سوريا بين معارضٍ وموالٍ
تنقسم سوريا بحدّةٍ بين معارضٍ وموالٍ، وتكاد تصبح بلدين أو أكثر. السياسيون يملؤون الفضاءَ بتحليلاتهم لما يجري، وما يجب وما لا يجب. لذلك اتجهنا إلى مجموعةٍ مثقّفين من مشاربَ مختلفةٍ لسؤالهم عمّا يجري، وما يتوقّعونه، وما يمكنُ أن يكون إسهامُهم من أجل سوريا أفضل.
• بدرخان علي (كاتب سوري)
ما يجري في سوريا ثورةٌ شعبيّةٌ وطنيّةٌ: ثورةٌ بإرادة المقاومة والكفاح المتواصلة رغم العنف المهول والخسارات الهائلة؛ وشعبيّةٌ لأنّها تعكس إلى حدٍّ بعيدٍ صورةَ المجتمع السوريّ المتنوّع وفئاته الشعبيّة بشكلٍ خاصّ؛ ووطنيّة لأنّها اندلعتْ من إرادة المواطنين التوّاقين إلى الكرامة والحريّة، بتأثيرٍ من موجة “الربيع العربيّ،” بعد عقودٍ من الإذلال على يد نظامٍ ديكتاتوريّ وأنانيّ وفاسد.
على هامش هذه الثورة يمكن أن تقال أشياء كثيرة ، بعضها صحيحٌ وبعضُها مبالغٌ فيها. بعضها تتحمّل السلطةُ القائمة مسؤوليّتها جرّاء سلوكها الوحشيّ خلال الانتفاضة، وبعضُها نتائجُ قمع مديد تعرّض له السوريّون على مدى عقود. بعضها لعواملَ إقليميّة، وأخرى لعوامل دوليّة. ويمكن الكلام على اختراقاتٍ حصلتْ لطابع الثورة الشعبيِّ الوطنيّ، لكنّها ليست هي المتنَ على أيّة حال.
غير أنَّ مستقبل الثورة السوريّة لن يكونَ كما كان يُتوقَّع في البداية، أو على حجم التضحيات العظيمة التي بُذِلَتْ، للأسف. إذ إنَّ السلطةَ القائمة تتساقط بالتدريج، المكلفِ والمدمِّرِ، لكنّها ستسقط على أشلاءِ الناس، وفوق بحرٍ من الدماء والدمار، وستحوّل المجتمعَ والدولةَ إلى شبهِ حطام، ولن تتركَ لنا نشوةَ الفرح بسقوطها المرتقب. لقد تحوّلت الثورة إلى حربٍ بكلِّ معنى الكلمة. وللتوضيح، فأنا لا أراها حربًا طائفيّةً أو أهليّةً كما يُقال أحيانًا؛ بل أراها حربًا بين سلطةٍ عسكريّةٍ – أمنيّةٍ – عائليّةٍ (هي الطرف الأقوى بكثير) مدجّجةٍ بترسانةٍ عسكريّةٍ قويّة ودعمٍ روسيٍّ إيرانيٍّ معلن؛ وبين مجتمع الثورة الذي دُفع إلى مواجهةٍ كبيرةٍ ودامية. إنّها حربُ إلغاءٍ وإفناءٍ، يصعب إيجادُ حلولٍ وسطى لها، بتواطؤ جميع الدول تقريبًا، من حلفاء النظام وداعميه إلى “أصدقاء الشعب السوريّ”!
لقد أرادها النظامُ حربًا منذ البداية، وزجَّ بالجيش باكرًا في مواجهة الاحتجاجات السلميّة في درعا وحماه وحمص وغيرها، في محاولةٍ لاستئصال الحركة الاحتجاجيّة من جذورها. فيما بعد، برز عنفٌ مضادٌّ من قبل جمهور الثورة، دفاعيٌّ على الأغلب، هو العنف الملازم لكلِّ ثورةٍ جذريّةٍ من نمط الثورة السوريّة في مواجهة نظامٍ “جذريٍّ” أساسًا، وذلك بعد تزايد أعداد الضحايا وبروز ظاهرة المنشقّين عن الجيش وانضمام السكّان المدنيّين إلى المقاومة المسلّحة. وتعاظمت هذه الأخيرة حتى طغت على الحراك السلميّ، الذي بات يصعب الكلام عليه في أجواء الحرب القائمة وفي المناطق الخاضعة لسيطرة السلطةِ تحديدًا.
وعطفًا على سؤالكم عن دورٍ للمثقّفين في مستقبل سورية وفي ما يعنيني تحديدًا، أقول: إنّني، وبكلِّ ألمٍ وحسرةٍ، إذ أشاهدُ بلدي يُدمَّر وشعبي يُقتَل والفقراء يتضوّرون جوعًا ومئات الألوف من المهجّرين والمشرّدين في أصقاع العالم، لا أرى أفقًا لإنقاذ البلد وأهله (وما تبقّى منه ومنهم). الكلام على مؤتمراتٍ لـ”أصدقاء سورية” و”حكوماتٍ انتقاليّةٍ تمثل جميع فئاتِ الشعب” و”إعادة إعمار” البلد، ومشاريع “اليوم التالي” لسقوطِ النظام …. لا يغيّر شيئًا من تشاؤمي و إحباطي.
• ناصر حسين (فنّان تشكيليّ سوريّ)
لم يبذل النظامُ السوريّ وأنصاره أيَّ جهدٍ بابتكار شعارهم الجديد “الأسد أو نحرق البلد.” وهذا أمرٌ غير مستغربٍ من نظامٍ أراد أن يقنعنا بالحذاء أنه يملكُ فكرًا خالدًا ورئيسًا خالدًا ورعايا خدمًا له. فما يحدث في سورية الآن، بعد أكثر من أربعين عامًا من العذاب، وعامٍ وأشهرٍ سبعةٍ من عذابٍ آخر، أنّ النظام مازال يرسّخ فكرته التي وُلِدَ معها: “القتل من أجل البقاء.” المستغرب أن يلبّيَ بذلك رغبةً للسوريّين (رعاياه)، حين رفعوا شعار: “الموت ولا المذلّة!”
لكنْ تجب الإشارةُ إلى بروز تشكيلٍ من المعارضة ابتكر شعارًا بديلاً، لكنه بالمضمون نفسه: “رحيل الأسد أو نحرق البلد.” وانوجدتْ آلة إعلاميّة، غربيّة وعربيّة، ابتكرتْ “شكلاً” لهذا التشكيل، وعملتْ على توريمه إعلاميًّا، لينتهي إلى ابتلاع أغلب أشكال الحراك السوريّ. ولأنّ الجسم الأخلاقيّ للنظام “لبّيس،” فإنّ هذه الفضائيّات، والمعارضةَ الملحقةَ بها، لم تبذلْ جهدًا كبيرًا لابتكار أحداثٍ لم تحصلْ، أضيفت إلى رصيدِ النظام الإجراميِّ الحقيقيّ، لجرّه إلى مستنقع الوحل الممزوج بالدم. كان همُّ هذا الصنف، منذ الأيّام الأولى، استجداءَ التدخّل الخارجيّ بكلّ أشكاله. وتمَّ التعويلُ على العامل الخارجيِّ لحسم الأمور، من دون الإيمان بقدرة الشعب بعيدًا عن الأجندات الخارجيّة وموازينِ القوى الإقليميّة والعالميّة. وهذا ما أسفر عن القيام بخطواتٍ متسرّعةٍ وغير محسوبةِ النتائج، مع دخول البلد منعطفَ التسلّح منذ الأشهر الأولى، وتحديدًا منذ أحداث جسر الشغور (وهذا ما تنكره المعارضة!)، وبشعارٍ موازٍ لشعار النظام “إغلاق أو إحراق” (أي تنفيذ الإضراب العامّ بالقوة)، وصولًا إلى الشكل الأخير، وأعني “الجيش الحرّ،” الذي سيصبح مصدرًا جديدًا للعنف في سوريا! ومع التواطؤ على دخول جهاديّين من بلادٍ مختلفةٍ لإقامة دولةِ الخلافة “في بلد التنوّع” ـ من دون أن يلقى هذا أيَّ استنكارٍ من المعارضة اليساريّة إذ لم يصدر أيُّ بيانٍ منها يدين الدولَ التي تسهّل دخولهم – أصبح السوريُّ بين حريقين ورأيين: موالٍ يرى الحكاية كلَّها مؤامرةً وضربًا لدور سورية الممانع؛ ومعارضٍ يقوم بثورةٍ من أجل الحريّة والعدالة والكرامة. أما الأقليّات فلاذت بالصمت، تعزّزه تسمياتُ كتائب “الجيش الحرّ” المذهبيّة، لتسير الأمور نحو الاقتتال اليوميِّ الدامي.
سوريا اليوم في النار، فقط لأنَّ حمَلةَ السلاح لا يعرفون إذا كانوا يدافعون عن وطنٍ أم مزرعةٍ، ولا يعرفون الخصوم: أأخوة لهم أمْ أعداء! إنّ استمرار العنف الذي قد يأخذ البلد إلى حربٍ أهليّةٍ شاملةٍ تعمل عليها أطرافٌ عربيّة وإقليميّة عديدة ربّما، وانهيارَ المؤسّسات، وتدميرَ ما تبقّى من بنًى تحتيّةٍ في بلدٍ منكوبٍ اقتصاديًّا، كلّ هذا يستدعي دعم أيّ مبادرةٍ تلبّي حقوق السوريّين في الحريّة والحياة الكريمة واستقلالِ سورية من سطوة العائلات الخالدة… مع الأخذ في الاعتبار السيادة الوطنيّة، وضرورة الحفاظ على ما تبقّى من الدولة. وعلينا جميعًا، أولاد هذا البلد، أن نؤكّدَ حقَّنا في المواطنة. وعلى الفنان أو المثقّف العودة إلى ممارسة فعله الاجتماعيّ السياسيّ كسلطةٍ أخلاقيّةٍ نقديّةٍ تشدّد على مفهوم البناء والتطوّر، بعيدًا عن المسارات الخادعة التي تفرضها السياسة.
• إنانا بركات (كاتبة سوريّة)
طبّق النظامُ ومؤيّدوه شعار “الأسد أو نحرق البلد” تطبيقًا فعليًّا قبل كتابته على الجدران. ونفّذت المعارضةُ شعارَ “نحرق البلد ولا يبقى الأسد” من دون أن تكتبه على الجدران إلى الآن. ثمّة اتفاقٌ على أنّ مرحلة ما قبل الحراك كانت محكومةً بعلاقة اضطهادٍ وتسلّطٍ ولّدتْ إحساسًا بالعدوانيّة، اتّجهتْ أولًا نحو الذات (المواطن). وبقيتْ هذه الحالة في طور السكون، جرّاء نوعٍ من التماهي بشخص المتسلّط، كآليّةٍ دفاعيّةٍ لاشعوريّةٍ، رفضًا لحالة الضعف على المواجهة. وعندما اشتدَّ الضغط تسلّل هذا العنف بقوّةٍ من الداخل إلى الخارج، نحو شخص المتسلّط، وذلك عبر سلوكيّاتٍ تتحدّى القانونَ الذي لم ينصفه يومًا، وعبر بعض الشعارات الغاضبة التي جاءت ردَّ فعلٍ على ممارسات النظام. هنا بدأ النظامُ يُظهر شعاراته الضمنيّة القديمة إلى العلن لكي يثبتَ كلَّ يومٍ أنه جادٌّ بإحراق البلد من أجل البقاء. ومع تزايدِ القتل والتهجير، اتخذت فئاتٌ معارضةٌ قرارًا بمواجهة العنف بالعنف، مستخدمةً أدوات النظام نفسها.
بعد سنة وسبعة أشهر، لم يعد اصطفافُ الشعب السوريّ بين موالٍ ومعارض. فهناك فئةٌ ثالثةٌ، معارضةٌ للنظام ولكنّها ليست مواليةً للمعارضة التي تتبنّى العنف، وكان خيارها هو الحراك السلميّ منذ البداية. بيْد أنّ انشغال بعضهم بتصنيف الآخرين وتقييمهم أدّى إلى زيادة الانقسام بين فئات المجتمع. وهنا لا يمكننا إغفالُ بعض العوامل التي ساهمتْ في تأزيم المشهد:
أولاً: موقف قطر والسعودية ودعمهما الحركات الإسلاميّة والجهاديّة في المنطقة، ولاسيّما في سوريا.
ثانيًا: عدم موضوعيّة الإعلام في نقل الصورة واضحةً وكاملةً.
ثالثًا: مثابرة بعض أطراف المعارضة على تقويض الدور السلميِّ، وعلى دعم التسلّح وتبنّي الفكر المتطرّف. والأسوأ هو قيامها بحملات تخوينٍ؛ وهذا ما يدعى “بميتافيزيقيا الواحد،” وهي سياسة قائمة على الرأي الواحد، وتحاكي سياسةَ النظام، الذي يتحمّل تبعات كلِّ ما يحدث نتيجةً لعنفه واستبداده وتسلّطه.
هنا يكمن دور الأشخاص الأكثر قدرةً على فهم الواقع. ولا أعني بذلك المثقفين فقط، بل أعني أيضًا رجالَ الدين المتنوّرين وأصحابَ الوعي الوطنيّ من عامّة الشعب، وذلك برفض السكوت عن الخطإ وتجنّبِ الاصطفاف الأعمى. فلكي تستقيمَ الثورة فإنّها بحاجةٍ إلى “النخَب” صمامَ أمانٍ، ولاسيّما تلك التي ترى أنّ على الأمور في سوريا أن تذهب باتجاه الحلّ السياسيّ. لقد عرّف الإغريقُ السياسة بأنها “إخراج الحربِ من المدينة” ومن هنا يجبُ أن تكون صيرورة هذا الحراك سلميّة.
لا أحد يستطيع إيقافَ سيرورة الثورة. لكن يبدو أننا في حاجة إلى وقتٍ أطولَ لكي ينضج صانعو الثورة سياسيًّا. ولا بدّ من ضابطٍ أخلاقيٍّ يحمي الثورة التي كانت في بدايتها من أرقى الثورات. علينا أن نؤمن بأنَّ الثورة ستمرُّ بمراحلَ متعاقبةٍ، وأنّ الثورة الحقيقيّة ستبدأ بعد سقوط النظام، وإن كان بعضهم يرى أنّ هذا الحراك في خطرٍ وقد يُوؤَد بقرارٍ دوليٍّ، أو يُخطف بدعوةٍ إسلاميّة. كلُّ الاحتمالات مفتوحة، ومع ذلك لا بدَّ من أن ندرك أنّ كلّ ما حدث ليس إلا تمهيدًا لولادة ثورةٍ جديدةٍ يجب أن تكون أدواتها الفكرَ والفنَّ.
لقد أدرك المفكّرون والفنّانون والفلاسفة منذ العصر اليونانيّ إلى ما بعد الحداثة دورَ الفنِّ في إحداث الثورات. فلا بدَّ من مزاوجةٍ بين ثورة العقل وثورة الفنِّ لإنجاب واقعٍ أجمل.
• منير الشعراني (خطّاط سوريّ)
مضت الأحداث في اتجاهٍ أكّد للسوريّين أنهم وحدهم في مواجهة النظام الذي حكمهم بالحديد والنار عبر تحالفٍ بين فئةٍ تحكمها الروابطُ العائليّة والمصلحيّة من جهة، وفئاتٍ فاسدة ورجعيّة من جهة ثانية. وتوضّح أنّ كلّ الأطراف تتاجر بآلامهم ودمائهم ووطنهم في صراعها للحفاظ على مصالحها ـ يتساوى في ذلك أصدقاءُ النظام و”أصدقاءُ الشعب السوريّ،” والحلفان الشرقيُّ والغربيّ، واللاعبون الإقليميّون وأشياعهم.
تعلّق الشارع السوريُّ بقشّة “المجلس الوطنيّ” لكنه أغرقهم أكثر. وفشلتْ “هيئةُ التنسيق” في الملاءمة بين أفكار أحزابها ونبض الشارع. ولم ينجح “المنبرُ الوطنيُّ الديموقراطيّ” في لمِّ الشمل. فافتقرت الثورةُ إلى قيادةٍ قادرةٍ على التفاعل معها وتوجيه نضالاتها وتوحيدها على أرضيّة مطالبها المرحليّة الجامعة الملحّة، وهي الحريّة والكرامة والوحدة الوطنيّة. لكنْ، على الرغم من ذلك، واهِمٌ من يتصوّر أنّ الشعب السوريّ سيهدأ قبل إسقاط النظام، لأنه يعلم أنّ هدوءه يعني المزيدَ من الخراب والدماء. وواهمٌ من يتصوّر أنّه يستطيع ركوبَ موجة ثورته وحرْفها عن أهدافها الحقيقيّة، عبر مئاتٍ من المجنّدين إيديولوجيًّا وطائفيًّا وعنصريًّا والمرتبطين بأجنداتٍ بعيدةٍ عن طموحات السوريّين كافةً.
علينا أن نعي أنَّ ما يوصل الثورة إلى أهدافها هو ضبطُ السلاح، والعملُ على توحيد التشكيلات الوطنيّة تحت قيادةٍ واحدة، ونبذُ المجموعات المذهبيّة والمرتبطة خارجيًّا والتي تقوم بممارساتٍ تحاكي ممارسات النظام وتذكي نارَ الطائفيّة التي يعمل منذ البدايةِ على إشعالها. يضاف إلى ذلك العملُ على تصعيد الحراك المدنيّ: عبر التظاهر والاعتصام والإضراب، وصولًا إلى العصيان المدنيّ. وهذا يعني عودة المشاركة الفاعلة لجماهير الشعب السوريّ، وفرضَ إرادته ــ لا إرادة “المعارضة” المشرذمة القاصرة، ولا إرادة الكتائب العسكريّة المتنافرة الانتماءات والمصالح. وهذا كلّه يستدعي التأكيد على وحدةِ الهدف المركزيّ، وتحديد المهامّ الملحّة، وتأجيل الخلافات الجانبيّة، وتشكيل قيادة سياسيّة واعية تلبّي طموحات الناس، بعيدًا عن الاصطفافات الضيّقة، ويقع على عاتقها ترتيبُ البيت السوريّ، وصولًا إلى الأسس الكفيلة بإشراك كلِّ مكوّنات النسيج الوطنيّ وقواه الحيّة في صياغة الدولة المدنيّة الديموقراطيّة.
أما عن المثقّفون، فقد انخرطوا في الثورة منذ بدايتها. شاركوا في الاحتجاج والتظاهر. كما شاركوا بعطائهم الإبداعيّ، وقدّموا عددًا من الشهداء، واعتُقل وشُرِّدَ منهم الكثيرون. لكنّ عطاءهم في غالبيّته ظلَّ قاصرًا مشتّتًا، تلقي عليه الفوضى السياسيّةُ وتشرذمُ المعارضة بظلالها، وتحدُّ من انتشاره وفاعليّته الإمكاناتُ الماديّةُ المحدودة. هذا على الرغم من أنه كان ـ بحدّ ذاته ـ متنوّعًا ومبدعًا، وألقى الضوءَ على مواهبَ مقموعةٍ مغيّبةٍ، وبشّر بمستقبلٍ ثقافيٍّ غنيٍّ حرٍّ.
المثقفون مطالبون دومًا بأن يكونوا ضميرَ الشعب كلِّه ولسانه. لذلك نحن مطالبون بتأديةِ دورٍ يترفّع عن الصغائر، وينشئُ جسرًا إلى التوافق الوطنيِّ الذي يسمو فوق الخلافات، وصولاً إلى الحريّة والديموقراطيّةِ الحقّة، لا في السياسة وحدها بل في الثقافة والفكر والاعتقاد وكلِّ ما من شأنه إنقاذ الوطن وبناؤه من جديد.
• حازم السيّد (مهندس معلوماتيّة سوريّ)
ما يجري في سوريا هو انتفاضة شعبٍ ذاق ويلاتِ الاستبداد والفساد أربعين عامًا، وتعرّض لكلّ صنوف التهميش والاستلاب. الواقع المرّ يكمن في أنّ هذه الانتفاضة اندلعتْ في بيئةٍ بالغةِ التعقيد، وتمكّن الاستبدادُ من اللعب على تعقيداتها بما يضمن استمرارَه وتوسيعَ البيئة الحاضنة له، ومن خنق تعبيرات المجتمع المدنيّ كلّها. وقد أكّدت التعقيداتُ الطائفيّة والقوميّةُ والجيوسياسيّة التي اندلعتْ في ظلِّها الانتفاضةُ أنّ ما يحصل هو صراعٌ بين الاستبداد والبيئةِ التي مفصل النظامُ مصالحَها مع مصالحه، وأعاد ترتيب قيمها ومفاهيمها بما يخدمُ استمراره، من جهة؛ وبين شعبٍ أثبت أنه يمتلكُ الديناميكيّة والعمقَ الحضاريَّ الكافيَين للاستمرار في خوض هذا الصراع، من جهة ثانية. الانتفاضة السوريّة “حربٌ حقيقيّة” بين أهل النظام، وأهل الحريّة والكرامة. بهذا المعنى فقط يمكن القول إنّ ما يحصل في سوريا هو “حربٌ أهليّة.”
مسألة توقّع مستقبل سوريا مسألةٌ صعبةٌ جدًّا في ظلِّ كثرة المعطيات والمتغيّرات. وبالعموم فإنّ سوريا مفتوحةٌ لعددٍ من الاحتمالات. فمع استمرار غيابِ إرادة تدخّل الخارج، ستستمرُّ حالة الصراع بين النظام والمعارضة على كلِّ الجبهات: معارك لاحتلال الساحاتِ بين المتظاهرين والقوى الأمنيّة وقطعان “الشبّيحة،” ومعارك لاحتلال المواقع العسكريّة بين الجيش النظاميّ و”الجيش السوريِّ الحرّ،” ومعارك للسيطرة على اقتصاد سوريا بين النظام والخارج، وبين النظام والشرائح التجاريّةِ والصناعيّة. وهذه المعارك قد تستغرق شهورًا طويلةً، وستتسبّب بتكلفةٍ كبيرةٍ لسوريا على المستويات كلّها.
في حال تدخّلِ الخارج، فهناك شكلان من التدخّل متوقّعان: أ) حصارٌ شاملٌ يصل إلى حدود الحصار السياسيّ (انضمام روسيا والصين إلى “أصدقاء سورية” ونضوج الإرادة الأميركيّة) والتهديد بتدخّلٍ عسكريٍّ من قِبل مجلس الأمن، يتمُّ من خلاله بدءُ المفاوضات السياسيّة من أجل تحقيق انتقالٍ سلسٍ للسلطة؛ وهو السيناريو الأفضل لسوريا. ب) تدخل عسكريّ من دون الحصول على شرعيّةٍ دوليّةٍ كاملةٍ عبر الالتفاف على الأمم المتحدة، في حال تحوّل الصراع السوريّ إلى خطرٍ على الأمن القوميّ للمنطقة.
سوريا حاليًّا تشهد عمليّةَ مأسسةٍ شاملة. وللمثقف دورٌ كبيرٌ في التأسيس لهذه المأسسة. ومن أهمِّ ما يمكن أن يفعله هو الانخراطُ الإيجابيُّ في هذه العمليّة، وفي جهودها، كنشوءِ رابطة الكتاب واتّحاد الصحفيّين والنقابات الحقوقيّةِ والمؤسّسات الإغاثيّة. كما أنّ في مقدوره أن يسهمَ في نقد عمليّة التأسيس هذه. ويمكن اعتبارُ “المنبر الديموقراطيّ” الذي شكّله مثقفون سوريّون بارزون حاملاً أساسيًّا لهذه الفكرة، ويمكن لتفعيل فكرته هذه أن يسهمَ في خلق حوارٍ جدّيٍّ على مستوى سوريا. وبمقدور المثقفين أن يرصدوا الانتهاكات ويدينوها، وأن يحتفوا بالإبداع الشعبيِّ وبدراسته، وأن يطوّروا النشاطات الإعلاميّة التي تقوم بها “لجانُ التنسيق المحليّة” على سبيل المثال. ويمْكن مؤسّساتٍ كهذه أن تضيفَ إلى الانتفاضة السوريّة إضافةً نوعيّةً عبر تكثيف جهودها الإعلاميّة لاستلامِ زمام المبادرة في إعلام الانتفاضة، ونقله من إعلامٍ استهلكه خطابُ الفزعة إلى إعلامٍ وطنيٍّ جامع.
• رشا عمران (شاعرة سوريّة)
لا أستطيعُ النظر إلى ما يجري إلا باعتباره ثورةً. لا أوافق شخصيًّا على تسمية الحالة السوريّة الآن بـ”الأزمة” أو “الحرب الأهليّة” أو أيّة تسميةٍ أخرى. وقد أبدو متطرّفةً إذ أقول إنّ الثورة السوريّة قد تكون الوحيدة بين ثورات الربيع العربيِّ التي تستحقُّ أن تسمّى ثورةً، وذلك لاتّساعها أفقيًّا وعموديًّا، ولامتلاكها منذ أشهرٍ هيئاتها الخاصّة بها، العسكريّةَ والحقوقيّةَ والثقافيّة والفنيّة والماليّة والطبيّة والإعلاميّة، ولقدرتها على استقطابِ شرائحَ مختلفةٍ من السوريّين الذين لا يخافون من طرح اختلافاتهم في كلِّ التفاصيل المتعلّقة بالثورة وبآليّة هدفِها الأساس (إسقاط النظام ) وشكل الدولة القادمة ومستقبل سوريا .
ولعلّ طولَ العنف النظاميّ غير المسبوق، وتركيبة المجتمع السوريّ، وموقع سوريا الجيوسياسيّ، وصمود ثوارها الاستثنائيّ، وعجز المجتمع الدوليّ أو رفضه المساهمة في إسقاطِ النظام، كلّ ذلك ساعد في تحويل الثورة إلى حدثٍ يوميٍّ عالميّ. على أنّ كلّ ذلك أيضًا ساهم في انقسام المجتمع السوريّ، وظهور أمراض الشخصيّة السوريّة التي عانت أكثر من خمسين عامًا من الاستبداد السياسيِّ وما يلحقه (من دينيٍّ وثقافيٍّ واجتماعيٍّ واقتصاديٍّ)، الأمر الذي سيجعل من مرحلةِ ما بعد السقوط المرحلةُ الأكثر خطورةً وحرجًا في التاريخ السوريّ. ومع انتشار السلاح بين أيدي السوريّين، من ثوّارٍ و”جيشٍ حرٍّ” وكتائبَ مختلفةٍ (منها المتطرّف ومنها أيضًا مجرّد قاطعي طرقٍ ومجرمين) ومن “شبّيحة” وموالين للنظام ومن باقي أفراد الجيش النظاميّ الذين لم ينشقّوا، ومع تدمير البنيةِ التحتيّة لكثيرٍ من المدن والمناطق السوريّة، ومع العجز الاقتصاديِّ الكبير الذي وقعتْ به سوريا، ومع وجودِ آلاف الأسر المنكوبةِ وآلاف المعوّقين والأطفال المشرّدين الذين فتكتْ بهم آلة التدمير الأكثر عنفًا في تاريخ الأنظمة الديكتاتوريّة في العالم؛ مع كلِّ هذا، علينا أن نتوقّعَ دخول سوريا في نفقٍ مظلمٍ قد لا تخرج منه بزمنٍ قريب. فعبارة “الأسد أو نحرق البلد” تمَّ تطبيقُها حرفيًّا بعد أن فشل الأسدُ ونظامُه في قمع ثورةٍ شعبيّةٍ راهن الكثيرون على فشلها؛ لكنْ كان لشبابِ سوريا وثوّارها رأيٌ آخرُ وتصميمٌ كاملٌ على إكمال الطريق حتى نهايته مهما كانت التضحياتُ والثمن.
تتطلّب مرحلةُ “اليوم الثاني” جهدَ جميع السوريّين لإعادة بناءِ سوريا، وبناء مجتمعها، وبناء الشخصيّة، وبناء الهويّة السوريّة التي استطاع إجرامُ النظام وردود الفعل عليه تدميرَها وتفتيتَها إلى مجموعةٍ من الهويّات الضيّقة والمتناحرة، كما تبدو الآن في لحظةِ العنف القصوى. تتطلّب المرحلة أيضًا عودةَ الجميع إلى سوريا، سياسيّين ومثقفين وكوادرَ علميّةً واقتصاديّةً وفنيّةً. فلسوء حظِّ السوريّين أن فاتورةَ حريّتهم وكرامتهم كانت باهظةً جدًا : تغييب عددٍ هائلٍ من خيرة شباب سوريا بالموتِ أو الإعاقة؛ خرابٌ نفسيٌّ عامٌّ؛ خرابٌ أخلاقيٌّ لدى فئةٍ من السوريّين. فاتورةٌ باهظةٌ علينا أن نعمل على درءِ كوارثها اللاحقة بعهدٍ وطنيٍّ جامعٍ، وبمصالحةٍ وطنيّةٍ تبدأ بالمكاشفة والمصارحة بما حدث منذ خمسين عامًا إلى الآن، وبمحاسبة كلِّ من تورّط بالدم السوريِّ، سواء بالقتل المباشر أو بإعطاءِ الأوامر بالقتل والقصفِ والتدمير.
• عبدالله فاضل (معتقل سياسي سابق، إجازة في الاقتصاد، ماجستير في الترجمة)
النظام السوريّ أمّن للشعب السوريّ كلَّ أسباب الثورة عليه. فالثورة سوريّةٌ بامتياز جاءت أصلاً ردًّا على واقعٍ سوريٍّ، ولم يكن دورُ العامل الخارجيّ فيها أكثرَ من دور الزناد الذي أطلق شرارةَ اندلاع حركةِ الاحتجاجات العربيّة.
العامل الأول في هذه المسألة هو الفسادُ الذي استشرى ونخر كاملَ أركان الدولة. فقد ولّدتْ منظومةُ الفساد المستشرية فرزًا اجتماعيًّا هائلًا: بين طغمةٍ اغتنت وتحكّمت في كلِّ خيرات البلد، وكتلةٍ كبيرةٍ لاهثةٍ وراء لقمة العيش وأسبابِ الحياة الكريمة. ولكي تُرسِّخَ هذه الطغمةُ مصالحها ووجودها، عملتْ على مستويين: نشر أخلاق الفساد ومنطقه بحيث يبدو وكأنّ هذا هو “الوضع الطبيعيّ”؛ وتعزيز الأجهزة الأمنيّة وجعل قادتها جزءًا من الطغمة ومنظومةِ الفساد. ولم يبقَ الدور الأمنيُّ والقمعيُّ حكرًا على أجهزة الأمن العاديّة، بل أصبح حزبُ البعث ومنظّماته الشعبيّة ونقاباته تؤدّي دورًا مهمًّا في القمع، لا من خلال التقارير المخابراتيّة التي يكتبها أعضاؤها وحسب، بل عبر الاشتراك المباشرِ في عمليّاتِ القمع والاعتقال أيضًا؛ إذ لم يكن مصادفةً أنّ أعضاءَ اتحاد الطلبة قد شاركوا فعليًّا في الاعتداء الهمجيّ على العديد من الاعتصامات والاحتجاجات التي حدثتْ قبل 15/3/2011، ناهيك بما حدث بعد ذلك التاريخ. وبعد أن أصبحت منظومةُ الفساد سيّدةَ الموقف، فُتح البابُ واسعًا أمام هدر الأموال والطاقات، لا في عمليّاتِ نهب المال العامِّ فقط، بل في مشاريعَ فاشلةٍ وغير منتجةٍ كذلك. وترافق كلُّ ذلك مع التدمير المنهجيِّ للنشاط السياسيّ والمدنيّ، بحيث لم يعد هناك صوتٌ سوى صوت النظام وأتباعه؛ وأمّا الأصوات المعارضة فظلّت مخنوقةً وضعيفةً رغم كلِّ المحاولات الجريئة والجديّة التي جرت لتفعيل الحياة السياسيّة والخروج من حالةِ التصحّر التي أوصلتنا إليها أربعون سنةً من القمع.
بحكم موقع سوريا الجغرافيّ وتداخلاتها الإقليميّة وتركيبتها الاجتماعيّة، كان من الطبيعيّ أن تواجهَ الثورةُ السوريّة تعقيداتٍ لم ولن تواجهها أيٌّ من الثورات العربيّة الأخرى: تعقيد التركيبة الطائفيّة والإثنيّة، وتعقيد التداخل الإقليميّ في لبنان وفلسطين وتركيا والعراق وإيران، وتعقيد الصراع العربيِّ ـ الإسرائيليِّ، ودور سوريا المحوريّ فيه. أضيف إلى كلِّ ذلك تعقيد الصراع الدوليِّ الذي تجلّى في إصرار روسيا على موقفها الداعم للنظامِ، ربّما محاولة منها للدخول مرّةً أخرى قطبًا دوليًّا كبيرًا من البوّابة السوريّة.
من الواضح أنّ الخيار الأمنيّ العسكريّ الباهظ الثمن الذي اختاره النظام هو خيارٌ إستراتيجيٌّ لن يتراجع عنه. ومن الواضح أيضًا أنّ الخيار الذي اختاره الشارعُ الثائر في إسقاط النظام هو خيارٌ إستراتيجيٌّ لن يتراجع عنه. أمام كلِّ هذه التعقيدات وعجز المجتمع الدوليِّ عن أخذ موقفٍ حاسمٍ ضدَّ النظام، أو معه، أرجّح أن يستمرَّ الوضع على ما هو عليه، ولأجلٍ غير مسمّى، ما لم يحدث تغيّرٌ دراماتيكيٌّ نوعيٌّ في المعادلة لا يمكن التكهّنُ به حاليًّا. وهذا سيعني ضعف النظام، ولكنْ ليس إلى درجة السقوط على يد المعارضةِ المدنيّة والمسلّحة معًا. وسيعني أيضًا قوّة “الجيش الحرّ،” ولكنْ ليس إلى درجةِ القدرة على إسقاطِ النظام. وسيعني أخيرًا ظهورَ لاعبين محليّين صغار يعمل كلٌّ منهم وفق أجندته الخاصّة: الشبيحة وأشباههم، ومجموعات مسلّحة على أساسٍ طائفيٍّ أو عائليٍّ أو مناطقيّ.
اختصار ستبقى سورية مسرحًا لصراعِ قوًى عظمى، وصراع قوًى إقليميّةٍ، إضافةً إلى أشكال الصراع الداخليّ، وسيستمرُّ الجرح السوريُّ نازفًا إلى حين.
مجلة الآداب- عدد صيف 2012
دمشق