سورية.. جيش الاحتلال يحارب أحد جيوش الاحتلال/ دلال البزري
في سماء سورية، العاشر من شهر فبراير/ شباط الجاري، اشتبك الإيرانيون والإسرائيليون: طائرة “درون”، من دون طيار، إيرانية، تتسلّل إلى الداخل “الإسرائيلي”، يسقطها الإسرائيليون ويشنّون ضربات جوية ردّاً عليها. تسقط طائرة إسرائيلية من بين المعتديات. يصرّ نظام الأسد على أنه هو بطل هذا الإسقاط (كأننا لا نعرف أن الأسد والإيرانيين سلّة واحدة). فتعود الأزمات إياها التي لم نلْحق أن ننساها، وكانت آخر إطلالاتها بمناسبة “الانتصار” الصاخب الذي حقّقه محور الممانعة “ضد الإرهاب”، في الصيف الفائت. لازمات التفاخر والتكابر انهالت على ألسنة قادة الممانعة وإعلامييها من نوع: إن إسقاط الطائرة الإسرائيلية “غيّر قواعد اللعبة”، أو “إن ما قبلها ليس كما ما بعدها”، وإنها “مرحلة تأسيسية لمعادلات جديدة استراتيجية”، “سابقة في الصراع العربي الإسرائيلي”.. إلى ما هنالك من حواضر البيت الممانع، تخرج إلينا كلما سجّل هذا المحور ما يعتبره دائما وأبدا “انتصاراً”، فوق انتصارات سابقة، أُتخمت بها بلادنا، وابتلي بشرنا ببركتها، من تشريد وموت ودمار. بريق اللازمات الجاهزة كان قوياً، بقصدٍ ربما؛ هو حجبَ الردّ الإسرائيلي الجوي الثاني، بعيد إسقاط الطائرة الإسرائيلية، والذي تجاوز الدزينة من الغارات الجوية، وغطّى نقاطا عسكرية وثكنات في العمق السوري، في دمشق وريفها، فضلاً عن درعا وتدمر؛ حيث تتداخل القوات السورية النظامية مع المليشيات الإيرانية وقادتهما من المستشارين الإيرانيين. بعضها أصاب والآخر أخفقَ. لكن جميعها مرّ مرور الكرام، وبسلام… أمام وهج “الانتصار” الجديد الذي تحقّق بإسقاط طائرة إسرائيلية واحدة.
والحال أن واقعة إسقاط الطائرة الإسرائيلية بعد التحرّش الإيراني تُعدّ من أغرب وقائع هذا
“الروس هم الأقوى على الأرض والجو السوريَين. هم “أصحاب اللعبة”، أصحاب الوساطة”
الزمن: الإسرائيليون يحتلون هضبة الجولان منذ حرب 1967، ولم يتمكّن نظام الأسد من استعادتها طوال نصف القرن الذي حكمَ فيه سورية، لا بالمفاوضات السرية ولا بالحرب العلنية. فقط تلاعبَ بالهضبة وبعمقها الفلسطيني، استخدمهما مطيّة لمدّ نفوذه إلى حوله من بلدان، وغرضه واحد: تأبيد حكمه. الإسرائيليون هم الأعداء التقليديون الذين نعرفهم، منذ نيلنا استقلالاتنا عن الاستعمار الأوروبي. أما الإيرانيون، فإن احتلالهم سورية تم بالتغلْغل، بالتسلّل، بالتحالف أولاً مع النظام السوري، ثم تدريجياً بإلحاقه، بإدخال صواريخهم، ومستشاريهم ومليشياتهم إلى الداخل السوري، وبالدأب على تجذير وجودهم عبر التطهير الديمغرافي، وقتل السوريين حيثما يُستباحون؛ بحيث إنهم، أي الإيرانيين، أصبحوا جيش احتلال جديد، عدوا جديدا للشعب السوري، كانت ذريعته الأخيرة بالقتل هي “محاربة الإرهاب”؛ وبعد “انتصاره” عليه أخرجَ أرنبه، أي محاربة إسرائيل؛ فتشامخ الممانعون المزمنون.. وكانت المفارقة العبثية: جيش احتلال جديد يتحرّش بجيش احتلال قديم، إسرائيلي، و”ينتصر” عليه، طبعاً، بنشوة عارمة. ثم، بفضل هذه النشوة، يتعامى عن الردّ الإسرائيلي على الردّ، في عمق الأرض السورية، يسخِّفه؛ وفي كل الأحوال لا يرى في ضرب هذا العمق أي معنىً، أو خسارةً، إذ إن الأرض ليست أرض إيران، ولا التكاليف تكلفتها، اللهم ذخيرتها وصواريخها وعتادها، وبعض “الشهداء” من مستشاريها. كانت المهمة إسقاط طائرة واحدة، للحضور على المسرح الإقليمي، فأُنجزت…
هكذا قدمت إيران أوراق اعتماد إضافية على خشبة هذا المسرح: من أنها واحدة من القوى الأساسية القادرة على إحداث ديناميكية حربية لا يُستهان بها، بعدما ثبّتت دعائمها في سورية، وروّجت فكرة “انتصارها” السوري. على هذه الأنقاض، أضافت إلى الجحيم السوري عقدة جديدة، تزيد من التباساته وشقاوته.
الجبهة التي فتحتها إيران على إسرائيل من الأراضي السورية ليست يتيمة، ولا هي حرّة طليقة، سيدة نفسها، كما يحب الممانعون أن يتخيّلوها. ثمة جيوش احتلال أخرى في سورية، بل ثمّة هرمية محدّدة بين هذه الجيوش. الروس على رأسهم، وهم الأقوى على الأرض والجو السوريَين. هم “أصحاب اللعبة”، أصحاب الوساطة، والقدرة على “التكلم مع الجميع”. قاعدتا حميميم وطرطوس، هما أوضح تجليات هذا الاحتلال. تنطلق منهما الطائرات لتقتل السوريين، بمعية “محاربة الإرهاب”. الأميركيون، بتعذّر قراءاتهم، أو بتشوّشهم، أو بانكفائهم، يساعدون الروس على البروز، بصفتهم أصحاب وعد وحزم. هم أيضا لهم ثكنات في سورية، في الرميلات وفي التنف. ناهيك عن الأتراك وعملية “غصن الزيتون” التي سمحت لقواتهم بالتوغل نحو الشمال الغربي السوري، وعن المجموعات “الجهادية” وداعميها السرّيين المكشوفين.
أما الأسئلة التي تثيرها معركة المحتل الإيراني مع المحتل الإسرائيلي، فهي عن رأي المحتل
“الجبهة التي فتحتها إيران على إسرائيل من الأراضي السورية ليست يتيمة، ولا هي حرّة طليقة”
الأعلى، الروسي: هل أنذر الإيرانيون الروس بها؟ هل يهدفون بها إلى تعظيم حصتهم بعد “انتصارهم” على الإرهاب؟ هل يقلّلون بها من الفشل السياسي للروس في سوتشي؟ أم يستفيدون منه؟ أم يصعبون على الروس قيادتهم الاحتلالات؟ هل بلغت المساعي الإسرائيلية مع الروس لتمكينهم من العمق السوري حدّها الأقصى؟ هل الروس يتركون الإيرانيين هكذا يتورَّطون مع الإسرائيليين؟ لينقصوا من حصتهم، أو يزيدوها؟ والسؤال الأصعب: كيف “يتفاهم”، أو “ينسّق” الروس مع الأميركيين، شركائهم الأكبر من بين القوى المحتلة لسورية، بشأن لعبة أوراق الاعتماد الإيرانية؟
السوريون وحدهم لا أسئلة تدور حولهم. فقط “رئيسهم” بشار يستطيع ادعاء التورّط علناً مع بعض هذه الاحتلالات. يرحّب بالروسي والإيراني بصفتهما “الرسمية الشرعية”، ويقول عن الجيوش الأخرى إنها “تنْتهك السيادة الوطنية”. السوريون، وهم المعنيون المباشرون بالاحتلالات كلها، عليهم أن يحلّوا تلك المعادلة فائقة التعقيد، الناجمة عن تصارع هذه الجيوش على أرضهم. وآخر حلقات هذه المعادلة هي تلك الواقعة في العاشر من الشهر الجاري. معادلتها شاقّة، ترهق كل الرياضيات، وقوامها أن “عدوا للشعب السوري يحارب عدوا آخر للشعب السوري” (وهذه عبارة منقولة، صاحبها الأصلي أحد السوريين المجهولين).
العربي الجديد