شهيداً تحت التعذيب/ عمر قدور
رامي الهناوي ناشط نعاه السوريون على وسائل التواصل الاجتماعي قبل أسبوع، شهيداً تحت التعذيب. لكن بعد خمسة أيام يوجه أهله نداء للمساعدة لأنهم ذهبوا بالقرار الذي تبلّغوا به لتنفيذ الإجراءات الإدارية المتعلقة بتثبيت الوفاة، إلا أن “المحاكم الميدانية” المعنية لم تؤكد أو تنفي القرار، وهذه على الأرجح بمثابة عقوبة إضافية بسبب ما ناله خبر استشهاد رامي من ضجة إعلامية، وبسبب كشف أهله خبر استشهاده لوسائل الإعلام.
قبل شهر ونصف الشهر كانت والدة الشهيد غياث مطر قد نعت ابنها الآخر حازم شهيداً تحت التعذيب أيضاً، بينما لا يزال ابنها الثالث أنس قيد الاعتقال. بحسب ما تم إبلاغه لذوي الشهيدين، رامي الهناوي وحازم مطر، فإن وفاة كلّ منهما قد حدثت في الشهر الأخير من العام الفائت، أي في توقيت كان فيه تنظيم الأسد يتبجح بالانتصار ولا يشعر بأدنى خطر، ما يضع تصفية الشابين وآخرين “قد نسمع بهم لاحقاً أو لا نسمع” في إطار الانتقام والتشفي، وربما في إطار استعجال تصفية جميع الذين شاركوا في الثورة. أخبار الإفراج عن سوريين آخرين في الوقت نفسه ربما لا تعني سوى براءة هؤلاء من أية شبهة، وأن اعتقالهم أتى أصلاً ضمن حملات عشوائية، بصرف النظر عن استحقاقهم الحرية في مطلق الأحوال.
رامي الهناوي ينتمي إلى تيار سياسي عُرف بمناداته بالتغيير السلمي، وحتى القبول بعملية تغيير طويلة الأمد يكون تنظيم الأسد طرفاً فيها، وحينها كان الأخير يلمّح إعلامياً إلى قبول هذا التيار بوصفه معارضة وطنية. ذلك كما نعلم لم يمنع الذراع المخابراتي من تنفيذ السياسة الحقيقية، وهي الإجهاز على كافة أطياف المعارضة، فاعتقل العديد من كوادر هيئة التنسيق، مثل عبدالعزيز الخيّر ورجاء الناصر ورامي الهناوي وسواهم. وهي للحق سياسة خبرها السوريون من قبل، فغداة إجهازه على تنظيم الإخوان المسلمين في مطلع الثمانينات باشر فوراً اعتقال بقية المعارضين بصرف النظر عن توجهاتهم، وبصرف النظر حتى عن موقفهم من خصمه الإخواني.
لحسن الحظ أن الفئة الغالبة من السوريين لا تتوقف عند الانتماء السياسي عندما يتعلق الأمر بقضايا الاعتقال أو القتل تحت التعذيب، هذا بالطبع ليس فضلاً يُسجّل لها إذ تغلّبُ الاعتبار الإنساني والأخلاقي أولاً، وليس فضلاً إذ تقتضي المطالبة بالحرية من أصحابها طلب الحرية للمختلف على قدم المساواة مع طلب الحرية للمشابه. وإذا كان الجذر الأول “الإنساني والأخلاقي” فعالاً لا يمكن الجزم بأن الجذر الديموقراطي فعال على الدرجة نفسها، وهذا ما نلمسه في العديد من المناسبات إذ يعود الاختلاف السياسي ليفرّق الاتفاق الذي أنجزه التوافق الأخلاقي.
مثلاً، في العديد من المناسبات المماثلة، ثمة تأكيد مبالغ فيه على أن القتيل تحت التعذيب هو ناشط سلمي، وإذا كان هذا التأكيد في جانب منه ينال من تنظيم الأسد لأنه لا يوفر ناشطاً مهما بلغت سلميته فإنه يضمر له بعض الأحقية فيما لو كان القتيل تحت التعذيب قد ساعد على نحو ما فصيلاً معارضاً مسلحاً، أو قد يضمر أحقية تنظيم الأسد بأن يقتل تحت التعذيب أي سوري أُرغم على رفع السلاح وفق التسلسل الذي نعرفه للأحداث منذ بدء الثورة. هذا لا يتضمن موقفاً جذرياً من قضيتين، الأولى رفض التعذيب بالمطلق، وفي حالتنا رفض التعذيب بهدف القتل، والقضية الثانية هي أحقية أي معتقل بالمثول أمام قضاء مستقل وعادل من دون أن يتعرض قبل ذلك لأي ضغط جسدي أو معنوي أو أي إكراه على الإدلاء باعترافاته.
من التمييز السابق تأتي مقولة دارجة، مفادها أن تنظيم الأسد أفرج عن معتقلين إسلاميين في الوقت الذي اعتقل فيه ناشطين ديموقراطيين، ويذهب أصحاب هذه المقولة إلى أن ذلك كان مخططاً لإيقاع الثورة في الأسلمة والعسكرة. هذه المقولة تضمر أولاً أحقية النظام باعتقال إسلاميين والإبقاء عليهم من دون محاكمة، وعلى الأرجح من دون جرم مادي قد ارتكبوه، بحيث يبدو إطلاق سراحهم مذموماً فقط بسبب أيديولوجيا يعتنقونها. وإذا غادرنا في اتجاه السياسة فهذه المقولة تتناسى أمرين، أولهما أن تنظيم الأسد قد حاول في بداية الثورة استمالة الإسلاميين، لا بإطلاق سراح معتقلين منهم فحسب وإنما أيضاً بقرارات من نوع إنشاء قناة تلفزيونية دينية، أو بإعادة المنقّبات إلى سلك التعليم، وحينها كان النقد الموجّه لتنظيم الأسد أنه قدم ما لم يطالب به المتظاهرون. ذلك لا يعني أن تنظيم الأسد عندما لم تأتِ رشوته بالثمار المرجوة لم ينقلب على الإسلاميين أيضاً، فقد قام باعتقال آلاف منهم، بل خصّهم أكثر من غيرهم باعتقال عائلات كاملة كرهائن في استرجاع لأسلوب اتبعه أثناء المواجهة القديمة مع الإخوان المسلمين. وأن يكون الإسلاميون ضد الديموقراطية بحكم أيديولوجيتهم فذلك لا يعني محاباة الأسد لهم، حتى إذا كان وجودهم يخدمه موضوعياً، فالأساس في بنية تنظيم الأسد عدم قبولها الآخر وعدم التورع عن سحقه مهما كان.
لكي نضع قضية القتل تحت التعذيب في إطارها الأوسع يلزم القول بأنها جزء من نهج الإبادة، فمعسكرات الاعتقال هي معسكرات تصفية جسدية، وما يزيد من بشاعتها أن المُستهدَف بالتصفية هنا لا يملك أية فرصة للهرب والنجاة، أو أية فرصة للدفاع عن النفس. هذا أحط أنواع الإبادة، وإذا أضفنا ما أعلنته تقارير استخباراتية غربية عن وجود محارق للجثث فنحن أمام نموذج الهولوكست النازي. ومن المؤسف أن يبقى التعاطي مع هذه القضية في إطار التفجّع على الضحايا، مع وجود تسليم بأن هذه الجرائم من طبيعة تنظيم الأسد وما باليد حيلة إزاءها وإزاءه، بل من المؤسف أكثر أن نرى من يتفجّع على الضحية ولا يرى حرجاً بعدها في أن يستمر بموقف سياسي مهادن للقتلة، وألا يخطو الخطوة التي يقتضيها الحس البسيط فيطالب بمحاكمتهم. قد يغطي أصحاب التناقض الأخير رياءهم بالقول إنهم يريدون حقن دماء ما تبقى من المعتقلين، إلا أن هذا الافتراض الذي يتوقف على حسن نوايا المجرم لا يملك إثباتات لا ماضياً ولا حاضراً.
يصادف أن يحتفل العالم بعد أربعة أيام بذكرى النصر على النازية، بينما نحن أسرى نازية ممسوخة. الموقف من النازية لا يُعدّ موقفاً سياسياً فحسب، إنه معيار صارم في العالم، كذلك ينبغي أن يكون الموقف من معسكرات الإبادة الأسدية ومن الأسدية ككل. في الواقع، إذا استثنينا أهالي ضحايا هذه المعسكرات بوصفهم أيضاً ضحايا، فإن أولياء الضحايا هم الذين يصرّون على تقديم نازيينا إلى العدالة.
المدن