شرق أوسط جديد في عالم متحرك/ غازي دحمان
تبدو الوقائع على المسرح الاستراتيجي العالمي مخالفة تماماً للتصورات والتفسيرات الغزيرة التي تحاول فهم اللحظة العالمية، حيث تذهب معظم التحليلات التي تحاول تفسير السياسة الأميركية في الشرق الأوسط إلى نتيجة واحدة مختصرها أن واشنطن في طور لملمة أشيائها وتحزيم حقائبها استعدادا لمغادرة الشرق الأوسط، ولم يبق سوى انتظار تلك الالتفاتة الأخيرة التي ستوثقها عدسات التصوير لآخر جندي يصعد على أخر سفينة أميركية باقية في المتوسط!
تبني معظم تلك التفسيرات على مؤشرات ملتبسة لما تكتنفه من عناصر لا زالت في طور التحرك ولم تستقر بعد بوصفها معطيات راسخة، فضلاً عن المنسوب الافتراضي العالي الذي تنطوي عليه، ناهيك عن واحدية الاتجاه لهذه المؤشرات، مما يدلل على فقرها المعرفي وضعف نتائجها التفسيرية تالياً، حيث ترتكز أغلب المؤشرات على البعد الاقتصادي في تفسيرها لفرضية الانسحاب وتربط هذا الأمر بالأزمة الاقتصادية التي تمر بها الولايات المتحدة الاميركية، من دون إيلاء الأهمية لبقية العناصر التي تتشكل منها استراتيجيات الدول.
الواقع أن ثمة خللا ما في هذا التصور، تكشفه حقيقة الاهتمام الديبلوماسي الأميركي بالمنطقة، إذ انه، وحتى اللحظة، لا تزال أغلب موارد الخارجية الأميركية ووقتها تصرّفها على شؤون المنطقة وقضاياها، من المسألة السورية إلى قضية مفاوضات السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وما بينهما العلاقات مع السعودية ومصر وإيران. فالانخراط الأميركي ضمن إطار هذه الملفات ما زال كبيراً وزاحما، وعلى المستوى الإستراتيجي ما زالت السياسة الأميركية تنطلق من إطار الإستراتيجية الكبرى التي تشمل كل الأقاليم العالمية، وما زيادة الاهتمام بإقليم معين سوى محاولة لمتابعة التطورات والإحاطة بها، وهذا شأن أي إستراتيجية ناجحة، وهو أيضاً تطور تستدعيه ظروف الأقاليم العالمية والمتغيرات الحاصلة فيها.
إضافة لذلك، ليس بإمكان واشنطن البقاء في مكانة الدولة العظمى الأكبر في العالم وممارسة سياسة الانكفاء تجاه منطقة حيوية ومهمة في العالم، خصوصا أن دورها ما زال مرحبا به، إضافة إلى أن مصالحها الاقتصادية والعسكرية ما زالت موجودة، وأنه من الإجحاف النظر إلى متغير واحد، كالاكتفاء الذاتي الأميركي من النفط، وأن يتم على أساسه تقدير ذهاب واشنطن إلى بناء إستراتيجيات جديدة ومغايرة.
إضافة لذلك أيضاً، فإن الشرق الأوسط لم تتغير وظيفته الجيوإستراتيجية ولم يغادر مكانه بوصفه ميدانا يتوسط العالم ويؤثر في أمنه ومستقبله، وأن القوى التي تتواجد فيه تستطيع التحكم بضبط تطورات عالمية كثيرة، كما تستطيع مراقبة العالم ومعرفة اتجاهاته، وهذه لا يمكن فصلها عن المصالح الأميركية الكبرى التي لا يمكن حصرها في قضية الاكتفاء النفطي، أو البحث عن مصالح تجارية معينة.
التصور الأقرب للوقائع الجيوإستراتيجية أننا أمام نمط إستراتيجي أميركي جديد يقوم على إعادة صياغة وتشكيل الشرق الأوسط بطريقة جديدة، وليس الانسحاب منه، هذه الاستراتيجية الجديدة تقوم على نقيض إستراتيجية أميركية دامت طوال نصف قرن ارتكزت على مبادئ معينة للحفاظ على هندسة ومعمار الشرق الأوسط القديم بأنظمته السياسية والاجتماعية وحدوده وضبط صراعاته وتفاعلاته، هذه السياسة انتهت اليوم، لكن مصالح أميركا باقية في أكثر من موضع وهي ليست في طور التخلي عنها أو تركها للخصوم والحلفاء يديرونها بالطريقة التي يريدون.
في إطار هذه الإستراتيجية ترك المنطقة تتشكل من جديد، وهذا الأمر ليس وليد اللحظة بل جرى الحديث عنه والتنظير له منذ بداية القرن فيما سمي في حينه “الشرق الأوسط الجديد” أو “الفوضى الخلاقة”، وهي وإن بدت بالنسبة لقاطني الشرق الأوسط على أنها سياسة تآمرية فهي بالنسبة للسياسة الأميركية ليست سوى نمط أو طريقة لتسهيل التعاطي مع منطقة جغرافية معقدة، تستهلك الكثير من الإمكانيات والموارد، في حين بمكن إيجاد طرق جديدة لترشيد هذه العملية وتحقيق الجدوى منها بحيث تحقق مصالح واشنطن وليس بالضرورة أن تراعي مصالح سكان المنطقة أو قسم منهم.
آليات هذه الإستراتيجية الجديدة، قد تكون السماح للتعبيرات المختلفة، اجتماعيا وأيديولوجيا، وتطبيقاتها الحركية بالظهور، على شكل كيانات جديدة، حزبية أو دولتية، مثل ظهور الإخوان المسلمين كقوة فاعلة في المنطقة أو حتى ظهور كيانات سياسية على أسس عرقية وطائفية.
لا يمكن وصف هذه السياسة بالانسحاب، إذ لا يبدو أن الانسحاب يأتي لمصلحة طرف معين، فلا روسيا الغارقة بمشاكلها لديها القدرة على إدارة مناطق مأزومة، ولا إيران المنهكة والمتعبة قادرة على الاستفادة من هذا الانسحاب في ظل انتصاب حرب طائفية كفيلة بتدمير كل الفائض الإيراني، فما حجم استفادة إيران من العراق وسفنها تبحث عن موانئ تستقبل نفطها الذي تعرضه بأقل من السعر الحقيقي لتقيت شعبها، وحتى إيران نفسها معرضة بدرجة كبيرة للخطر نتيجة المشاكل التي تنطوي عليها والتي لا تختلف بدرجة كبيرة عن مشاكل وأزمات بلد مثل سوريا.
التفسير الاقرب لهذه الظاهرة ينطوي على بعد استراتيجي جغرافي، يمكن وصفه بمحاولة إعادة الهيكيلية الاستراتيجية ولكن وفق معطيات وشروط اللحظة الراهنة واستحقاقاتها، وهي عملية كلاسيكية في الإستراتيجية الدولية، وإنما يجري إعادة إنتاجها، فالقضية ترتبط إرتباطاً وثيقاً بطاقة الدول وتوجهاتها ومزاج نخبها، ثم تطبيق ذلك وترجمته على الواقع الجغرافي العالمي، بمعنى إعادة تطويع الجغرافيا وتشكيلها بطريقة اكثر جدوى وقابلية لخدمة مصالح الدول ولكي تتمتع بالمرونة الكافية واللازمة لإنجاز التسويات مع بعض الأطراف الإقليمية والدولية. حصل ذلك عشية مؤتمر برلين الذي أعاد صياغة أفريقيا، وعقب الحرب العالمية الأولى ومؤتمر سان ريمو الذي اعاد تشكيل المنطقة العربية، وحصل الأمر نفسه في آسيا الشرقية عندما أعيدت صياغة الهند باكستان وبنغلاديش، وفي كل هذه المرات كان الامر يحصل نتيجة تطورات الحركة الرأسمالية العالمية وظهور متغيرات في سلم القوى العالمي وهيكلية القوى.
نحن أمام تجريب سياسات أميركية جديدة أكثر من انسحاب، ولكن بما أننا نقع بين حدي الانخراط والانسحاب لم نلحظ المتغيرات التي تتضمنها السياسة الأميركية الجديدة، فأميركا لن تنسحب وتمارس سياسة اصطياد الفرص في المحيط الهادئ وظهرها مكشوف. كما أن النظام الإقليمي الشرق أوسطي يشكل جزئية مهمة من تفاعلات النظام العالمي ولا يمكن التعامل معه بهذه الخفة، والإستراتيجيات الكبرى لا تنسحب، بل تجرب، وتكمل ايا تكن نتيجة التجريب، لكننا في الشرق الأوسط يجب ان ننتبه لحقيقة مهمة، أن أميركا سمحت للتعبيرات المختلفة بالظهور والتعبير عن نفسها، ومثلما لم تمانع بظهور التعبيرات السياسية لن تمانع أيضاً بظهور التعبيرات الكيانية، والشرق الأوسط، بلا استثناء، من مراكش حتى القوقاز، يقع على خط هذه التعبيرات.
المستقبل