سلامة كيلة: السعودية والإمارات دعما النظام السوري في بداية الثورة.. وتركيا وقطر طرحا الإخوان بديلًا للأسد
عمر سعيد
ازدادت تعقيدات المسألة السورية مدفوعة بخريطة معقدة من الصراعات، الداخلية بين النظام الحاكم ومجموعات عديدة تقاتله، والإقليمية بين السعودية وقطر وتركيا وإيران ولبنان والعديد من التيارات المتعارضة، وعالميًا إذ بات واضحًا أن القرار الروسي- الأمريكي يحكم القرار الأخير في مسعى الحل السياسي.
«مدى مصر» حاور الكاتب الفلسطيني سلامة كيلة، في لقاء تناول أركان مختلفة من الصورة الأشمل للقضية السورية. بدءًا من مشهد عودة التظاهرات وقت وقف إطلاق النيران، مرورًا بدور جماعة الإخوان المسلمين في مسار المشهد السوري، انتهاءً بإمكانية الحل السياسي في ظل التعقيدات الحالية.
مدى مصر: كيف يمكننا وصف الوضع الحالي في سوريا؟ وهل توافق على ثنائية الثورة أو الحرب الإقليمية؟
سلامة كيلة: ما يوجد في سوريا لا يمكن تبسيطه بمعنى أنه صراع شعب ضد نظام حاكم، نحن أمام صراع معقد يعاني من التدخلات الدولية والإقليمية. النظام من ناحيته أصبح محكومًا بقرار روسي، وفي 2013 كان محكومًا بالقرار الإيراني. أما المجموعات المعارضة والأصولية فهي تابعة لهذا الطرف الإقليمي أو ذاك.
يتداخل مع هذه الصورة صراع إقليمي يريد أن يؤثر في مسار الحل النهائي. به تدخل روسي إيراني، برغم التنافس ما بينهما على الهيمنة على المنطقة. في المقابل هناك تركيا التي خسرت كثيرًا نتيجة الموقف الذي اتخذته بعد الثورة. لأنها اعتقدت بعد تعاونها مع الأسد أن تهور النظام وميله للعنف سيؤدي إلى تدخل أمريكي يرتب سوريا بعيدًا عن المصالح التركية، لذلك تدخلت سريعًا وشكلت المجلس الوطني السوري.
وهناك السعودية التي بدأت تدخلها في بداية الثورة بدعم النظام، وكانت تعتبر أن انتصار الثورة سيؤدي إلى انتقالها إلى السعودية. فساعدت النظام وساهمت في أسلمة الثورة وفي إظهار الصورة التي أرادها النظام للصراع، كصراع محصور مع مجموعات إسلامية. الخلاف بين السعودية وسوريا بدأ في العام 2013 عندما بدأ التدخل الإيراني في سوريا وهيمنتها على القرار على الأرض.
الطرفان الأهم الآن هما الروس والأمريكان. الولايات المتحدة في البداية كان همها الوحيد أن تطفئ النار الثورية التي اشتعلت في المنطقة وامتد تأثيرها إلى أوروبا. ومنذ 2012 أوكلت الملف السوري إلى روسيا، وفي هذه اللحظة تم إعادة صياغة المعارضة السورية وتحولت من «المجلس الوطني السوري» إلى «الائتلاف الوطني لقوى المعارضة السورية».
سلامة كيلة كاتب ومفكر فلسطيني من مواليد مدينة بيرزيت في فلسطين. عاش في سوريا لأكثر من ثلاثين عامًا، واعتقل أكثر من مرة هناك، كان أخرها بعد اندلاع الاحداث السورية عام 2012، وهي المرة التي تعرض فيها للتعذيب، قبل أن يفرج عنه ويرحل إلى الأردن.
صدر له عدد من المؤلفات، تناول بعضها قضايا ماركسية نظرية مثل: «أطروحات من أجل ماركسية مناضلة»، و«ما الماركسية: تفكيك العقل الأحادي»، وتناول بعضها أيضًا قضايا المسألة السورية ومنها: «الثورة السورية واقعها صيرورتها»، و«مصائر الشمولية سورية في صيرورة الثورة»، و«الصراع الطبقي في سورية».
مدى: البعض يصف المملكة السعودية برأس حربة الثورة المضادة في المنطقة، لكنها تتمسك بموقف الإطاحة ببشار الأسد في الوقت عينه، كيف تفسّر ذلك؟
كيلة: السعودية والإمارات دعما النظام في البداية. معلوماتي أن كلًا منهما وضع في البنك المركزي السوري أربعة مليارات دولار في أغسطس 2011. المنظور الأساسي بالنسبة للسعودية في تفاعلها مع هذه الأزمة هو مواجهة الموجة التي بدأت من تونس وتوسعت. وهذه مسألة مهمة لنفهمها لأنها أحد مفاصل المسألة السورية. بداية الثورات كانت تمثل خطر كبير، خاصة مع الأزمة الاقتصادية، السعودية كانت تشعر بخطر أكبر لأن فيها أزمة اقتصادية كبيرة وهناك سعوديون يعيشون في وضع اقتصادي سيء، 40% من السعوديين يعيشون تحت خط الفقر. هذا الوضع كان يجعل السعودية تعمل وفق سياق كيفية تدعيم النظام، مثلما فعلت في مصر وتونس، وليس إسقاط النظام.
بالعودة إلى الوراء، نجد أن إشكالية السعودية مع النظام تعود إلى اغتيال (رئيس الحكومة اللبناني الأسبق رفيق) الحريري في 2005*. ما أدى إلى كسر في العلاقة تم إصلاحه في 2010، في مصالحة بين بشار الأسد والملك عبد الله، ما جعل السعودية تأخذ موقف عام في البداية مع الشعب السوري، لكنها في الأرض كانت تدعم النظام، الأمر نفسه بالنسبة للإمارات. الدور الأخطر للسعودية في الثورات العربية كان في سوريا، في البداية دعمت النظام، ثم قامت بأسلمة الثورة، وساهمت في تخويف الأقليات من التغيير.
السعودية فقط حسمت الموقف حينما استدعى بشار قوى خارجية من إيران ولبنان والعراق لدعمه على الأرض، وحينما أصبح القرار العسكري في يد إيران، أواسط 2013. هذه المرحلة التي خلخلت موقف السعودية من النظام. وباتت تركز على رحيل بشار الأسد وليس تغيير النظام.
مدى: من المنظور السياسي الصرف، وبعيدًا قليلًا عن الخطاب الثوري، ما هي الفرص المتاحة لإنجاز حل سياسي سريع في سوريا على نسق الاتفاق الأميركي- الروسي الأخير؟
كيلة: قرار الحل السياسي هو قرار دولي، وبالأساس قرار روسي أميركي، ومن ثم يأتي قرار أطراف إقليمية أخرى مثل إيران وتركيا. أمريكا من البداية كانت ترى أنها ليست معنية بسوريا، لأنها بعد أزمتها المالية كانت قد قررت الانسحاب من الشرق الأوسط والتركيز على جنوب شرق آسيا. وكانت قد تركت الملف لروسيا، وأوباما طلب من روسيا بشكل رسمي أن ترعى حل الأزمة السورية. وهذا ما أنتج مؤتمر جنيف 1 لكن المشكلة بالنسبة للموقف الروسي أنه يريد جعل سوريا مرتكزًا لهيمنته الدولية وبالتالي بالنسبة له الحل هو ما يأتي في إطار دوره العالمي، خصوصًا وهو يرى تردد أوباما وضعف أمريكا، هذه هي المشكلة التي تقف أمام الحل السياسي وتدفع في اتجاه العمل العسكري على الأرض.
مدى: بعد خمس سنوات من بداية الأحداث في سوريا، وفي قلب الصورة الدموية هناك، ظهرت المظاهرات الجماهيرية مع أول فرصة عند وقف إطلاق النار منذ شهور قليلة، كيف تفسر هذا المشهد؟ وهل هناك فرص لعودة المشهد الاحتجاجي؟
كيلة: عمومًا، النظام كان لديه تصور عمّا يمكن أن يحصل وكيفية التعامل معه. النظام كان يعرف أكثر من المعارضين أن الوضع الاقتصادي منهار وقد يؤدي إلى انفجار، قبل حتى الثورات العربية. في 2008 كان يريد أن يحرر أسعار السولار لكنه تراجع خوفًا من الانفجار الجماهيري. وفي 2010 كان واضحًا في حوار بين (وزير الخارجية السوري) وليد المعلم و(نظيره الأميركي) جون كيري استشعار النظام بوجود أزمة، وحينها طلب المعلم صراحة مساعدة النظام.
في هذا السياق وضع النظام استراتيجية بدفع أي تحرك مضاد له نحو الصراع الغريزي، لذلك عندما بدأ الحراك بشكل سلمي، عمل النظام على تدمير المكونات الأساسية له وركز على تنسيقيات الثورة وضرب مراكزها بشكل عنيف. وهذا ما يفسر عدم تحول التنسيقيات من العمل على المستوى المناطقي إلى حالة عامة موحدة. وأدى ذلك إلى دفع الشباب دفعًا لحمل السلاح، وعندما تجلت المظاهر المسلحة كانت تنحصر في حماية التحركات الشعبية قبل أن تُدفع إلى اتجاهات أخرى بتأثيرات خارجية. وتم الدفع بعناصر مدعومة خاصة من الإخوان المسلمين، وتطورت الجماعات المسلحة حتى وصلنا لحال الجماعات الأصولية التي تريد تطبيق شرع الله .وهؤلاء الأخيرين انضموا أيضًا إلى الحرب على الشباب وتم تصفية أعداد كبيرة منهم، واعتقل «داعش» عشرات الآلاف واعتقلت «جبهة النصرة» الآلاف الآخرين.
مدى: أشرت في حديثك إلى جماعة الإخوان المسلمين.. هناك صورة نمطية، قبل بدء الأحداث السورية، أن العمل المعارض محصور في الجماعة، لكن هذا لم يتسق مع الأحداث التالية التي أظهرت ضعف الإخوان في سوريا، كيف نفهم وضعية الجماعة هناك؟
كيلة: الصورة عن وجود الإخوان المسلمين في سوريا مشوهة وغير حقيقية، أضعف تنظيم للإخوان في المنطقة هو السوري منذ تأسيسهم في الأربعينات. سوريا لم تحتمل وجود حقيقي للإخوان المسلمين بالأساس، لأن التكوين في سوريا تاريخيًا لم يحتمل التعصب الديني، كما أن 90% من المجتمع السوري كان ريفي، ولا يوجد إمكانية لتنظيم أصولي يطرح مشروع سياسي في البيئة الريفية غير المنغلقة في العلاقات الاجتماعية، والتي تعتمد على الوعي التقليدي أكثر من الوعي الديني.
وضع الإخوان بعد استلام «البعث» للسلطة شهد تدهورًا، وفي السبعينات مع الدعم السعودي لهم، ومع التحولات السياسية التي حدثت في تلك الفترة، فُتح المجال للإخوان للعب دور سياسي. لكن الميل المتطرف الذي ظهر في مصر في ذلك الوقت انتقل إلى سوريا، وأثر في مجموعة من الإخوان التي أسست «الطليعة المقاتلة» وبدأت عمل مسلح ضد النظام، وبالتالي سحقها النظام وقام بمجزرة حماة في 1982 لفرض هيمنته على المجتمع وليس على الإخوان. بعدها تحول التنظيم إلى تنظيم يدار من الخارج، ومن بقي كان في السجون أو ابتعد عن التنظيم تمامًا.
عندما بدأت الثورة حاولت كثيرًا أن أتابع أين يظهر تأثير الإخوان ولم أجد ذلك إطلاقًا. اللعب بدأ من الخارج وليس من داخل سوريا. الإخوان في 2009، بعد الحرب على غزة، أصدروا بيانًا بإنهاء الصراع مع النظام السوري لأنه نظام وطني وطُرح التحالف معه. وكانت سياسة مرتبطة في ذلك الوقت مع قطر وتركيا، وهما تحالفا مع النظام وشكلوا محور الممانعة.
شباب الإخوان من الخارج، وبمنظور طائفي، أسسوا منذ فبراير 2011 مجموعة الثورة السورية ضد بشار الأسد، لكنه بقي مجهود خلفي إلى أن حسمت تركيا وقطر الموقف من النظام بعد خمس أو ست أشهر. وبدأ هذان الطرفان فكرة طرح الإخوان بديلًا للأسد، من خلال المجلس الوطني السوري كواجهة للتدخل الخارجي، وللأسف تم دعم المجلس من أطراف لديها وجود في الشارع عانت من أوهام ليبرالية. واستمر الإخوان في العمل على أنهم البديل الذي سيأتي من الخارج في إطار عسكري.
وحاول الإخوان تأسيس جماعة مسلحة (لواء التوحيد) في حلب، لكنها فشلت. وبعد ذلك انخرط أعضاء هذا اللواء مع جبهة النصرة. في هذا الوضع وبعد التحولات الإقليمية المختلفة وبعد سقوط مرسي في مصر، والتحولات السعودية، ظهر أن المطلوب هو أن يصبح هناك قوة أخرى غير الإخوان وهذا ما دفع بتشكيل «الائتلاف الوطني» وجرى تهميشهم في الخارج.
مدى: كيف تداخلت الظروف الاجتماعية والاقتصادية مع الشأن السياسي في سوريا، وهل لذلك انعكاس على تحرك الناس؟
كيلة: بدءًا من العام 1996 عجز حافظ الأسد عن متابعة السلطة وتراكمت المشكلات الاقتصادية بدون حل، وسمح لفئات عديدة أن تقوم بعمليات نهب واسعة للاقتصاد السوري. حين وصل بشار تقدم للهيمنة على الاقتصاد فئة عائلية، بالطبع ليس بيت الأسد، لأن بيت الأسد وقت حافظ شكّل فئة من المافيات والناهبين، لكن أتى بيت مخلوف. عمليًا هم يعتبرون أنفسهم أرقى طبقيًا من بيت الأسد، كان محمد مخلوف قد نهب قطاعات من الاقتصاد حينما عُين مسؤولًا في شركة التبغ وفي المصرف العقاري، حافظ كان يمنع هذا الظهور لعائلة مخلوف. وأخذ بيت مخلوف يتحكم بالاقتصاد وحصل تسارع كبير في وتيرة الخصخصة، ما شكل اقتصاد الصدمة. أدى هذا إلى انهيارات في قطاعات اقتصادية عديدة وحدثت ارتفاعات في الأسعار وانهيار في الصناعة، وخُسّرت الصناعات المربحة لتباع بملاليم، وانهارت الزراعة. في العام 2010 كان هناك مليون فلاح مهجرين إلى محيط دمشق ودرعا نتيجة انهيار الزراعة.
ووفقًا للدراسات الرسمية للدولة السورية، في 2010 كان واضحًا أن سوريا هي البلد العربي الأغلى، وظهر أن الحد الأدنى للأجور يجب أن يكون 31 ألف ليرة (620 دولار تقريبا) بينما كان في الواقع 6 آلاف ليرة (140 دولار تقريبا)، ومتوسط الدخل هو 11 ألف ليرة (220 دولار تقريبا). ونسبة البطالة كانت ما بين 30 و33%. هذا ما دفع الناس للتحرك، ورد فعل النظام العنيف كسر حاجز الخوف للناس أمام الرصاص.
الصورة الآن أن الأصوليين هم من يحاربون النظام. خارج هذه الصورة يوجد مئات الآلاف من الشباب يحملون السلاح ويحاربون النظام وليسوا مع القوة الأصولية، وهناك آلاف الشباب ينشطون في الإعلام والتوثيق، لذلك عندما تهدأ الاشتباكات ينزل هؤلاء للشارع مرة أخرى، ويعبرون عن ذاتهم ضد النظام وضد المجموعات الأصولية. في الغوطة الشرقية نزل الشعب ضد القوى الأصولية، في معرة النعمان اقتحم الشباب مكاتب جبهة النصرة وطردوهم من المنطقة، كما كانت هناك محاولات في إدلب لطرد جبهة النصرة.
مدى: يرى البعض أن القوات المسلحة في مصر حسمت موقفها من مرسي عقب المؤتمر الشهير المعروف بمؤتمر «نصرة سوريا» وما صاحبه من خطابات تناولت الحالة السورية بالمنظور الطائفي، ما رأيك في ذلك؟
كيلة: مبدئيًا حسم الجيش لم يأت بعد المؤتمر. الجيش منذ نجاح مرسي كان يفكر في تغييره، لإن التوافق بين الإخوان والمجلس العسكري كان على تقاسم السلطة، أن يكون البرلمان للإخوان والرئيس قريب للجيش، عندما تقدم مرسي ظهرت المشكلة. لكن في كل الأحوال، الموقف المصري الرسمي في فترة مرسي كان مع الثورة السورية، لكن بنيّة الدولة المصرية في ذلك الوقت كانت مع النظام، لأنها بقيت بنية نظام مبارك التي ترفض الثورات عمومًا. بعد 30 يونيو فقط أصبحت المسألة أوضح، وباتت الرؤية الأساسية للنظام المصري هي التفاهم مع النظام السوري وليس إسقاطه.
* في عام 2005 تم اغتيال رئيس الحكومة اللبناني رفيق الحريري، والذي كان حليفًا رئيسيًا للسعودية، حتى أنه وصِفَ بـ «رجل الأعمال السعودي من أصل لبناني». وقعت الحادثة وقت الوصاية السورية على لبنان وسيطرة الأجهزة الأمنية السورية على الدولة اللبنانية. في البداية وجه الاتهام لسوريا بالوقوف وراء عملية الاغتيال لكن فجأة في عام 2010 تم توجيه الاتهام إلى حزب الله، ما أثار حالة من عدم الاستقرار السياسي مستمرة حتى اللحظة.