سوريا: ثورة تاريخية أم أزمة سياسوية قيْدَ الحل!/ مطاع صفدي
قد تكون الثورة في سوريا وصلت إلى حواجز الاستعصاء العسكري، غير أن (أزمة) سوريا، بأطرافها الإقليمية والدولية، قد وصلت هي أيضاً إلى حاجز الاستعصاء السياسي، بمعنى أن كلاً من الثــورة والأزمة معاً أصبحتا بدون حلول؛ وما يتبقّى هو استمرار هدْرُ الدم البريء لشعب البلد المنكوب.
وإذا أراد أحدنا أن يبحث عن العلّة في كل هذا سوف تنازعه مختلف التصورات المتضاربة. لكن التعليل الطاغي وحده لن تخطئه العين الصافية أبداً. فالاستعصاءان العسكري والسياسي معاً، ليس أحدهما سبباً للآخر، دون أن يكون الآخر سبباً كذلك للأول، بما يعني أيضاً أن المشكلة ليست في تشابك وتفاعل شبكيات الأسباب والنتائج ما بين حالتيْ الاستعصاءين هذين وحدهما، وبمعزل عن البشر وقواهم الفاعلة، والمنخرطين هم ودولهم ومنظماتهم في إنتاج الوقائع والتنافس الضاري فيما بينهم حول تصنيفها في خانة الهزائم ضد بعضهم، أو في خانة الانتصارات التي يعزونها لأنفسهم دون غيرهم.
ليس الفرقاء المتقاتلون في الميادين وحدهم المأخوذين بأساطير الانتصارات والهزائم، فقد شاركهم أقطاب المجتمع الدولي في تأليف وإخراج وتمثيل أدوارها الدرامية والكوميدية، بل ينبغي التصريح بالفم الملآن أن كبار هؤلاء الأقطاب هم الذين يتحملون أقصى المسؤولية التاريخية والأخلاقية عن حصادها الأخير البائس. وفي تحديد أدق، ربما يقع الغُرْم الأخطر من هذه المسؤولية على عاتق كبير هؤلاء الذي (كان) يُسمّى بالعملاق الأمريكي، فهل من صدف الأقدار الخبيثة، أن هذا العملاق قد اختار لحظة تقزيم عَمْلَقته ذاتياً ودولياً، عبر التراجيديا السورية، هل كان عباقرة الإمبريالية الأمريكية بانتظار مناسبة الحدث العالمي الاستثنائي، من مثل عدوان حاكم على شعبه بالسلاح الكيماوي، وتسميم ألف طفل وامرأة ورجل نائمين في بيوتهم القروية. هل كان جهابذة البيت الأبيض في واشنطن في حاجة إلى مثل هذا المنبر في الوحشية المطلقة من أجل تسويغ استراتيجية رئيسهم الأسمر، حين يُعلن عن أهم تغيير تُضطر إليه إمبريالية العصر للتنازل عن إمبراطوريتها الكونية، مكررةً بذلك استقالة الاتحاد السوفييتي من ذاته، قبل ربع قرن، كأنما كان على الإمبريالية الأمريكية الهرمة أن تتخذ من هذه الذروة الفريدة في تاريخ الوحشية السلطوية، ذريعةً للتذكير بهيبتها كحارسة للأمن العالمي عبر تهديدها بما يشبه الضربة القاضية ضد الحاكم المسمّم لأطفال شعبه، لكنها في الآن عينه تُقدم الإمبريالية على سحبها، مكتفيةً بتجريد المجرم الكيماوي من بعض أدواته القاتلة مع الإبقاء عليه عنصراً رئيسياً في ديمومة المقتلة العامة للبلد المنكوب..
هذا التحول الاستراتيجي الكبير للأمبريالية الأمريكية غير المسبوق في مسيرتها المعاصرة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، هل كان له ألا يحدث لولا اقترانه بالكارثة الكيماوية في سوريا؛ لو لم يُتَحْ للرئيس (أوباما) أن يمثل دور الإمبراطور العالمي، القادر على تأديب أشرار معمورته ليس بوسيلة الحرب هذه المرة ولكن باقتراح سيناريوهات الدهاء الدبلوماسي. فالشرير المحلي، وخلفَه مرجعياته الإقليمية الرئيسية، لن يمارس، مع كل هؤلاء أهواءه الدموية خارجاً عن مظلة كونية سوف يظلّ يرعاها سادة السياسة الدولية، من التابعين هم أنفسهم أو الموالين لأولوية كبيرهم المحتل لعرش (البيت الأبيض). فالتنازل الأمريكي عن إمبراطورية العنف العسكري مرحلياً لا يتطلّب التخلي عن مرتبة الأولوية في كل شأن دولي رئيسي.
اذا كانت أمريكا استطاعت أن تجنّب سياسَتَها خطرَ الإنزلاقات المتوالية إلى أتون المقتلة السورية، لكنها تركت هذه المقتلة تواصل فصولها العبثية الدامية، ربما لكي لا تصطدم بحارستها المفضلة: إيران؛ هكذا استطاعت أمريكا بعدها أن (تقنع) إيران بالشروع في تدجين ثورتها، وإعادة تأهيل دولتها كعضو مأمون الجانب في المجتمع الدولي.أمريكا، إذن، تنتزع خزان الكيماوي من أوكار الذئب الدمشقي، ومن ثم تضع الجاهزية الثورية لإيران تحت رقابة مشروعية الأمم المتحدة، وفوق هذا وذاك فإنها تنقل الدب الروسي العنيد من صقيعه النائي لتجعله حيواناً أليفاً يعبث في مياه بركة صغيرة من حديقة حيوان عامة يرتادها أطفال المدن المتحضرة. اذا كان الانقلاب الأمريكي يتقدم على درب تحويل الأعداء المزمنين إلى أشباه شركاء منافسين، إلا أنه يكاد يقف عاجزاً أمام ألغاز الأزمة السورية والتباساتها المستفحلة مع الثورة الميّتمة من بعض أهلها ومن كل أصدقائها. ما يفعله الانقلاب الدبلوماسي الأمريكي عن قصد، أو عن جهل، هو التضحية كلياً بالثورة التاريخية، والاشتغال عليها بوصفها مجرد أزمة سياسوية فقط.
إنه سوء الفهم، أو تعمّدُه، هو الذي يكاثر ويضاعف من العثرات الكأداء المتوالية من بعضها على الطريق إلى مؤتمر جنيف (2)، وعلى كل طريق آخر لا يعترف أصلاً أن لشعب سوريا قضية حاكمة ومتحكمة قبلَ. وما فوق كلٍ من الثورة والأزمة. أما ما تخترعه عقلية الافتراضات الدبلوماسية فكل همها هو التحايل على منطق القضية، أن تكذب في وجهها، أن تدّعي إلغاءها وهي حاضرة ملء حواس أصحابها وأعدائها أيضاً. فلقد أريد لثورة سوريا أن تتحول إلى أحدث لعبة أمم متكالبة على حقائقها ووقائعها، جرى تزويرُها بكل نقائضها، من أيديولوجية وسلوكية، ومع ذلك تحصّنت الثورة بمتاريسها الأصلية من صدور شبابها المؤمنين بصدقيتها العضوية، والواثقين بانتصارها المحتوم.
لن نبالغ إن قلنا أنه أصبح للثورة ديمومتها الخاصة التي ربما يمكنها أن تتجاوز أصعب الأفخاخ المتصوبة لهويتها، والمزروعة على طول طرق ممارستها الميدانية والتنظيمية. فقد تتساقط منها هوامش كثيرة، وربما تُصاب أحياناً بتصدّعات أعمق في بنيانها البشري؛ حتى يمكن التصور كذلك أن الثورة قد تفقد الكثير من أسماء القوى التي كادت أن تحتكر فعاليتها، لكنها لن تخسر دوافعها الأصلية المترسّخة في الواقع المعيشي لغالبية شعبها. ليس هذا من باب الآمال الجماهيرية الرومانسية.
هنالك سلسلة من تجارب الوجود واللاوجود التي اجتازتها الثورة طيلة ماضيها الأقرب والأبعد. ذلك أنه، من المعروف أن الثورة الحية هي المالكة دائماً لأسباب تجددها، وإلا فإنها قد تتهاوى بعد اصطدامها بعقباتها الأولى، وخاصة عندما تُقطع عنها مواردُها الدفاعية وهي منتشرة في ميادنها المفتوحة. فالغرب الذي شجع الثورة في البداية، على التورط العسكري مالبث أن تخلَّى عن (حربها) بغتةً، صار داعيةَ سلامٍ مشبوه مقدماً بغاياته المكشوفة. تلجأ دبلوماسيته إلى ثقافة المؤتمرات لكي تجمع أعداء الأمس، لعلّهم يصبحوا شركاء بعصا سحرية من دبلوماسية الأقوال المؤجِّلة للأفعال دائماً.
الغرب المتصالح مع خصمه الروسي آنياً ينصبان معاً خيمة مؤتمر جنيف (2). يدعوان الفرقاء كأعداء للتلاقي والحوار. والداعون هؤلاء يعلمون قبل سواهم أن الأمور ما بعد هذا المؤتمر لن تكون أفضل مما كانت عليه قبله، إن لم تتطور إلى ماهو أسوأ. أما المدعوون المتخاصمون فهم يجمعهم توصيفُ واحد، وهو أنهم كارهون ومكرهون، فالفريقان الرئيسيان، النظام والثورة، عازمان منذ البداية على إلغاء بعضهما.
وسوف يبقيان هكذا بعد كل مؤتمر أو لقاء مصطنع. لدى كل منهما من الأسباب والدواعي المضادة تماماً لبعضهما، وبما يكفي لجعل أية قواسم مشتركة أشبه بمن يرفع أشرعة من الورق لسفينة تتقاذفها عاصفة أمواج هوجاء من كل ناحية.
يبقى السؤال المركزي الذي يتحاشاه صُنّاع المؤتمرات الافتراضية: هل حقاً يريد أسياد المجتمع الدولي الانتهاء مما صنعته عبقريتهم الدبلوماسية في سوريا عبر سنوات ثلاث عجفاء رهيبة. هل يسعون فعلاً إلى إطفاء الثورة أولاً قبل شطب النظام الأسدي. أو أنهم يريدون الإبقاء على صيغة الضحايا وجلاديها معاً، وفي بوتقة واحدة، ولكن خاضعة لإدارة مهندسيها مما وراء البحار.
مايعرفه شباب الثورة في هذه اللحظة المهووسة بثقافة المؤتمرات في طبعتها الافتراضية الأحدث والأخبث، هو أنه ليس من ثورة حقيقية في التاريخ تقبل بهزيمة سوف تُفرض عليها من خارج ميادينها. وإذا كان لا بد من مؤتمر في خاتمة كل صراع، فذلك من أجل توقيع وثيقة الاستسلام فحسب.
ولن تكون ثورة سوريا هي صاحبة هذا التوقيع أبداً..
‘ مفكر عربي مقيم في باريس
القدس العربي