“سنو وايت” وممحاة الشمس/ أحمد عمر
يروي خالد معروف هذه الملحمة الصغيرة: “في الصف الخامس، كنت أصاحب زميلة اسمها ميس، بيضاء مثل الثلج. كنا في مقعد واحد، نتبادل كل ساعة شمَّ ممحاتينا، أشمُّ “محايتها” وتشمُّ “محايتي”، لنعرف أي الفريقين أطيب ربيعاً، وكانت “المحايات” معطرة في تلك الأيام.
كانت ميس البيضاء تستمتع بمشاهدة صراع الزملاء وعراكهم، وتصفّق للمنتصر، فاتفقت مع الزميل زعتر على مكافأةٍ قدرها خمس ليرات، مقابل وجبة من جدول الضرب، ليرتان ونصف “مقدّم” مهر إعجاب ميس، ونصف الخمسة مؤخر الزّفة.
قال خالد: اعترض زعتر طريقي، بعد انتهاء الدوام، حسب الاتفاقِ الحيلةِ، فرفعت يدي للكمهِ على طريقة الكاوبوي، ففوجئت بصفعةٍ قوية، جعلتني أرى قوس قزح في فصل الصيف، كان لزعتر أخ أكبر منه، يأتي كل يومٍ ليصحبه في طريق العودة، ويحمل حقيبته الثقيلة، وقد أنجَد أخاه. لم يكتفِ أخوه الكبير باللطمة، وإنما جعلني عبرةً لمن يعتبر، ومسح الأرض بي، فصارت بعدها بيضاء مثل الثلج، وسمعتي سوداء مثل أسفل القِدر.
في اليوم التالي، دخلت متورماً من العقوبة، والدنيا سوداء في عيني، المقاعد، والتلاميذ، والمعلمون كأنهم في ليل كثير النجوم، فوجدت ميس قاعدةً بجانب زعتر، وهما يتبادلان شمَّ نسيم “المحايات”، وزعتر يشمّ “محايتها” بأنيابه لا بأنفه، كنت قد مُحيت محواً من قلب ميس. ممحاتي انتهى ربيعها”.
كانت لعبة “سنو وايت” لعبة الساسة المفضلة، وأتذكّر أول لعبة سنو وايت، قرأتُها في المرويات. كانت في سيرة عنتر بن شداد، عندما وقع الملك زهير، ملك بني عبس في حب تماضر الحسناء، فاتفق مع حلفائه من بني غراب، على غزوهم من غير أذية؛ يهجم هو على بني غراب الغازين، فيفرّون أمامه، ويتركون السبي، وبينهم تماضر، وهكذا كان. قدّم أبو تماضر ابنته جاريةً للملك زهير، شكراً وعرفاناً. لكن زهير أفشى مكيدته لتماضر بعد الدخول بها، فمكرت به، وادّعت أن لها أختاً أجمل منها، اسمها خداع، فطمع زهير بأختها، ووقع في المصيدة، وكانت الخاتمة أنْ دفع مهرها من النوق العصافير، وقالوا في الأمثال: لأمرٍ ما جدع قصير أنفه.
وهي حيلة أكثر أبطال أفلام الصيف المصرية بعد النكسة، والشتائية أيضاً، يتفق البطل مع زعتر على ضربه، لنيل إعجاب البطلة، والتي يقول النقاد إن جمال عبد الناصر شجّع إنتاج هذه الأفلام، لصرف الناس عن عار الهزيمة، وكذلك الأفلام الهندية، وهي خدعة لجأ إليها كل الطغاة الأجانب والعرب، ويسمّونها في أدبيات السياسة، “الهروب إلى الأمام”.
ولعبها بشار الأسد، عندما أخرج للشعب الدواعش من السجون، حتى تحبه أمّة “منحبك”، وتزداد حباً. أكثر من جهر باللعبة هو الداهية عبد الفتاح السيسي، عندما حذّر من أخي زعتر المحتمل، فماتت الأمة المصرية في حبه، ووُصف بالجذّاب.
ولم تكن لعبة أخي زعتر مقصورةً على الخصم الديني في سورية، إذ كان الأسد يسلط المخابرات على الشعب، حتى يحبَّ رئيسه المسكين الذي لا يستطيع أن يسيطر على مخابراته المتوحشة. العبرة العاطفية الشجية من قصة سنو وايت، حسب صاحبها خالد معروف: أن النساء سريعات النسيان، وينكرن الخبز والملح والعطور، ويغرمن بالقوي، لكني أرى أن فيها عبرةً لأولي الألباب، وهي أنّ المكر السيئ يحيق بأهله.
والتاريخ يقول: للمكر السيئ ثمار سريعة، لكنها مدمرة بعد حين. وكل التقارير العلمية الرصينة تؤكد أن ضرب البرجين مستحيل بطائرات مدنية، وهناك مبنى ثالث سقط من غير ضرب، وعندما سئل صاحب المبنى عن سبب سقوطه، ذكر عذراً مثل عذر جحا، عندما طلبوا منه حبلاً، فقال: نشرنا عليه العدس.
لم يكن الرئيس الأميركي في حاجة إلى حب الأمة السنو وايت، “الواسب”، وإنما بحاجةٍ ماسةٍ إلى الترهيب من أمّة المسلمين.
وطريقة الحب الشاقة هذه، يشبّهها ممدوح عدوان في كتابه “حيونة الإنسان” بأمٍّ تدلّي ولدها من الشرفة، حتى يتشبث بها ويزداد حباً لها!
لقد اقترفتُ ذنبين؛ الأول: هو نقل قصة خالد معروف الجميلة إلى فصاحة البلاغة والبديع. والثاني: أني أوّلتها سياسياً. ولي نيّة مبيّتة لقراءة ثانية.
العربي الجديد