سورية واجتماع ما بعد الدولة/ مرزوق الحلبي
سورية لم تعد تعني دولة ما وإنما جغرافيا فقط. ولعلّ الحاصل فيها ولها يعكس ما تُمكن تسميته سياسة ما بعد الدولة. أو الأصحّ، هي تجسيد ما لاجتماع ما بعد الدولة. فالدولة التي تفكّكت في حرب أهلية بدأت ثورة وانتهت اقتتالاً عبثياً تعيش على وقع سنابك خيل غير السوريين فيها الذين جاؤوها كجزء من السيولة الكبيرة في مفهوم اجتماع الدولة الذاهبة إلى اجتماع مُعولم.
فقد رأينا كيف سالت تركيا عبر الحدود إلى داخل الأرض السورية وسبقها اللبنانيون- ممثلين بقوات «حزب الله»- والإيرانيون وميليشياتهم من أفغانستان وباكستان والعراق وإيران نفسها. ورأينا أيضاً قوات التنظيمات العسكرية الإسلامية من «داعش» و «القاعدة» وسواهما تتحرك إلى الأرض السورية التي لم تعُد سوريّةً مع إقامة «سيادات» و «كيانات» فوقها ولو موقتاً. هذا إضافة إلى القوات النظامية العاملة هناك: القوات الروسية التي تعمل في سورية كأنها مناطق روسية وكذلك القوات الإيرانية التي تُسيطر على حيز واسع من الجغرافيا السورية.
مشهد لا يعكس عُمق الأزمة في سورية فحسب بل يعكس التحولات في مفهوم الاجتماع البشري الذي نعرفه منذ قيام الدولة القُطرية على أساس الإقليم والسيادة والدولة باعتبارها الكيان السيادي والوِحدة السياسية التي يقوم الحساب على أساسها. كان ذلك في العلاقات داخل الدول أو بينها.
لهذا سببان أساسيان في عُمق الاجتماع البشري في العقود الأخيرة. الأول يكمن في سيرورة العولمة باعتبارها تعزيز الكيانات العابرة للقارات والدول على حساب الدول وحدودها وسيادتها. أو بكلام آخر، سيرورة ارتباط معقّد للمصالح – الاقتصادية وسواها – في شكل جعل مفهوم السيادة الوطنية مرناً وقابلاً للأخذ والردّ. فيُمكن لدولة أن تتشارك السيادة مع أخرى ولو كانت بعيدة منها. وهذا ظاهر مثلاً وبوضوح في نوعية العلاقة بين نظام ولاية الفقيه في طهران وبين نظام دمشق الدموي. وهو واضح في الوصاية الروسية على سورية الآن. فالعلاقة في الحالتين تتعدّى بكثير النمط الذي عرفناه من مؤازرة دولة لدولة حليفة. هنا يبدو الإيرانيون والروس شركاء تماماً في السيادة بل هم أصحاب السيادة الفعليون في سورية.
إلا أن الأمر لا يقتصر على اللاعبين الدولانيين – دول كاملة الحضور – بل شمل لاعبين دوليين ليسوا دولاً بل منظمات عابرة للحدود ولاجتماع الدول وتحمل مشروعاً مغايراً يتحدى الدول ونظام العلاقات في ما بينها. وهذا واضح في الحالة السورية والعراقية واللبنانية والصومالية ومناطق واسعة من أفريقيا. فتنظيم «داعش» مثال حي أمامنا للاعب كهذا ينافس الدول على الموارد والمناطق. ومثل «القاعدة» أو منظمات مماثلة انشقت عنها. وهي منظمات تزيد من حال السيولة الدولانية وتشكّل تحدياً للاجتماع المعروف ضمن حدود الدولة كما عرفناها إلى الآن.
السبب الثاني في رأينا – وهو مرتبط بالسبب الأساسي المذكور – هو انهيار النظام العالمي الذي نشأ عن الحربين العالميتين حتى منتصف القرن الفائت. وهو نظام قائم على أساس مفهوم الدولة القُطرية وتنظيم العلاقات في ما بينها. وهو نظام منصوص عليه في القانون الدولي المكتوب والمعمول به وفي سلسلة من المواثيق الدولة والمعاهدات التي حاولت ترتيب الاجتماع البشري داخل الدول، أيضاً، بخاصة في ما يتعلّق بحقوق الأقليات والشعوب الأصلانية. ونكاد نقول أن هذا النظام بوصفه مؤسسات أممية ومجلس أمن ودساتير وأنظمة درء للحروب ولحل النزاعات وما شاكلها – كلّها قد تداعت تماماً ولم تعد فاعلة وإن كانت قائمة في كتب القانون الدولي ولدى منظمات حقوق الإنسان.
بل إن التغيّرات في الاجتماع القائم على أساس الدولة القُطرية شملت أفكاراً جوهرية في هذا الاجتماع لا سيما الفكرة الديموقراطية وما أفرزته من نُظم وتطبيقات على الأرض. إذ يبدو واضحاً اليوم وأكثر من أي فترة سابقة عُمق التدخل الخارجي في انتخابات أي دولة في العالم بما فيها الدول العُظمى. كأن السيولة التي تتسم بها حركة تنقل الرأسمال والبضائع وخطوط الإنتاج والعُمالة تشمل، أيضاً، مساحات كانت إلى سنين خلت «وطنية» ومحفوظة للمجتمع في الدولة نفسها كالانتخابات أو الاستفتاء العام أو الدعاية الانتخابية نفسها. فجأة نرى ذاك التدخّل المكشوف لدول وقوى غير دولانية في عمليات الانتخابات الجارية في هذه الدولة أو تلك. كما أن عملية تدخّل دولة في صراع ما أو نزاع بين دول أو داخلها صار أسرع مما كان بل أكثر التدخلات الحاصلة لا تنتظر أبداً تصديقاً من مجلس الأمن أو قرارًا منه – سورية مثلاً.
ربما أن المشهد السوري الراهن ليس عابراً ولا هو موقت ولا هو حصري على الشام وأهلها بل هو شكل جديد للاجتماع الجديد بوصفه اجتماع ما بعد الدولة. وهو حاصل في العراق وأفغانستان ومساحات واسعة من أفريقيا. وهو ما يُمكن أن يمثّل انتهاء الدولة بصيغتها المألوفة وخضوعها لعمليات تفتيت وتفكيك من قوى داخلية وخارجية وفق خارطة مصالح متشابكة حد ضياع اجتماع الدولة لمصلحة شكل جديد من الاجتماع غير المعرّف والمسمّى بعد. لكن من سماته المتشكّلة أمامنا الانتقال إلى الكيانات الصغيرة وانتهاء عصر السيادات الثابتة والدولة المتينة لصالح كيانات هشة تتحول وتتبدّل وفق مصالح مراكز القوى خارجها. ومن سِماتها أيضاً دخول منظمات وتشكيلات اجتماع أيدولوجية غير دولانية إلى المشهد ولعب دور في رسمه. ومن سماته أيضاً جعل العنف سيد الأحكام أو جعله «السياسة» النافذة المعمول بها على ما يعنيه ذلك من فظائع تهجير وتقتيل وتدمير شبه تام كما هو حاصل في سورية.
الحياة