سوريا الثورة.. والثورة على الثورة
جعفر المظفر
في عام 1958 ذهبت سوريا بإرادتها لتبايع عبد الناصر رئيسا, ولتصبح إقليما شماليا للجمهورية العربية المتحدة التي كانت مصر إقليمها الجنوبي, وكان عبد الناصر اشترط على السوريين حل أحزابهم والانضمام للإتحاد الاشتراكي, ولقد وافقت أغلب الأحزاب السورية ومنها حزب البعث على قرار حل تنظيماتها وتم التضحية بتجربة ديمقراطية ناشئة لصالح ديكتاتورية ثورية بدت بمقاييس ذلك العصر وكأنها تجديد لعصر البطولات العربية القديمة.
لكن من الذي كان يجرأ وقتها بالحديث عن مفردات على شاكلة قوانين السوق أو الديمقراطية أو حقوق الإنسان. لقد جعلت معطيات مرحلة الانقلابات العربية تلك المفردات خروجا على السياق والمنطق, فالمنطقة العربية وفي المقدمة منها مصر كانت تفور بأحداث هامة كان من شأنها أن تؤجل المطلوب الاجتماعي لصالح المطلوب السياسي, فلا كتب الديمقراطية ولا كتب التحولات الاجتماعية كانت قادرة على أن تفعل مفعول خطاب سياسي واحد يتحدث عن قضية تحرير فلسطين أو الوحدة العربية, أو عن رحيل القوات الاستعمارية وإزاحة قواعدها, بل أن الديمقراطية ذاتها بدت مكروهة آنذاك, ليس بسبب نواقص تجربتها الذاتية, كونها أصبحت لعبة النخبة, وإنما أيضا لأنها كانت خطابا لفئات سياسية متهمة بالتواطؤ مع الغرب المستعمر على حساب القضيتين الأساسيتين, الاستقلال الوطني ومتطلبات السيادة من جهة وقضية فلسطين من جهة أخرى.
صحيح أن العديد من الدول العربية كانت لها برامج لتأميم بعض المرافق الاقتصادية الكبيرة مثل قناة السويس في مصر والمصالح النفطية في العراق, لكن حتى مع هذه الإنجازات الكبيرة فقد تم وضع الخطاب الاقتصادي في خدمة الخطاب السياسي, وصار بإمكان منظر لدبابة أو صاروخ في عرض عسكري أن يعوض عن مشهد بناء مصنع جديد ويؤجل حاجة الحديث عنه, بل ويلغيها.
لكن مقارنة التغييرات التي حدثت في مصر (1952) والعراق ( 1958) مع تلك التي حدثت في سوريا منذ انقلاب حسني الزعيم (1949) سوف تجعلنا نرى أن انقلابات مصر والعراق العسكرية كانت قد حققت عددا من الإنجازات الاقتصادية المهمة وخاصة على الصعيد الزراعي, أما سوريا فبدت حينها وكأنها لا تملك غير أفقها السياسي المتمثل بأهداف وطنية وقومية على شاكلة الوحدة العربية وتحرير فلسطين. حتى إذا ما تصاعد نجم عبدالناصر, وخاصة بعد تأميم قناة السويس وصمود مصر في وجه العدوان الثلاثي الذي شنته جيوش التحالف الإنكليزي الفرنسي الإسرائيلي عام 1956 فإن انضمام سوريا إلى مصر لتأسيس دولة واحدة كان قد تفعل بسبب غياب شبه كامل للبرامج الاقتصادية والاجتماعية التي من شأنها أن تعزز إطار التجربة السورية وتجعلها أكثر ميلا للحفاظ على هويتها الوطنية. إضافة إلى ذلك فإن الصراعات البينية المحتدمة بين القوى السياسية السورية كان جعل البعثيين والقوميين أكثر التزاما وعملا بمشروع الوحدة, ليس من خلال التزامات عقائدية بحتة, وإنما لاعتقادهم أن دولة الوحدة ستمنحهم موقع ونفوذا أفضل على حساب كل القوى السياسية الأخرى .
كانت الوحدة هروبا سوريا إلى الأمام مما أدى إلى القبول الفوري بشروط عبدالناصر وفي المقدمة منها حل الأحزاب, ولم يكن بالمقدور تفسير ذلك بمعزل عن توقع المكاسب السياسية التي ستتحقق للتيار القومي على حساب التيارات السياسية الأخرى من شيوعيين ووطنيين, لكن حساب الحقل لم يكن انطبق تماما على حساب البندر, إذ سرعان ما تكشف للبعثيين إن دولة الوحدة هي دولة ناصرية بالكامل, أما هم فلم يحصلوا سوى على إحدى وظائف نائب الرئيس الثلاثة (أكرم الحوراني) وهي وظيفة فخرية لم تكن تتناسب مع ثقل الحزب أو مع طموحه, في حين أصبحت سوريا محكومة كاملا من قبل نائب عبدالناصر (المشير عامر) والحاكم العسكري الناصري (عبدالحميد السراج).
ولا يمكن تفسير مساندة البعثيين للانقلاب العسكري السوري للانفصال عن دولة الوحدة بدون إعطاء أهمية كبيرة لهذا الجانب الذاتي, ومع أن الحزب جماهيريا ظل يعيش عقدة تأييده للانفصال, لكن الانفصال ذاته كان منح البعثيين مكاسب سياسية كبيرة, فإذ حققت لهم دولة الوحدة القضاء على أو تحجيم بقية الحركات السورية المنافسة بفضل من عبدالناصر, فإنها جعلتهم, رغم حل الحزب وإنضمامه إلى الإتحاد القومي ( تنظيم السلطة المسموح له بالعمل السياسي) بمنأى عن التصفيات السياسية, حتى إذا ما حدث الانفصال فقد وجد البعثيون في أنفسهم القدرة على تسيد الساحة السياسية وسط غياب أو تراجع بقية القوى الذي حققته لهم السلطة الناصرية بالنيابة, ولم يكن قد مضى عامان على الانفصال (1961) حتى تمكن البعثيون حسم معركة السيطرة على السلطة (1963).
بسهولة يمكن الوقوف أمام الحقيقة التالية, إن البعثيين في سوريا لم يكونوا يملكون غير خطابهم السياسي, وفي حمى التنافس مع عبدالناصر على الزعامة القومية ولغرض التقليل من الأثر السلبي للمشاركة في الانفصال وميل القيادة القومية بزعامة عفلق إلى السيطرة على شؤون الحزب وسلطته على حساب نفوذ وتأثير قياداته القطرية, ومع الصراعات التي أججتها تلك المجابهات, فإن اللجنة العسكرية التي ضمت رجالا من أمثال صلاح جديد وحافظ أسد لم تجد صعوبة كبيرة أمامها لحسم المعركة ضد فرسان الحزب القوميين ( عفلق – أمين الحافظ).
وفي حمى الانقلابات تلك كان التطرف القومي والثوري يزداد ويتصاعد من خلال خطاب توظيفي كان تأسس لتغطية النوازع الذاتية السلطوية, وكان من الطبيعي بغياب البرامج الاجتماعية والاقتصادية الوطنية الأخرى أن يتحول العمل السياسي السوري وقتها إلى مجرد مزايدات سياسية خطابية هدفها إقصاء الخصوم, فأزداد التمسك بالخطاب السياسي بشقيه (الثوري اليساري للتغلب على جناح عفلق المتهم باليمينية) و (القومي الذي تصاعد على خلفية الصراع والتنافس مع عبدالناصر والأهم أيضا لإقصاء كامل لجناح عفلق), وفي هذا الاتجاه كانت فلسطين جاهزة لأغراض الاستثماري التوظيفي الذاتي الذي أدى إلى هزيمة الخامس من حزيران الماحقة والتي كان نصيب سوريا فيها ضياع هضبة الجولان ذات القيمة الإستراتيجية الكبيرة على الأمن الإسرائيلي.
وكان لا بد من ضحية(!). هنا يتقدم وزير الدفاع السوري(حافظ الأسد) المتهم من قبل (صلاح جديد) بالانسحاب من الهضبة وعلى طريقة (أتغذى بك قبل أن تتعشى بي) بإزاحة هذا الأخير وطاقمه القيادي من سدة الحكم لكي تبدأ بعدها مرحلة (سوريا الأسد).
وسوريا الأسد, وبن الأسد, كانت بكاملها مشروعا لإستثمار الحدث القومي بشقيه الفلسطيني والوحدوي, وهو استثمار ذاتي ولا علاقة له بالنوايا الحسنة, وطيلة الواحد وأربعين عاما هي مدة حكم الأسدين كان النظام قد أثبت براعة كبيرة في فنون الاستخدام السياسي بحيث أصبح الورقة الأساسية المطلوبة لتوازنات الساحة العربية والإقليمية وأصبح استمراره مطلوبا من كل الأطراف المتنازعة وحتى من قبل أمريكا وإسرائيل.
لكن تطورين خطيرين سرعان ما عجلا بفقدان هذا النظام لأهم أوراق براعته, فعلى صعيد الساحة العربية لم يعد خطاب النظام القومي كافيا لدعمه. على الجبهة مع إسرائيل تراجع ثقل القضية الفلسطينية لتتحول من قضية قومية إلى قضية محلية ودولية لا مجال فيها للإستخدامات العربية وبالأخص السورية. أما على الصعيد اللبناني فقد فقدت سوريا لمعانها وبريقها الثوري لصالح إيران وحزب الله, أما على صعيد الخطاب القومي فإن مشاريع الوحدة العربية تراجعت كثيرا إلى ما دون مستوى مشروع التضامن.
هكذا فإن الأسباب التي تأسس النظام وفق قواعدها قد تراجعت وحتى انتهت. الخطاب السياسي السابق لم يعد له وجود أو أهمية بالمستوى الذي يمنح النظام مبررات تأجيل ما هو اجتماعي ( قضايا الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان) لصالح ما هو سياسي ( قضية فلسطين والوحدة). ذلك قد نسف مبررات وجود النظام الذي ما كان تأسس أساسا ولا كان استمر إلا بفضل العوامل السياسية التي لم يعد لها وجود أو تأثير كاف.
لقد فقد النظام السوري أهم أوراق قوته كما وتراجعت أهمية الباقي بفعل التغييرات السياسية المعاصرة, أما عن احتمال خروج النظام من محنته هذه فهو احتمال ضعيف جدا لأن هذا النظام الذي فقد قوة برنامجه السياسي قد فقد أيضا قدرة أجهزته القمعية على الدفاع طويلا عن دولة لا برنامج لها.
والدولة التي لا تملك برنامجا سياسيا أو اجتماعيا قد تكون أي شيء إلا أن تكون دولة.
كذلك الأنظمة, فهي كما الأفراد, إن شاخت فلن يكون أمامها سوى أن تتقاعد.
لكن مشكلة أنظمتنا العربية أنها لا تملك نظاما للتقاعد يعينها على أمراض الشيخوخة.