سوريا: أوهام تعاند السقوط/ منذر خدام
كثيرة هي الأوهام التي رافقت انتفاضة الشعب السوري في سبيل الحرية والديموقراطية، بعضها سقط واقعيا بحكم مسار الأحداث على الأرض، أو بحكم تغير مواقف أصحاب هذه الأوهام، أو مواقف أولئك الذين ساهموا في إنتاجها ودعمها من أصحاب الأجندات الخاصة في سوريا.
لكن هناك الكثير من الأوهام الأخرى التي تعاند السقوط، وتمتلك قدرة عجائبية على التقمص، وإعادة التقمص بأشكال مختلفة لجوهر واحد وهو أنها أوهام. وأنا هنا لا أتحدث عن أوهام السلطة الحاكمة (لقد كتبت الكثير بخصوصها)، فهي بالأساس ككل سلطة استبدادية لا تكون بدون أوهام تعمل على إنتاجها ورعايتها والعمل على ترسيخها لدى الآخرين على أنها حقائق وليست أوهاما، بل سوف أتحدث عن أوهام المعارضة.
من هذه الأوهام الكبيرة التي تكاد تسيطر على الحقل السياسي المعارض في سوريا، وتتقدم الخطاب فيه، وتعاند السقوط، وهم “تمثيل” الشعب. يكاد كل من يعمل في الحقل السياسي، خصوصا خلال السنتين والنصف من عمر انتفاضة الشعب السوري، يزعم أنه يمثل الشعب، و يقدم نفسه بالتالي كناطق باسمه. لقد صار مفهوم “الشعب” مضللا بالطريقة التي يستخدم بها، وقد بلغ حجم الضلال في استخدامه درجة عالية، بحيث صار مفهوما غير معين، يخضع لمزاج مستخدمه، يضع له الدلالة التي يريدها.
مفهوم “الشعب” في اللغة، وفي الاصطلاح، هو مفهوم مركب لا يقبل التماثل الداخلي، لذلك لكي يتم استخدامه بصورة صحيحة ينبغي أن يُسبق بما يجزئه كأن يقال “بعض” الشعب، أو “أغلب” الشعب، بحسب الحالة المستهدفة من الخطاب. حتى الفئة من الشعب (حزبا كان، أو نقابة، أو منظمة أهلية أو مدنية) فهي تكوين، إنها بنية غير متماثلة، ولا يجوز حشرها في ما لا تقبل أن تحشر فيه، خصوصا عند استخدام المصطلح في الشؤون العامة. فعندما تزعم المعارضة، أو بعضها، كما في الحالة السورية، بأنها “الممثل الوحيد والشرعي للشعب السوري”، فهي تعبر عن أوهام لا عن حقيقة، فالشعب السوري ليس كله معها، بل جزء منه.
الحقيقة على الأرض تقول بأن السلطة الحاكمة لديها مناصروها، وهم ليسوا أكثرية الشعب، هم موزعون في مختلف أشكال الوجود الاجتماعي الأهلية والمدنية والدينية والسياسية بدرجات مختلفة. والمعارضة لها مناصروها أيضا، وهم ليسوا أكثرية الشعب، هم موزعون في مختلف أشكال الوجود الاجتماعي.
أما الغالبية الساحقة من الشعب السوري فهي ليست مع السلطة، وليست مع المعارضة، بالمعنى المباشر والفاعل للموقف السياسي. إن الإقرار بهذه الحقيقة، التي لطالما تجاهلتها المعارضة في خطابها السياسي، وفي اقتناعاتها، يساعد كثيرا على تأسيس الواقعية في السياسة، التي بدونها لا تكون السياسة فاعلة في الواقع وأداة لتغييره في اتجاه الأفضل، بل سوف تظل أسيرة الأوهام.
بالطبع يمكن تفهم الاستخدام المجازي لمفهوم “الشعب”، وأستخدمه بدوري بهذا المعنى في الحالات التي يعبر فيها جزء من الشعب عن مصالح الشعب الكلية بصورة موضوعية، وليس بالمعنى المباشر. فالشعب في غالبيته الساحقة، مثلا، له مصلحة موضوعية في الحرية ، وفي حكم القانون، وان يكون رأيه مسموعاً في الشؤون التي تخصه، حتى ولو طالب بذلك جزء منه، أو ثار في سبيله.
ومن الأوهام التي تتحكم بالخطاب السياسي المعارض ولا تزال تعاند السقوط، القول بأن ما يجري في سوريا هو “ثورة”. الثورة بالمعنى الاجتماعي، كما قدمها لنا التاريخ، وكما هي في التعميم النظري لتجارب التاريخ الثورية، لا تكون بدون مشروع سياسي وبدون برنامج لتحقيقه، وبدون قيادة لها ، وجميع هذه العناصر غير متوافرة في الانتفاضة السورية.
ما حصل في سورية هو نوع من التمرد المجتمعي، الذي تحول لاحقاً من خلال التظاهرات السلمية إلى انتفاضة مجتمعية، وكان من المحتمل أن يتحول إلى ثورة لولا الانتقال إلى العسكرة والصراع المسلح. لقد أدرك النظام منذ البداية خطورة التظاهر السلمي عليه، وخصوصا عندما بدأ يشكل قياداته السياسية الميدانية، على شكل لجان تنسيق، والتي بدورها بدأت تؤسس لولادة منابر سياسية، ولبلورة مشروع رؤية سياسية تتخطى حالة الشعارات التي أغرق الانتفاضة بها بعض تجار السياسة من بقايا الأحزاب القديمة العاملة، خصوصا في الخارج، وكذلك من بعض المعارضين بالصدفة الذين استغلوا الانتفاضة لتقدم الصفوف الإعلامية بهدف الظهور وتقديم أوراق الاعتماد للانتفاضة إعلاميا فحسب، لكن عيونهم كانت مركزة على التسويق المادي لهذا الظهور على شكل حسابات مصرفية، أو شقق فاخرة في هذا البلد أو ذاك، لدى أصحاب الأجندات الخاصة في سوريا.
اليوم ما يجري في سوريا هو صراع مسلح على السلطة لا أكثر بين دعاة الخلافة الإسلامية والنظام، إنه صراع استبدالي في إطار الاستبداد ذاته بين شكله العلماني المزعوم، وبين شكله الإسلامي الدعيّ.
لكن هنا أيضا يمكن استخدام مصطلح “ثورة” بالمعنى المجازي للدلالة على أن ما يجري في سوريا قد اخرج جميع الأسئلة المتعلقة بنظام الاستبداد فيها، بل بالنظام الاستبدادي المشرقي ككل، من جيوب التاريخ، لتبحث لها عن أجوبة، لذلك أسميها بهذا المعنى ثورة أسئلة أو ثورة تطورية محتملة. واقدر أن الصراع المسلح لن يجيب عن هذه الأسئلة، سواء انتصر النظام أو المعارضة المسلحة، بل سوف يعيد المنتصر هذه الأسئلة من جديد إلى جيوب التاريخ، لذلك فإن الحل السياسي من خلال الفرصة المتاحة له دوليا عبر “مؤتمر جنيف2” هو الوحيد القادر على تقديم إجابات عنها وخصوصا عن تلك المتعلقة بالبديل الديموقراطي من نظام الاستبداد. وإذ ينجح في الإجابة عن الرئيسي منها على الأقل، تكون الانتفاضة قد بدأت تتحول إلى ثورة تطورية حقيقية.
ومن الأوهام التي سيطرت على الخطاب السياسي المعارض وهم “إسقاط النظام”. كثيرون ممن نادوا باستقاط النظام لم يفرقوا بين النظام والسلطة، وبين الوظيفة التعبوية للمصطلح عندما يرفع كشعار في الشارع، وبين كونه مطلبا سياسياً مباشراً. وهم بالتالي، لا يفرقون بين إسقاط النظام كعملية وبين إسقاطه كحدث مباشر. إسقاط النظام ليس حدثاً بل عملية، وهو لا يسقط بسقوط السلطة الحاكمة، لأن الاستبداد ليس موجودا فقط في الحقل السياسي، بل هو في التشريع وفي العلاقات الاجتماعية وفي الحياة الاقتصادية، وفي منظومة القيم العامة وآليات التفكير، وفي جميع مناحي الحياة الاجتماعية الأخرى، تصونه وترعاه وتعيد إنتاجه ثقافة استبدادية سائدة، وإن إزالته من هذه الحقول يحتاج إلى زمن قد يمتد إلى عقود من السنين. المهم في الأمر هو فتح المسار في اتجاه إزالته، ويكون ذلك من خلال إزالته من الحقل السياسي، وذلك من خلال تعميم مناخ الحرية والديموقراطية فيه، وإعادة تشغيل هذا الحقل وفق المبادئ الديموقراطية وآلياتها.
كثيرة هي الأوهام التي تحكمت بالخطاب السياسي المعارض خلال الفترة الماضية وخصوصا خلال سنوات الانتفاضة السورية، وإن عدم التخلي عنها سوف يساهم في بقاء الاستبداد، وليس في نقضه. على المعارضة أن تعيد عقلها السياسي من إجازته المفتوحة، وان تساهم في الإجابة على أسئلة التاريخ لا الهروب منها.
كاتب سوري
النهار