأخذت المواطنين والوطن رهينة لوجودها، ولوّحت بحربٍ أهليّة، وازداد التشنّج إلى أقصى درجاته. هل يمكن أن تذهب سورية إلى هكذا حرب بعد أن عرفت عن قرب مآسي لبنان والعراق؟
خمسة أشهر مرّت منذ اندلاع الانتفاضة الشعبية السورية، وبالرغم من كلّ العنف والقسوة الممارسة ضد كتلة المحتجّين السوريين، فأن أيّ شكلٍ واضح وصريح لنزاعٍ داخليّ بين المجموعات الأهلية السورية [1] لم يظهر بعد. مقابل ذلك، فإنّ التوزع الجغرافي/الديموغرافي للمناطق الساخنة والهادئة على امتداد الحدث السوري، يمكن أن يستدلّ منه على وجود نوازع أهليّة في البنية الداخلية لهذه الانتفاضة الشعبية. بين هذين المعطيين ينشأ سؤال بسيط: هل النزاع الأهلي السوري- السوري ممكن في الأفق المنظور والمستقبلي للتحوّلات السياسية الكبرى التي يمكن أن تشهدها الدولة السورية؟ وذلك وفق البنية المجتمعية والسياسية والاقتصادية والثقافية السكانيّة الداخلية، والإقليمية المحيطة، تلك التي يمكن أن تحيط بهذه الدولة راهناً وفي مستقبلها المنظور.
لو اعتبرنا افتراضاً، أن الذوات السياسية للمواطنين السوريين، تطابق ذواتهم الأهلية الدينية والمذهبية والأثنية، وهو افتراض قاسٍ وغير دقيق، لأنّه ينفي وجود حقيقتي “الشعب” و”الروح السياسية” في باطن تعريف الهويّة للمواطنين السوريين، تلك الهوية المتمايزة عن الهوية الأهليّة. لكن ذلك الافتراض قائم على أساس منطق “الإثبات بالنفي”.
هل فعلاً هناك عوامل داخلية لنزاعٍ أهليّ؟
بناءاً على ذلك المنطق، نميل بالمطلق إلى الإجابة بالنفي لاحتمال حدوث أيّ نوعٍ “حقيقي” لنزاع أهلي بين المكونات البنيوية للمجتمع السوري. يقوم ذلك النفي على اعتبار أن التنازع الداخلي في أيّة دولةٍ ما، يتحاج إلى جملة من العوامل الداخلية والخارجية المكوّنة لذلك الاندلاع، وهي غير متوفرة البتّة في التربة السورية الراهنة والمستقبلية. وهي مجموعة من العوامل الافتراضية التي يمكن نفي إمكانيتها ببساطة، كالتالي:
أولاً: النزاع الأهلي في أيّة دولة ما، لا بدّ أن يتوفر له نوعٌ من التوازن الديموغرافي العدديّ والنسبيّ بين الكتل الأهلية المكوّنة لمجتمع تلك الدولة. وهو شرطٌ غير متوفّر في البيئة السورية. فثمّة كتلة دينية مذهبية قوميّة، تشكل أغلبية مطلقة في البلاد، ووجودها يمتدّ في شتى أنحاء البلاد، وعلى بيئات اقتصادية واجتماعية وثقافية متنوّعة. لكنّ طبيعتها “النسبية الغالبة” تلك، تنزع الشرارة الأولى لأيّ جنوحٍ نحو فكرة “التنازع الأهلي” لاستحصال “الغلبة السياسية” حتى من أيديولوجيات أكثر الطبقات والنخب “انزياحاً وتطرّفاً” من أبناء الكتل السورية، تلك التي ترى في الصراع الأهلي خلاصها ومشروعها الذاتي.
ثانياً: يشترط النزاع الأهلي وضعاً جغرافياً/ديموغرافياً محدّداً، يكون بمثابة الحاضن المكاني لذلك النزاع. فالجغرافية الطبيعية الوعرة جداً، حيث صعوبة الوصول والرصد، والفرز الديموغرافي الواضح بين الكتل المجتمعية، هي التي تحتضن المواجهات الأهلية في الدول بالعادة. وهذا ما لا توفّره البنية الجغرافية/الديموغرافية السورية. فالجغرافية السورية تبدأ من الشريط السهلي الساحلي الغربيّ الضيق، ثم بجبال متوسّطة التشكيل والوعورة نوعاً ما، ثم تنتهي بامتداد مطلق للسهول والبراري، حيث تتوزّع على طول هذه الجغرافية شبكة من المدن الكبرى المليونيّة و”المئة ألفية” . ثم أنّ المجتمع السوري يعيش واقعاً من التداخل الجغرافي بين أبناء طوائفه واديانه ومذاهبه وقومياته. بحيث تخلو أيّة مدينة أو منطقة جغرافية سورية من حضورٍ صافٍ لأيّة كتلة مجتمعيّة واحدة من أبناء المجتمع السوري. وهو شرط لا ينفي وجود نوعٍ من أكثرية نسبية لتلك الفئة دون الأخرى في أحدى المناطق في بعض الأطراف، لكنّه شيء في مطلق أحواله يبقى نسبياً. فلا جغرافيا الشمال العراقي الوعرة، ولا الفرز المذهبي العراقيّ بين الجنوب والغرب متوفّران في سوريا مثلاً، ليكونا بمثابة الحاضن لذلك التصارع المفترض.
ثالثاً: يتطلّب النزاع الأهلي نوعاً من الثقافة التكوينية “الحربية”، وخاصيّة من الذاكرة الجمعية المحمّلة بإرث التصارع والتنابذ بين تلك المكوّنات الأهلية في الدولة. وهو شيءٌ لا توفّره البنية الذاتية والنفسية للمجتمع السوري، إن لم نقل إنها قائمة على نقيضه تماماً. فصحيح أن الدولة السورية الحديثة لم تقم على نضالٍ مشترك وطويل بين أبنائها مجتمعين لتكوينها بشكلها الحالي في بدايات القرن المنصرم، بل كانت العوامل والقوى الدولية الكبرى، هي الحكم في تكوين وتحديد شكل سورية الكياني حين التأسيس الأول. لكن الدقيق أيضاً، أن التحوّلات التي جرت في قمة هرم السلطة العليا في سورية، منذ ذلك العهد إلى الوقت الراهن، لم تترافق يوماً بجنوح المجتمع السوري للتصارع فيما بينه، كانعكاس لتلك التصارعات والتحوّلات السياسية التي كانت تجري في قمة المؤسسات السياسية. فقد حافظ السوريون دوماً على شكل من التفاعل الإيجابي البنّاء والحيوي فيما بينهم. وهو شأن ربما يفسّر بالطبيعة التجارية التي طبعت السوريين منذ أمد التاريخ، والناتجة عن التموضع الجغرافي لسوريا. حيث الشكل البسيط للجغرافية السورية قائم على قاعدة صغيرة، تنصّ على وجود عدد من المدن التاريخية التجارية المركزية، محاطة بريف حيويّ متكامل معها، اقتصادياً وثقافياً وسياسياً. لذا فإن التنازع الأهلي ملفوظ من البنية الثقافية التجارية للسوريين، وشاذّ عن ذاكرتهم الجمعية المتراكمة منذ مئات السنين.
رابعاً: النزاع الأهلي يقوم بالعادة بناءاً على آليّات من تبادل الأدوار بين الفئات السلطوية الهابطة وأخرى المعارضة الصاعدة، بحيث أن تلك الهابطة تستميت في الدفاع عن مواقعها ومكاسبها السلطوية، والأخرى تستبسل في الجموح لتحقيق ذاتها بالوصول للسلطة. ويجري ذلك عادة في ظل حضور قوّة أكبر من كليهما تريد أن تبدل من المواقع السلطوية لصالحها، لا انسجاماً مع معايير وطبيعة تفاعلات تلك القوى الداخلية. حصل ذلك حين سيطر السوفيات على أفغانستان والأمريكان على العراق .. الخ . لكن هذه الآليّات المفترضة غير متوفّرة في الحالة السورية. فطبيعة السلطة الآيلة إلى التحلّل، لا يحدث بها ذلك نتيجة عوامل غير طبيعيّة وما فوق سياسية، بل نتيجة عوامل بالغة الدقة تتعلّق ببنيتها هي بذاتها. إذ أنّ هذه السلطة هي التي تخلّت عن أيديولوجيتها وخطابها القومي، لصالح شبكة من العلاقات والتوافقات البراغماتية في علاقتها الخارجية وخطابها الداخلي، وذلك كي تحافظ وتعزّز فقط تموضعها في السلطة. هذه السلطة، التي كانت تنادي بالوحدة العربية، بات تنشر شعار “سوريا أوّلا”، وهي نفسها التي تنشأ شبكة من العلاقات العميقة مع إيران وتركيا، في وقتٍ تعيش فيه بتنافرٍ بالغ مع جيرانها ومحيطها العربي. وبذلك، فإنّ هذه السلطة قد فقدت البنية العصبويّة “الخلدونية” لشدّ أزر مؤيديها. وفي الوقت نفسه، إن طبيعة التحوّلات التي جرت على بنية منظومتها الاقتصادية، أفقدتها ولاء الطبقة المسحوقة من السوريين الذين كانت تدّعي أنّها تمثّلهم، فاللبرلة الاقتصادية التي اكتسحت حياة البسطاء من السوريين، خلعت عنهم أيّ وهم بوجود سلطة حامية لمصالحهم الحقيقية. لكلّ ذلك، فإن ما بقي من لحام بنية السلطة، هو فقط شبكة علاقات الفساد والمحسوبيات والسلطة المحضة، وهو أضعف بكثير من القدرة على شحذ الهمم لأيّة كتلة للدفاع عنها في حال تبدّل موقعها. وهو شيء يحدث في وقتٍ يقوم الخطاب الآخر (المعارض المتوقّع وصوله للسلطة) على خطاب رومانسي أخلاقويّ متعالي، ينبذ العنف والثأر والماضويّة والإلغاء، ومستعدّ دوماً لإيجاد حلول وسط وتوافقات إيجابية في حال تبدّل المواقع، أو على الأقل هذا ما يوحي به الخطاب الراهن.
الخطاب المعارض الأقوى صدى يقوم على نبذ العنف والثأر والماضويّة والإلغاء
خامساً: يتطلّب النزاع الأهلي وجود بنية اقتصادية تضخّ لهذا التصارع دون انتظار أن تستحصل منه عائداً اقتصادياً مباشراً، بل سياسياً بحتاً، هو الشكل الاقتصادي الذي تنمو فيه الاقتصادات الريعية، بحيث أن المجتمع يعيش على أكناف وأطراف ومغانم السلطات السياسية؛ لذا فأن التحكّم بالمجتمع ودفعه نحو الدروب المرادة يكون طوع يد تلك السلطات السياسية الأعلى. وهو ما لا يناسب أبداً دولة غير نفطية وغير وفيرة الموارد كسورية. فالسوريون هم ثروة وبنية اقتصاد بلادهم بالعموم. ومؤسّسات الدولة (إقرأ السلطة هنا) هي التي تحتاج إلى هذا المجتمع لتيسير أمورها المالية والاقتصادية، لذا فإن قدراتها، وقدرة غيرها من الراغبين في إحداث نوع من التصادم الأهلي تبدو صعبة للغاية.
سادساً: حتّى تحدث النزاعات الأهلية، لا بدّ من شعور جمعيّ بهشاشة البنية الدولاتية ومركزيّتها في الكيان. فالدول التي عاشت في القرن الأخير تاريخاً مديداً من المركزيّة المطلقة في سلطتها وقرارتها، لا بدّ أن تكون قد رسبت إلى باطن وعي مواطنيها، بحتميّة ونهائيّة شكل هذا الكيان، وهو ربّما من الفضائل القليلة التي تحسب لها، والتي لم تنتج عن رغبتها بوصل المجتمع لهذه الحقيقة، بل نتيجة رغبتها في بسط قبضتها المطلقة على المجتمع من خلال مركزية الدولة في يدها. وهو بالضبط ما يجرى في سوريا منذ نصف قرنٍ من الزمان وحتّى الآن.
سابعاً: إن أيّ نزاعٍ أهليّ يحتاج إلى حاضنٍ من قبل الدول الإقليمية المحيطة بالدولة التي يمكن أن يحدث فيها هذا النزاع. وهو ما لا توفّره، لشروطٍ موضوعية وذاتيّة، الدول المحيطة بالدولة السورية. فتركيا لأسبابٍ تتعلّق بمصالحها الاقتصادية الضخمة، بحيث أن سوريا هي بوابتها إلى الإقليم العربي كلّه، ولأسبابٍ تتعلّق بتشابه بنيتها الداخلية مع البنية السورية، بحيث تتخوف من أن تنتقل الصدمات إلى داخلها، تركيا تستميت لذلك في سبيل منع حدوث شيءٍ من هذا القبيل. العراق بدوره، يبدو مترهلاً ومتعباً من سيرته مع العنف والانفلات الأمنيّ طوال العقد الأخير، لذا فإنّ الهدوء على حدوده الطويلة من الجار السوري، يبدو جزءاً تكوينياً من عقيدته للأمن القومي. والأردن الذي يرتبط شماله بجنوب سوريا أكثر من ارتباطه بالمركز الأردني اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً، ليس له أيّة مصلحة حقيقية في خلق نزاعات أهلية في أراض ذلك الجار. أما لبنان، فإن النزاع الداخلي السوري، يعني بالنسبة إليه مباشرةً العودة إلى حالة الحرب الأهلية، حيث التداخل السياسي والبشري والرمزيّ الذي له مع سوريا أكبر من أن يفصم. وحدها تبقى إسرائيل كمستفيدٍ من حدوث ذلك التنازع بين السوريين أنفسهم، بحيث يتفكّك، بشكلٍ فعلي، أكبر جارٍ لدود، يشكل خطراً استراتيجياً عليها. لكن السوريين أنفسهم يبدون دون شكّ، أكثر حصانةً من أن يدخلوا لعبة تصارع وسفكٍ للدماء لحساب تلك الدولة الغاصبة لأراضيهم ولحقوق الفلسطينيين.
ليلة كتابة هذه المقالة، اعتذرت من أصدقائي الذين كنت أجالسهم في بهو نادي الصحفيين وسط دمشق، للمغادرة مبكراً كي أتمكن من الانتهاء من كتابة مقالة بهذا العنوان. تسرب القلق إلى قلب كلّ واحدٍ منّا. لكن ما أن ألقينا نظرة على بعضنا البعض، نحن الجالسون على تلك المأدبة، حتى اكتشفنا الطبيعة الأهلية المتنوّعة التي تجمعنا في سهرة الودّ تلك، دون أن نحتسب لذلك، ودون أن نكون مختلفين عن مجمل أمّة المواطنين السوريين. وقتها نتأكّد بأن كلّ شيء مازال على ما يرام. لكنّ مجرد التفكير الافتراضي بحدوث فاجعة مثل تلك في مستقبل بلادنا سوريا، يجلب حزناً بالغاً لأفئدتنا.
* كاتب صحفيّ
[1] لأسباب تتعلّق بالبنية النفسية والعرف الثقافي السائد، فإن الغالبية العظمى من الكتّاب والمثقفين السوريين، يحذرون بشكلٍ بالغ في ممارسة نوع من “الإباحية الطائفية” في كتاباتهم. فالحديث عن الطوائف والمذاهب والأديان، وسلوكياتها وخيارتها ووقعها ومستقبلها … الخ، يجري دوماً في جوّ من الحذر البالغ، وبدرجات عالية من التجريد والعمومية، وبنسبة أقلّ، فيما يخصّ الحديث عن القوميات والإثنيات التي تشكل المجتمع السوري. لكن الطبيعة السكانية الاجتماعية للمواطنين السوريين تشير إلى وجود أغلبية سكانيّة عربية مطلقة، ووجود نسبي للأكراد يتراوح بين 10 – 15 بالمائة، مع وجود نسب أقلّ لأبناء القوميات الآشورية والأرمنية والتركمانية والجركسية .. الخ . كما أنّ السوريين يتديّنون بأغلبيتهم بالدين الإسلامي، حيث يشكل المسلمون السنة قرابة 70 % من مجموع السكان (بما فيهم السوريون الأكراد) وتتراوح نسبة أبناء الطائفة العلوية المسلمة بين 10 – 13 بالمائة، وتقارب نسبة أبناء الطوائف الدرزية والإسماعلية والمرشدية المسلمة 5 %، بينما تتراوح نسبة المسيحيين السوريين بين 10 – 13 %. جلّ هذه الأرقام تبدو تخمينية ونسبيّة، وذلك لعدم وجود أيّة إحصائيات رسمية وعلنية في البلاد فيما يخص هذا الشأن… ولعدم الرغبة أصلاً في إيجادها.
لوموند ديبلوماتيك العربية