صفحات الحوار

تصفية الاستعمار تتطلب النظر من زاوية جيوسياسية أخرى: مقابلة مع رامون غروسفوغيل

نُشر في جريدة دياغونال الإسبانية
رامون غروسفوغيل (Ramón Grosfoguel) هو عالم اجتماع أميركي من بورتوريكو، وهو أستاذ الدراسات اللاتينية في قسم الدراسات الإثنية في جامعة بيركلي، كاليفورنيا. انخرط منذ بداية القرن في تأسيس إحدى أهم المجموعات التي أثرت في الفكر اللاتيني وهي مجموعة حداثة/استعمار (Modernity\Coloniality School)، إلى جانب عالم الاجتماع هانيبال كيخانو والسيمولوجي والتر مينيولو والفيلسوف الارجنتيني إنريكي دوسيل والفيلسوف نيلسون ماندولادو توريس. المقابلة أدناه تندرج ضمن الفكر ما بعد الاستعماري المتجاوز ليمين ويسار المركز الغربي.
أجرى المقابلة: ماريسا روي تريخو
ترجمة: حسين خزام
» تتمركز أطروحاتك حول تصفية استعمارية الاقتصاد السياسي، ماذا تعني بذلك؟
تتموضع البراديغمات السياسية اليوم حول محور اقتصادي، يتعين بتراكم رأس المال على المستوى العالمي، حيث يتم تقسيم العالم إلى تراتبيتين: العمل والسلطة القائمة بين الدول نفسها. ومع أن الجهات الأكثر جذريةً ضمن هذا الخطاب تقوم بإضافة قضايا كالعنصرية، المرأة، التمييز، الفقر، الخ… لكنها دوماً تبقى محصورة كحالات متعلقة بتراكم رأس المال.
والمشكلة بهذا النوع من التحليل، أنه يفترض أن العالم-النظام الذي نعيش فيه اقتصادي. أما أنا فأعتقد أن العالم-النظام الحالي هو حضارة كاملة، تتضمن فيما تتضمنه نظاماً اقتصادياً متشابكاً مع عدة تراتبيات سلطوية، لكنه ليس نظاما اقتصادياً في ذاته، فلو كان صحيحاً أنه نظام اقتصادي بحت فالحل يكون بتفكيك هاتين التراتبيتين (العمل-الدول) وبذلك نكون قد انتصرنا على التسلط.
تصفية استعمارية الاقتصاد السياسي هو تغيير جغرافية العقل، والنظر إلى نفس النظام-العالم من زاوية جيوسياسية وإبستيمولوجية أخرى. في الواقع أنا أرى خمس عشرة تراتبية للسلطة عالمياً، تتقاطع مع بعضها لتنتج علاقات السلطة (والتسلّط) التي تتجاوز مسألة الاقتصاد ولا تتحدد فقط بها.
إذاً، لنلخص، في براديغمات الاقتصاد السياسي يتم تعميم تراتبيتين تتمفصلان حول تراكمية رأس المال على المستوى العالمي (تقسيم العمل-نظام علاقات الدول بين بعضها)، كما يتم تعميم مسلّمة أننا إذا قمنا بإيجاد الحلول لهاتين المشكلتين فإننا سنتجاوز التقسيم المذكور، والمشكل أن هذا هو نفس التحليل الذي استخدمته اشتراكية القرن العشرين وكان مصيره الفشل؛ لأن العطب ليس في النظام الاقتصادي فقط، بل بالحضارة الكاملة التي تتضمن بأحد أبعادها هذا النظام الاقتصادي العالمي.
مثلاً هناك تراتبيات عرقية، جندرية، جنسية، إبستمولوجية، تربوية، فنية، جمالية، لغوية، بيئية، طبية، تقنية…، وهذه التراتبيات تشكل ككل الحضارة التي نعيش فيها.
مشكلة اشتراكية القرن العشرين أنها اعتقدت أن حلّ مشكلة الاقتصاد سيحلّ جميع المشاكل الباقية، لكنك عندما تناضل ضد رأس المال وبنفس الوقت تعيد إنتاج العنصرية أو العرقية أو المركزية الأوربية أو المركزية المسيحية أو الديكارتية1 فنضالك يفقد معناه، وهذا تماماً ما حصل مع هذه الاشتراكية التي لم تكتفِ بتأسيس «رأسمالية دولة» بل سعت لإنشاء إمبراطورية سوفييتية مارست الإمبريالية مع أطرافها، بينما عزّزت رأسمالية الدولة في الداخل مما أدى إلى انتفاض العمّال أنفسهم ضدها.
إذاً، لو أردنا حقاً أن نخطو خطوة ثورية في مواجهة هذا النظام-العالم الذي يبني «حضارة» وليس فقط «نظاماً اقتصادياً»، علينا أن ننظم نضالنا ضده بشكل «متقاطع» (intersectional)، وهنا أستخدم نفس المصطلح الذي اعتمدته الحركة النسائية الزنجية، فمن التقاطع يُفهَم أنه: في عملية تنظيم الجهود ضد النظام العالمي والقمع، علينا أن لا نستنسخ أو نعيد إنتاج محاور التسلط القائمة في هذه الحضارة نفسها، فإذا كنا نناضل ضد رأس المال، فعلى فنضالنا أن يكون غير عنصري وغير تابع لمركزية أوربية، وغير استعماري وغير جنسوي (sexist).
إذا كنا نناضل ضد النظام الأبوي الذكوري المسيحي الذي تم تعميمه خلال 400 عام من التوسع الاستعماري الأوربي، علينا أن ننظّم جهودنا بشكل تقاطعي حتى لا نعيد إنتاج المنطق نفسه، منطق الخضوع الذي يشكل جزءاً أساسياً من هذا النظام.
لهذا اتكلم عن تصفية استعمارية الاقتصاد السياسي من أجل رسم خريطة متحولة تحدد لنا التمفصلات السياسية، التي ستساعدنا في نضالنا ضد هذا النظام «المتحضّر» الذي «يحضّرنا»2.
أرفض استمرار الحديث عن «رأسمالية عالمية» أو «شكل الإنتاج الرأسمالي» أو «النظام-العالم الرأسمالي»، لأننا وبهذا المنطق نختزل المشكلة إلى بعدها الاقتصادي فقط. أفضّل أن أستخدم عبارة طويلة، تلقي الضوء على كل تلك الأبعاد التي تحجبها التسميات المعَمَمَة، أقول: النظام-العالم الرأسمالي/الأبوي/الذكوري/الأوربي/المسيحي/الحداثي/الاستعماري.
» في قلب القوى المعولمة والمنطق الاقتصادي الرأسمالي العالمي حالياً، هل هناك نضالات سياسية تطرح مفاهيم جديدة؟ أقصد طرقاً جديدة لتسمية نفسها. كيف يرى التفكير الذي يفكّك الاستعمار أن عوالم أخرى ممكنة؟
إن خريطة السلطة في العالم مخترقة بما أطلق عليه فرانز فانون التقسيم بين المحظوظين والمُدانين (على أساس عرقي). هذا يشطر العالم إلى حيِّزين: الأول هو «حيّز الوجود» والثاني هو «حيّز اللاوجود».
تقطن الأغلبية العظمى حيّز اللاوجود في هذا النظام-العالم-الحضارة، وهم عبارة عن أفراد غير معترف بإنسانيتهم الكاملة. بالمقابل هناك أقلية تقطن حيّز الوجود وتتشكل من أفراد كاملي الإنسانية.
هناك نزاعات عرقية وطبقية وجنسية وجندرية واضطهاد قومي في حيّز الوجود. لكن الاضطهاد العرقي غير موجود، لأن ما يُعاش هناك هو «الامتياز» العرقي وليس الاضطهاد. هكذا فإن «الأنا» الإمبريالية الرأسمالية الذكورية، تضطهد «الآخر/الأخرى» (الكادحين، النساء، الشباب، المهاجرين…) لكن هذا الآخر المضطهَد على الأقل معترف بإنسانيته، كونه يعيش «الامتياز» في حيّز الوجود. ومنهج إدارة النزاعات في هذا الحيّز هو منهج التنظيم القانوني (القوننة) والاعتراف بجملة الحقوق (للعمال، للنساء، للإنسان…) والخطاب التحرّري كالمساواة والحرية والاستقلال…
كل هذا يجعل طريقة عيش النزاع مختلفة جداً عما يجري في أمكنة اخرى. فكما أن الناس في حيّز الوجود تعيش امتيازات عرقية مثلاً، فإن هوياتهم ومعارفهم وروحانياتهم وأشكال وجودهم وحياتهم هي امتيازات، ويتم المبالغة بتفوقها على غيرها من أشكال الوجود والحياة والتدين والتفكير. بالمقابل، فالناس في حيّز اللاوجود، وبما أن إنسانيتهم منقوصة، كل أشكال وجودهم وتفكيرهم وتدينهم وفعلهم تعتبر منخفضة، لا بل تُخَفض انطلاقاً من ذلك المكان المتفوق. كل هذا يجعل استراتيجيات تصفية الاستعمار مختلفة بين الحيّزين.
يعالج النظام الأزمات في حيّز الوجود بطريقة مختلفة عنها في حيّز اللاوجود. ففي حيّز الوجود يستخدم التنظيم القانوني والخطاب التحرّري، أما في حيّز اللاوجود فهو يستخدم العنف والسلب.
هذا يشير إلى الحاجة لنظريات نقدية غير تقليدية تنتبه إلى السيرورات الاجتماعية-التاريخية المختلفة بين الحيّزين.
فنحن لا نستطيع أن نفهم حيّز اللاوجود انطلاقاً من نظريات نقدية تم إنتاجها في حيّز الوجود. والعكس صحيح. ويتضح جزء من النزاع بالنظر إلى «الذين يتم اضطهادهم» في كل حيّز، فمن حيّز الوجود يتكلم هؤلاء عن النضال العابر للهويات بما يتطلبه من تفكيك هذه الهويات والذهاب إلى ما بعدها، بينما من حيّز اللاوجود يتم الحديث عن تعزيزها للحفاظ على النفس أمام خطر الزوال… فماذا نحن فاعلون؟ نعزّز الهوية، أم نقفز إلى ما بعدها؟
هذه الأطروحة لها معنى فقط بالنسبة للمضطهَدين في حيّز الوجود، حيث يشكل الاتجاه «المناوئ للجوهرانية» و«تخطي الهويات» منهجاً لتفكيك وتصفية الاستعمار، كون الهويات هناك تم تضخيمها. أما في حيّز اللاوجود فهذا المنهج يتحول إلى أسلوب استعماري بحت، فالهويات هنا جرى تقزيمها، وتحجيمها وحجبها وقمعها وتصفيتها.
إذاً هناك سيرورة بناء لا يمكن أن تُعطى أو تُفرض من قبل اتجاهات «ما بعد الهوية» أو «ضد الجوهرانية»، لأن هذا الشكل من التعاطي لا يَسمح للشعوب نفسها بتطوير وبناء هوياتها ومعارفها وأشكال وجودها وعيشها وروحانياتها… الخ، فيتحول النضال لتصفية الاستعمار إلى أسلوب استعماري جديد، لأننا سنستعمل أشكال تحرّر تنطبق على المقموعين في حيّز الوجود وسنسقطها على المقموعين في حيّز اللاوجود.
هذا الإسقاط مشروع استعماري عندما لا يتنبه إلى أن المقموعين في حيّز اللاوجود يعيشون جميع أشكال الاضطهاد التي يعيشها المقموعون بنسب متفاوتة في حيّز الوجود: كالقمع على أساس الطبقة، الجنس، الجندر… والتي تتفاقم بالاضطهاد العرقي، أما في الجهة المقابلة فالقمع يتم تقزيمه بواسطة الامتياز العرقي.
في ظل الأزمة التي يعيشها الوجود في جنوب أوروبا اليوم، يجب أن يكون هناك نضال ضد هذه الحضارة يسمح بالاعتراف بالفرق بين الأفراد في كل حيّز، حيث لا يمكن للفرق أن يعالج باستعمال شماعة «العدو الواحد والنضال المشترك»، والتهام كل الفروقات المعجونة بين فرد يعيش الاضطهاد في حيّز الوجود وآخر يعيشه في حيّز اللاوجود، لأنه بذلك سيتحول إلى مفهوم إمبريالي هو الآخر، أو إلى «كليّة مجردة» جديدة تبتلع الفروق بين الذوات وخبرات القمع المعاشة بين حيّز وآخر.
لدى «اليسار الأبيض» جهاز مفاهيمي ونظري كبير مبني على قاعدة «مناوءة الجوهرانية» أو «مناوءة الهوية»، والتي تتناسب حقيقةً مع واقع الأبيض الذي يعيش في هذا النظام-العالم، لكن استيراد هذه الاستراتيجيات إلى الحيّز الآخر يجعلها تتحول إلى منهج استعماري. فما حصل في حيّز اللاوجود لم يكن تضخيم وتعويم الهويات، بل على العكس، تحطيم وسحق وحجب المعارف والإبستمولوجيات والروحانيات… وعملية تصفية الاستعمار قد لا تمرّ بتفكيك الهويات، وهل بقي هويات لنفككها؟ على استراتيجية تصفية الاستعمار في حيّز اللاوجود أن تقوم على بناء وإعادة بناء أشكال الوجود والحياة، أي كهويات مفهومة بشكل أعمق من المظاهر الفلكلورية (كطريقة اللبس أو الرقص)، هويات مفهومة كإبستمولوجيات. وجزء مما يحصل مع اليسار الأبيض عندما يتكلم عن الهوية أنه يفرغها من محتواها ويحولها إلى شيء سطحي. أما بالنسبة لأحد السكان الأصليين مثلاً، فإن موضوع هويته لا ينفصل عن إبستمولوجيته وطريقة نظرته للعالم ككل. لكنك عندما تتكلم مع اليسار الأبيض عن الهوية فإنه يستهزئ بها ويحولها إلى معنى فارغ ويقلل من شأنها، لسان حاله يقول: «أنت تدافع عن الهوية، وهذا لن يجعلنا نذهب بعيداً بل سيفرقنا»، وبهذا يُفقَد موضوع اختلاف إبستمولوجيات هذا العالم ويتحول هو إلى استعماري يساري، لأنه لن يحترم السيرورات التي يعيشها البشر في الحيّز الآخر.
من الصعب بمكان أن أشرح كل هذا في مقابلة صحفية، لأنه يناقض الحسّ السليم المباشر لليسار الغربي والمغرّب، فلو كنت أنطلق من الماركسية مثلاً لكانت المهمة أسهل، لكنني عندما أتحدث من نظرية تصفية الاستعمار وأفكار فانون فسيكون أمراً مثيراً للاستغراب، لأن هذه النظريات لن نجدها في «المنهج» أو «الحسّ السليم» اليساري، وستكون عرضة لسوء الفهم، كأن يقال: «إن ما تحاول أن تقوله هو أن الأبيض لن يفهم أبداً ما يمرّ به أحد غير أبيض». هذا غير صحيح، وأنا دائماً أُكرّر أن الأبيض الأوربي يستطيع أن ينتج تفكيراً غير استعماري عندما يأخذ على محمل الجد ويقبل «إبستمولوجيات الجنوب»، كمثال المفكر البرتغالي الكبير بوينابينتورا دي سوسا سانتوس (Bouventura de Sousa Santos)، والذي يعد مثالاً ناصعاً لرجل أوربي أخذ على محمل الجد إبستمولوجيات الجنوب وبدأ بإنتاج علم اجتماع غير استعماري… لكن للأسف، اليسار الغربي والمغرّب يمارس عنصرية وجنسوية معرفية تقلّل من شأن الفكر النقدي القادم من الخبرة التاريخية والاجتماعية لكل نساء العالم (في الغرب وخارجه) ولكل الشعوب غير الغربيّة، كما أنها تميّز وتعلي من شأن الفكر النقدي للرجال الأوربيين، وهذا ما أسمّيه «التطرف المركزي الأوربي» والذي يبنى انطلاقاً من العنصرية/الجنسوية المعرفية.
» ما رأي نظرية تصفية الاستعمار بالنضال الجماعي المشترك، أي تلك الفكرة التي تحاول البحث عن قوة جماعية تتظافر فيها إرادة النقاش والتعاون والقرار والشعور بالآخرين؟ هل من الممكن أن يتقاطع الفكر التفكيكي للاستعمار مع النضال الجماعي؟
لا شك أن هذا «المشترك الجماعي» يبدو شيئاً جميلاً، وجيداً. لدرجة أن من سيعارضه سيبدو وكأنه يبحث عن المشاكل ويقوم بتفريق الصفوف.
لكن هذا الطرح لا يتنبه إلى كيفية تقسيم النظام للعالم، فهو ينفي وجود خط فاصل بين من يعيش كإنسان وآخر يعيش كأقل من الإنسان. وهو تقسيم له آثار مادية، فهناك فوق خط الإنسانية يتعامل النظام بطريقة تختلف كلياً، فالعنف مثلاً هو الاستثناء وليس القاعدة كما يحصل تحت خط الإنسانية، وإن خلا خطابك حول «المشترك» من ذكر هذا التقسيم فأنت تساهم في الاستعمار. علينا أن نلقي الضوء على هذا التقسيم دوماً لنفهم الفروق الجوهرية بين القمع الممارس في كلا الجانبين من أجل الوصول إلى نظرية نقدية تتناسب مع كل واحد منهما.
كما علينا أن نناضل لإنهاء «استعمارية السلطة» التي تُنتج هذا التقسيم وتغذّيه، فمثلاً هناك عمّال مستغلّون في الحيّزين، أولئك العمال في حيّز الإنسانية لديهم الحق في التنظيم النقابي وجملة من الحقوق المهنية المعترف بها: لهم عدد ساعات عمل لا يتجاوز 8 ساعات، وحق الإضراب، وتقاضي أجر جيد نسبياً، وفي حالة البطالة فإن لهم الحق في قبض بدل العاطل عن العمل، وإن فقدوا منازلهم فإن هناك جملة قوانين قادرة على استيعابهم وحمايتهم، ولقد رأينا في الآونة الأخيرة كيف اتخذت المحكمة الأوربية العليا إجراءات ضد طريقة إدارة البنوك لقضية القروض في إسبانيا… أما في حيّز اللاإنسان، فهناك عمال مستغَلون أيضاً لكنهم يتقاضون دولاراً واحداً أو اثنين في اليوم، اليوم الذي يتألف من 14 ساعة عمل، وحيث تنظيم مظاهرة أو نقابة قد يكلفهم حياتهم. أن تخرج في مظاهرة وأنت تعرف أنك قد لا تعود إلى منزلك لأنك من الممكن أن تموت، هذا شيء لا يقارن مع ما يحصل في الجانب الآخر من العالم، ومهما قلنا عن النضال واحد وعن القمع واحد، تبقى هناك فروق أساسية علينا أن نراها3.
يبرز هنا مثال الماكيلادوراس في شمال المكسيك، وهي عبارة عن شركات تقام في مناطق «حرّة» من دفع الضرائب وتكاليف المواد الأولية، لكنها أيضا مناطق «حرّة» من كافة القوانين، حيث يتم غض النظر عن الحقوق الأساسية البسيطة وعن أي خطاب تحرّري وتتم ممارسة العنف كمنهج لإدارة النزاعات ونهب موارد العمل.
من أجل إزالة الخط الفاصل بين الحيّزين، علينا البدء بالاعتراف بمعنى أن تعيش فوق وأن تعيش تحت! هذا الاعتراف لا يمرّ من خلال تدبيج الخطابات التي تتغنى «بالمشترك» وأننا جميعاً متساوون4 وأن الجميع سيكون سعيداً لأن الآخر يعترف به.
علينا الاعتراف الصريح أن العالم مُقَسَّم عرقياً، وبعدها نتحدث عن نوع الاضطهاد الذي تعيشه الأفراد والجماعات في كل حيّز. فمن يعاني الاضطهاد الطبقي فوق خط الانسانية ليس كمن يعانيه تحت خط الإنسانية، ومن يعاني التمييز الجنسي فوق ليس كمن يعانيه تحت، وأن تكون امرأة أوربية ليس كأن تكون امرأة زنجية أو امرأة من السكان الأصليين، فهناك خبرات قمع تقود إلى طرق مختلفة للتحكم بالموارد والرأسمال الاقتصادي والرمزي وأوضاع الجماعات والأفراد في العالم.
وإن اعترض أحدهم عليّ بالقول: «أنا أبيض ولدت هنا فوق خط الإنسانية، ومقموع أيضاً، لكني لا أستطيع أن أفعل شيئاً فأنا لم أختر أين سأولد»، ستكون إجابتي: تستطيع أن تفعل شيئاً واحداً وبسيطاً جداً، فقط أن تكفّ عن الاعتقاد أن نظرياتك واستراتيجيات نضالك تتنبه وتحيط بحالة القمع التي يعيشها من هم تحت خط الإنسانية، أو أن «تطبيقها» سيحرّر المقموعين هناك. أن تكفّ عن الاعتقاد بأنك تفهم كل ما يدور في العالم، وأن نظرياتك الثورية المفكر بها انطلاقاً من خبرة المضطهدين فوق هي نظريات كونية (universal). عليك أن تتواضع أكثر، وأن تستمع إلى النقد القادم من الجانب الآخر، من خارج إطارك النظري، بل أن تتفهم أن الإطار النظري المستعمل هناك يتنبه ويعالج وقائع وخبرات مختلفة عما يجري في محيطك، وبالتالي فإنها تحتاج إلى جهاز مفاهيمي آخر.
فلنبدأ بالاعتراف بهذا الاختلاف، وبأن النظريات النقدية التي تشكل نموذجاً بالنسبة لك، مثل توني نيغري، ميشيل هاردت، آلان بادو، كورنيليوس كاستورياديس، ميشيل فوكو، جاك ديريدا، سلافوي جيجك، ثيليا آموروس… الخ، ما هي إلا نظريات خاصة بالمقموعين في حيّز الوجود، أي لنعترف بخصوصية هذه النظريات وقصور إطارها المفاهيمي عن الإحاطة بكل شيء. أين المشكلة بالاعتراف أننا نفكر انطلاقاً من خبرات خاصة ومعينة ومتموضع (في مكان وزمان محدّدين)؟ تكمن المشكلة في محاولة «تجريد ما هو معين ومتموضع»، تجريده لجعله كونيّاً (وصالحاً لكل زمان ومكان، أي فوق زماني ومكاني)، فخطاب توني نيغري وميشيل هاردت (كتاب الإمبراطورية مثلاً) لا يتنبه إلى معنى أن تكون مقموعاً تعيش تحت خط الإنسانية. من أجل ذلك ستحتاج إلى قراءة غلوريا أنثالدوا، فرانز فانون، إيمي سيثايري، سيلفيا وينترس، سيلفيا ريفيرا كوسيكانكي… الخ.
إن اليسار الأبيض الأوربي منغلق على ذاته وعلى نضالاته، ومستمر بدون مراجعة نقدية، وهذا خطر كبير يجعل النضال مثلاً ضد الأزمة المالية الحالية في صفوف المقموعين في حيّز الإنسانية يهدف فقط إلى استعادة مستوى الحياة الذي كان موجوداً قبل الأزمة، لأنه الآن أفقر مما كان عليه، لكن ماذا يحصل مع 80% من سكان العالم التي كانت تعيش أزمة طوال 500 عاماً مضوا؟ بالنسبة لهؤلاء، لم تبدأ الأزمة المالية عام 2008 بل منذ خمسة قرون، وحتى اليوم يعيشون مختلف أشكال العنف والطرد والاستيلاء والخصخصة وغيرها!
إذا كان النضال اليوم من أجل أن يسترد المُفقَرون مستوى حياتهم السابق على الأزمة في الشمال العالمي، فنحن لم نزل في «الديموقراطية الأثينية»، أي لم نزل في ذلك النظام الذي يعلي مصلحة أقلية على حساب الأكثرية البشرية، ولنتذكر أن الميزات التي تمتع بها العمّال في حيّز الوجود قبل السقوط الكبير كانت بسبب الاستغلال المنهجي للعمال في الجنوب العالمي.
تريد النظرة التفكيكية للاستعمار أن تقيم حواراً بين الأزمة المالية التي يعيشها الجنوب الأوربي اليوم مع الأزمة المالية التي يعيشها الجنوب العالمي منذ 500 عام. يجب وضع هاتين المنطقتين من العالم في حوار وإيجاد سبل التضامن. أما إذا استمر النضال من أجل استرجاع حقوق العمال في الشمال العالمي فقط، بدون نقد جذري للنظام-العالم الرأسمالي/الأبوي/المركزأوربي/المركزمسيحي/الحداثي/الاستعماري، فإن ما سينتج مرة أخرى هو عالم حيث لا عوالم أخرى ممكنة، وحيث يعيش الشمال الأوربي (بعمّاله) ميزات على حساب السيطرة واستغلال الجنوب العالمي، عالم حيث يحقق اليسار الأوربي أهدافه بينما باقي العالم لا يتغير، وهو عالم إمبريالي استعماري أبوي.
لقد تناقشت مع أفراد «مستعمرة» في جنوب أوروبا، وتحت هذا المسمى يندرج الأفراد الأوربيون (غير المهاجرين) الذين يعيشون في أوروبا، كما يضم الأفراد المهاجرة القادمة من أفريقيا أو أمريكا اللاتينية، أي أتحدث أيضاً عن «الاستعمار الداخلي» الذي مورس على الأفراد الأوربيين ضمن أوروبا نفسها على مدى قرون عديدة، وانطباعي أنهم كانوا مترددين جداً في دعم حركات الاحتجاج التي عمّت المنطقة خلال السنوات الثلاث الماضية، لأنهم يعدونها جزءاً من حراك اليسار الأوربي الذي تلقى ضربة موجعة من الأزمة المالية وخرج إلى الشوارع والساحات لتحقيق جملة من المطالب، دون الأخذ بعين الاعتبار أو الاستماع إلى الناس التي عاشت أزمة طوال 500 عام مضى، والتي تقطن اليوم بجانبها وتشاركها المعاناة.
هذه الأفراد تنظر بعين الريبة للاحتجاجات، وتتساءل عن ماهيتها وإلى أي حد هي مرة أخرى حركات مضطهَدين في الغرب تريد استرداد أسلوب ومستوى حياتها على حساب العالم غير الغربي، كما أن غياب مطالب العوالم غير الغربية وعدم تمثيلها ضمن الحراك يشير إلى أننا أمام حركة استعمارية لكن من اليسار هذه المرة.
» هل تريد الإشارة إلى أن «حركة الساخطين الاحتجاجية» في إسبانيا مثلاً، عليها أن تضع مسألة «استعمارية السلطة» في مركز النقاش السياسي؟
نعم، عليها أن تُركّز على الاستعمار وأن تعمل على تفكيكه، حتى لا تتحول إلى حراك يساري مركزأوربي مرة أخرى، وعليها أن تقوم بمساءلة جذرية للموقع التاريخي الذي شغلته أوروبا أمام باقي العالم وأمام الأفراد المستعمرة أينما وجدت.
على الحراك أن يفكر ويدرك شروط قمعه الخاص بشكل مترابط مع بحث مسألة الامتيازات التاريخية التي تمتع بها الأفراد على حساب باقي سكان العالم. عليه أن ينطلق من قاعدة التحول الجذري المناهض للنظام ورؤيته لحيثيات التعامل الأوربي مع باقي العالم. عليه أن يسائل علاقات السلطة التي تعيد إنتاج ثنائية الشمال-الجنوب/الوجود-اللاوجود، وعليه أيضاً الانتباه إلى أن هناك شمالاً للجنوب، كما أن هناك جنوباً الشمال، وجنوب أوروبا اليوم هو «جنوب» ضمن الشمال نفسه، ويرزح تحت سلطة «شمال الشمال» منذ قرون عديدة.
» ما هي الدروس المتعلمة من حركة الاحتجاج في وول ستريت في الولايات المتحدة؟
لا أنفي أهمية وإيجابية الحراك العالمي ضد الرأسمال النقدي (financial capital) سواء في إسبانيا أو الولايات المتحدة، لكن المشكلة هي ما أشرت إليه سابقاً، والتناقضات المذكورة ظهرت بقوة، فحركة «أوكيوباي» (occupy) انقسمت إلى أوكيوباي مركزغربي وأوكيوباي لا-استعماري عمل على نقد ومساءلة مطالب القسم الذي يسيطر عليه اليسار الأبيض.
شاركت شخصياً في «أوكيوباي أوكلاند»، حيث بدا واضحاً توجه القسم الأبيض إلى فرض رؤى وأساليب واستراتيجيات النضال على القسم الإفريقي-اللاتين، والتعامل الأبويّ تجاه الناشطين الإفريقيين واللاتينيين وذوي الأصول الأمريكية الأصلية… نتج عن ذلك صدام كبير مع «أوكيوباي الأقليات العرقية»، الذين رأوا أنهم يعيشون أزمة منذ خمسة قرون ولن يقبلوا أن يأتي أولئك الذين دخلوا في الأزمة منذ 3 سنوات فقط، وبشكل أبوي وعامودي، ليفرضوا عليهم كيف يقاومون. وبذلك انشق الحراك الى حراكَين، أحدهم مناهض للاستعمار وذو مطالب وهموم لا تدخل حيّز المساءلة عند الحراك الآخر المهيمن، المتمثل باليسار الأبيض ومن يسير في فلكه. الحراك انشق حول كثير من المسائل، أحدها مشكلة معتقل المجمع الصناعي، وهو جهاز اعتقال جماعي للشباب اللاتينيين والزنوج.
لم يأخذ اليسار الأبيض بعين الاعتبار وبجديّة حالة الهيمنة الاستعمارية الإمبريالية المعاشة من قبل الأفراد المستعمَرين داخل وخارج الإمبراطورية الأمريكية، وبذلك كان القرار بتنظيم حراك مناهض يعمل بشكل مستقل عن الحراك الأبيض، وينادي بنضال لتصفية الاستعمار، ويدرك موقع الولايات المتحدة كبلد إمبريالي/عنصري/أبوي، ويطالب القسم الآخر بموقف واضح ونقدي من هذه الأطروحات. لأنه بدون هذه المراجعة يعيد إنتاج «استعمارية السلطة» التي يناضل ضدها.
النظرة الديكارتية أي المتمثلة في الكوجيتو «أنا افكر إذاً أنا موجود» والتي تقوم على قرنين من «أنا أحتل إذا أنا موجود»، حيث يقوم ديكارت بإخفاء الفرد المتحدث وذلك بنزع زمانيته ومكانيته فيصبح فرداً مجرداً ليأخذ مكان الله في النظام السيكولائي القروسطي، لكن الفرد المجرد هو كذبة لإخفاء الفرد الأوربي المعين خالق الحضارة والتحضر. الكوجيتو الديكارتي من وجهة نظر غروسفوغيل يقوم على أربع موجات من التطهير أو ما يسميه «المجازر الإبستمولوجية»: أولها ضد النساء في القارة الأوربية نفسها، أو ما عرف بحرق المشعوذات والساحرات اللواتي كنّ يتناقلن معارف شفهية قديمة في الطب والعلوم والفلك؛ وثاني المجازر الإبستمولوجية هي ما ارتكبه الإسبان بحق المسلمين واليهود في الأندلس، وما عرف عن محاكم التفتيش من حرق وتهجير وتنكيل بالأفراد ومعارفهم، كتدمير وحرق مكتبة قرطبة التي كانت أكبر مكتبة على الإطلاق في أوروبا آنذاك؛ وثالث المجازر الإبستمولوجية هي ما تم ارتكابه إبان «اكتشاف العالم الجديد» حيث أزيلت عن الوجود تجمعات وثقافات إنسانية كاملة في القارة الأمريكية؛ ورابعها هو الاستعباد في القارة الإفريقية، حيث تم خطف وقتل وتهجير ملايين الزنوج والإتجار بهم وكأنهم ليسوا بشراً وما نتج عن ذلك من تدمير تواريخهم ومعارفهم وأديانهم ولغاتهم تدميراً كاملاً. [↩]
تحولنا من «شعوب بدون كتابة» في القرن الـ15 إلى «شعوب بلا تاريخ» في القرنين الـ18 والـ19، ثم إلى «شعوب بلا تطور» في القرن الـ20، لنصل اليوم إلى «شعوب بلا ديموقراطية». هذه السيرورة تقابل الانتقال من «إما أن تصبح مسيحياً أو تموت» (الـ15) إلى «إما أن تصبح متحضراً أو تموت» (الـ19) مرورا بـ«إما أن تتطور أو تموت» (الـ20) ثم «إما أن تصبح نيوليبرالياً أو تموت» (بداية هذا القرن)، لنصل اليوم إلى «إما أن تصبح ديموقراطياً أو تموت» (هذا قسم من نص لنفس الباحث بعنوان «تقكيك استعمارية الاقتصاد السياسي والدراسات ما بعد الاستعمار: تجاوز الحداثة، الفكر الحدودي، الاستعمار العالمي. المترجم). [↩]
تقول لنا الماركسية «يا عمال العالم اتحدوا»، لكن عن أي عمال تتحدث؟ العمال في حيّز الوجود أم العمال في حيّز اللاوجود؟ هل العمال الفرنسيون الذين يتقاضون عشرة أضعاف ما يتقاضاه العمال في سيرلانكا سيتحدّون معهم ضد رأس المال؟ وهل العامل الألماني خاضع لنفس شروط استغلال العامل البلغاري؟ أو البوليفي أو التونسي؟ الأحرى بالعامل في حيّز اللاوجود ألا يناضل ضد رأس المال المجرد فقط، بل أن يتنبه أيضاً إلى ذلك العامل في حيّز الوجود، الذي يستغلّ جهده ونضاله والقيمة المضافة لعمله من أجل تحسين شروطه الخاصة. [↩]
كما يقولون في المكسيك: كلنا متساوون لكن هناك من هم متساوون أكثر من غيرهم (وهو ما تردده سيلفيا ريفيرا في معرض مقابلة أجريت معها في جريدة دياغونال الإسبانية، وأصلها عبارة جورج أورويل الشهيرة. المترجم). [↩]
موقع الجمهورية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى