سورية: لا إصلاح من دون القطع مع منطق العصابة
عبدالباسط سيدا
من الملاحظ أن مسألة الإصلاح باتت هي القاسم المشترك بين ما يعلنه النظام السوري، وما يطالبه به المجتمع الدولي. ولكن يبدو أن كل طرف يتحدث عن شيء مغاير مناقض للآخر على الرغم من اشتراكهما في التسمية؛ وهذا معناه أن العلاقة ما بين الدال والمدلول تعاني من خلل ما، يستغله النظام من جانبه، آملاً أن يتمكّن من تمرير أحابليه كما كان يفعل دائماً. فالإصلاح السلطوي الذي بشرنا به الرئيس في خطابه الثالث، إنما هو في حقيقته إصلاح ترقيعي إيهامي، يريد به صاحبه – بناء على توجيهات زمرة القرار اللامرئية في سورية- إجراء بعض التعديلات ضمن النظام نفسه، مع الإبقاء على الجانب الأمني القمعي الذي يمثل أساس الداء كما هو؛ ليتمكّن من إفراغ أي إصلاح من مضمونه، ويوجه الأمور في الاتجاه الذي ينسجم مع مصالحه، ولكن تحت غطاء شعارات برّاقة خادعة.
أما الإصلاح المطلوب من جانب المجتمع الدولي في سياق مساندته لثورة الشعب السوري، فهو الإصلاح الجاد الذي ينبغي أن يُتوّج بانتخابات ديمقراطية، وبإشراف دولي محايد؛ حتى يتمكن الشعب السوري من تحديد مصيره بنفسه، بعيداً عن آلة النظام القمعية التي تفتك يوميا بالسوريين في مختلف المدن والبلدات. غير أن الذي يُؤخذ على الموقف الدولي هو أنه يعطي – من دون جدوى- الفرصة تلو الأخرى لهذا النظام علّه يُقدْم على إصلاح جاد، الأمر الذي يستغله النظام من جانبه، فيستمر في حملة القمع بكل جوانبها ضد المواطنين السوريين المتظاهرين في سائر أنحاء البلاد.
وفيما يتصل بشعبنا، فإنه قد خبر هذا النظام عن قرب على مختلف المستويات والصعد خلال عقود طويلة هي عمر النظام القائم حاليا في سورية. فقد عانى السوريون كثيراً بكل مكوّناتهم من استبداد النظام المعني وسياساته الإفسادية. وهم انطلاقا من خبرتهم ومعرفتهم بتركيبة هذا النظام وماهيته، يدركون أن مطالبة هذا النظام بالإصلاح إنما هو بمثابة لغو فارغ، أو ضرب من الخيال السرابي الذي لا يتقاطع مع الواقع بشيء. فالإصلاح الجدي مؤداه القطع مع منطق العصابة الذي تُدار به البلاد راهناً؛ ومن علائم هذا المنطق احتكار الثروة والسلطة والإعلام والسلاح بأيدي المجموعة ذاتها، ومعها بطانة من المنتفعين، وأذرع أمنية- قمعية، تطبق على المجتمع السوري إطباق الإخطبوط على الفريسة. منطق لا يحترم الكرامات والمقدسات؛ لا يكترث بعذابات الناس وصرخاتهم؛ منطق يعتقد أصحابه أن البلد ملكهم الخاص، وأهله هم مجرد أقنان أو عبيد، لا يحق لهم التطاول على سلطة السيد المؤله الذي ورث الجمهورية القمعية، جمهورية الخوف والذعر – التي يتفاخرون بها- عن أبيه، وسط تواطؤ شمولي، دولي وإقليمي وعربي، ألزم السوري بالصمت المعبر.
إن ما يجري راهناً في سورية إنما هو في جوهر مواجهة مفتوحة أعلن عنها الرئيس في خطابه الأول أمام مجلس الشعب، مواجهة بين السلطة والشعب، سلطة من المفروض أنها تستمد مشروعيتها من الشعب، مقابل تعهدها بحمايته وتأمين حقوقه؛ لكنها في واقع الأمر سلطة متسلطة، متحكمة في رقاب السوريين بقوة الحديد والنار، وذلك منذ ما يزيد على الأربعين عاماً.
وفي خضم هذا الصراع يغدو كل حديث عن الثقة بين السلطة والشعب صيغة من المجاملة الكاذبة، فالثقة باتت معدومة بني الطرفين. الشعب متيقن من أن كل ما يُطرخ عليه إنما هو من أجل التعمية والتضليل والإسكات؛ أما السلطة فهي من طرفها تعتبر الشعب السوري بأكمله، بكل مكوناته مجرد مندسين متآمرين،ينبغي قمعهم وردعهم، وإجبارهم على الرضوخ، والقبول مجدداً بالذل والاستغلال. وفي المقابل، يدرك شعبنا بحسه السليم زيف إدعاءات السلطة وشعاراتها الجوفاء، وهو متيقن عبر الممارسة اليومية أن سلطته هي مجرد غول ساد ي لا يرتوي ولا يشبع. يقتل ، وينهب، ويهدد بالمزيد من الخراب والتدمير..
ومع دخول ثورة الكرامة السورية بمزيد من الإصرار والثبات شهرها الرابع، برزت جملة مؤشرات تؤكد أن موقع السلطة بات مهزوزاً أكثر من أي وقت مضى، فالأزمة الاقتصادية العميقة المتفاعلة التي يعاني منها البلد، باتت كابوساً يرعب زمرة القرار في سورية؛ وذلك لإدراكها أن حلفاءها من البرجوازيين سرعان ما سيغادرون مركبها، كونه في طريقه نحو الغرق. فعدم الاستقرار في البلد، واضطراب العلاقات مع المحيط الإقليمي، إلى جانب توتر العلاقات مع الخارج الأوربي تحديداً، كلها معطيات كافية لأن يفكر أصحاب المصالح الاقتصادية بضرورة فك الارتباط مع السلطة التي لم تعد قادرة – كما كانت فيما مضى- على منح امتيازات خاصة، مقابل حصة لا بد منها لمدبري الصفقات.
أما المؤشر الآخر، فهو يتمثل في الموقف الأوربي الضاغط الذي لم يعد في مقدوره غض النظر عن جرائم النظام السوري بحق المتظاهرين العزل، المطالبين بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية. ومن الملاحظ أن الموقف الأوربي هذا هو حصيلة ضغط الرأي العام الأوربي المتفاعل مع حركة الاحتجاجات العامة التي تقوم بها الجاليات السورية بكل مكوناتها ضد قمع النظام من جهة، والرؤية والمصالح الأوربية الرسمية من جهة ثانية. وما يستشف من المعطيات المتوفرة حالياً هو أن الموقف الأوربي سيتمكن قريباً من التأثير في الموقف الروسي، ومن ثم الصيني، الأمر الذي سيؤدي من جهته إلى تشديد الخناق الدولي حول النظام السوري، ورفع الغطاء عنه؛ ولعل هذا ما يفسر لنا جانباً من لهجة التحدي التي اعتمدها وزير خارجية النظام السوري وليد المعلم في مؤتمره الصحفي الخاص بتقديم بعض التوضيحات ذات العلاقة بالموقف من خطاب رئيسه الأخير، وذلك بعد أن قُوبل – الخطاب المعني- بعاصفة من الرفض والنقد من قبل شباب الثورة السورية، والمواطنين السوريين عامة في الداخل والخارج؛ هذا بالإضافة إلى المواقف الإقليمية والدولية التي تمحورت حول إقرارها بعدم جدية وكفاية ما ذهب إليه الرئيس. وربما استغرب الكثيرون نبرة المعلم وطريقته الغريبة في التفكير، خاصة حينما أعلن من موقع التابع المأمور أنه سينسى وجود أوربا على الخارطة؛ إلا أن الأمر لم يكن مفاجئاً أو جديداً بالنسبة إلى السوريين الذين تيقنوا منذ عقود بأن النظام قد نسي وجود شعب اسمه الشعب السوري؛ وهذا ما يفسر تخبط زمرة القرار المتسلطة على الحكم في سورية بعد أن ظهر لها ما لم يكن في حكم المتوقع بالنسبة إليها: شعب يطالب بحريته وكرامته، وذلك على نقيض كل تقارير أجهزتها الأمنية التي كانت تؤكد لها أن الوضع من جميع جوانبه هو تحت السيطرة وإلى الأبد في غياب أي وجود حي لما اسمه الشعب السوري، هذا ما توهموه، وما أثبت شبابنا عكسه الفاعل.
وفي السياق ذاته، لا بد من أخذ المؤشر العربي بعين الاعتبار، وذلك نظراً لأهميته الاستثنائية فيما يتعلق بوضعية النظام السوري الذي كان قد تمكّن من تسويق نفسه – بناء على معطيات مزورة- على انه نظام المقاومة والممانعة؛ وهذا ما منحه الفرصة حتى الأمس القريب، لتكوين انطباع خادع لدى الإعلاميين والأكاديميين والمثقفين العرب فحواه: أن السلطة السورية تقود الجهد العربي في ميدان مواجهة المخططات المعادية التي تستهدف الأمن القومي العربي.
ولكن ذاب الثلج وبان المرج كما يقول المثل السوري، وتكشّف الوجه الحقيقي لهذا النظام الذي كان يستخدم كل أوراقه العربية والإقليمية والدولية من أجل الانقضاض على الداخل. وقد أتقن على مدى عقود اللعبة ذاتها ، مستغلاً سلبية الأغلبية الصامتة من الشعب السوري، وواقع التشرذم في صفوف المعارضة المنظمة السورية. ولكن مع انطلاقة ربيع الثورات العربية، بدءاً من تونس، ومروراً بمصر واليمن وليبيا، اتخذ الشعب السوري هو الآخر قراره، وأثبت بالممارسة الحية، وبكل اقتدار أنه لا يقل شجاعة وخبرة واعتزازاً بالنفس من الآخرين، ولكن مصيبته أنه قد مُني بنظام نجح في تضليل الجميع، واستطاع باستمرار الاستفادة من جميع التناقضات بفعل سياسة تغيير المواقف والألوان، ونتيجة التنازلات الكبرى، كل ذلك من أجل أن يسمح له الخارج بإطلاق يده في الداخل.
غير أن الموزاين قد تغيرت، ولم تعد الأساليب القديمة قادرة على معالجة الأوضاع الجديدة. كما أن لعبة التذاكي والتشاطر على الآخرين لم تعد مجدية، بعد أن تبيّن المستور أمام الجميع بفضل عزيمة وتضحيات الشباب السوري الأشم – وهي تضحيات نحني احتراما لها ولأصحابها- ، وما ترتب على ذلك هو تبدل لافت في مواقف النخب العربية، تبدل ملموس سيؤثر سريعاً في مواقف الدول العربية، وسيلزمها بضرورة تحديد الموقف مما يجري في سورية، والإسراع في الوصول إلى موقف عربي ينسجم مع تطلعات الشعب السوري بأسره، وليس مع مصالح الزمرة الحاكمة الظالمة. وهنا تجدر الإشارة إلى ضرورة تحرك المعارضة السورية على مختلف المستويات من أجل وضع العرب أمام مسؤولياتهم التاريخية، لأن المرحلة الراهنة التي تعيشها سورية هي مفصلية تاريخية مصيرية بكل المقاييس. وقديماً قد قيل: الصديق وقت الضيق. فما بالك بالشقيق الذي من المفروض أن يكون متعاطفاً مسانداً داعماً قبل الآخرين، حتى لا تتكرر الأخطاء ذاتها التي ارتكبها العرب في العراق.
أما المؤشر الأقوى الذي يؤكد تضعضع موقع السلطة وترنحه، فهو يتجسد في إصرار شعبنا بكل مكوّناته وتوجهاته على الاستمرار في ثورته المباركة، وذلك عبر تطوير طبيعة الاحتجاجات كماً ونوعاً، واستمراريتها على مدار الأسبوع. كما أن الجهود التنظيمية في نطاق التنسيقيات المحلية تؤكد أن المسألة لم تعد مسألة مطالب واحتياجات جزئية ما زال الرئيس يعتقد من برجه العاجي أن المواطنين السوريين يتوسلون الدولة من أجل أن تلبيها لهم. لا أيها السيد الرئيس، إنها باختصار: ثورة شعبية عارمة منظمة، تمتلك الأدوات والرؤية المستقبلية، ثورة تشمل التظاهرات والاعتصامات والإضرابات العامة، حتى نصل إلى العصيان المدني الشامل الذي سيستمر إلى حين تحقيق أهداف ثورة الكرامة والحرية، إنها ثورة تطالب بإسقاط النظام الأمني القمعي الذي لم يعد ينتمي إلى هذا العصر مهما تجهّم وتفنن المعلم وغيره من المحيطين بك، هؤلاء الذين لم يعد بيننا وبينهم سوى الاتفاق على موعد وآلية الرحيل.
الرحمة لشهدائنا، العزيمة لشبابنا وشاباتنا، وكل التحية لسورية الديمقراطية التي ستكون بجميع ولجميع أبنائها وبناتها من دون أي تمييز.