صباح النور يا روبيرت/ عزيز تبسي
لم يدخل المدينة كغازٍ، ليسرق أهلها ويدوس على رقابهم، ويذل كرامتهم… دخلها مع عائلته الممزّقة على عربة تتعثر بالحجارة والوهدات الممتلئة بمياه الأمطار. مطرودون من بلادهم ومطاردين من كتائب القَتَلة.
ولد “روبيرت جبه جيان” في 2 أغسطس/ آب 1909 في مدينة “عينتاب”، والده الطبيب “أفيديس جبه جيان”، الذي درس الطب في الكلية الإنجيلية السورية في بيروت ـ الجامعة الأميركية ـ وتخرّج منها 1902،عمل بعدها في المشفى الأميركي في عينتاب من عام 1902 ـ 1906، ثم سافر إلى سويسرا وألمانيا للتخصص بالجراحة العامة 1907-1908، وعاد بعدها ليستقر نهائياً في حلب، بعد زواجه من ابنة القس الإنجيلي الآنسة “يفنيكيه قنداقجيان” من قرية “حسن بيلي” في كيليكيا.
وعندما حبلت أمه به، أرسلها والده إلى “عينتاب” لتلد بين أسرتها. هناك رأى روبيرت النور، في الوقت عينه، أنطفأ النور من حياة جده مع ثلاثة وعشرين من الرؤساء الروحيين للطائفة الإنجيلية الأرمنية في منطقة قريبة من بلدة “عثمانية”، وهم متوجهون إلى مدينة “أضنة” لحضور مؤتمر الكنائس الإنجيلية، كما اغتيل خاله “أغسطين” ووجدت جثته طافية فوق مياه نهر جيحان، أما خاله الأصغر “روبيرت” الذي يبلغ الرابعة عشرة من عمره، فقد قتل عندما عثر عليه مختبأً داخل طاحونة مائية، سمّاه والده روبيرت على اسم خاله القتيل.
قررت والدته بعد هذه المآسي العودة مع طفلها إلى حلب. سكنت في محلة “بوابة القصب”. قبل أن ينتقل مع أسرته إلى محطة “قطمة” للقطار القريبة من بلدة أعزاز بعدما عيّن والده في عام 1910 طبيباً للشركة الألمانية للخطوط الحديدية.
في بداية العام 1913 عادت العائلة إلى حلب من جديد، لتقيم في “جادة الخندق”، واتخذ والده عيادة من البيت المقابل لدارهم. وفي هذا البيت ولد أخوه “فاهيه”.
استدعي والدهما لتأدية خدمة العلم الإلزامية في الجيش العثماني في 3 أكتوبر/ تشرين الأول 1914، بينما كان روبيرت وأخوه مع والدتهما في قرية “حسن بيلي” مسقط رأسهما لقضاء عطلة الصيف، فغادرت الأم والطفلين إلى حلب، ليمكثوا فيها القليل من الوقت، قبل أن يعودوا إلى “عينتاب”. لكن لم يلبثوا أن غادروها مجدداً إلى حلب، بعد المذابح والترحيل القسري للأرمن في 1915. وسمح لجده وجدته لأبيه بمرافقتهم، كون والده ضابطاً في الجيش العثماني، أما باقي العائلة فقد شردت، فعائلة عمته وعمه اقتيدتا إلى الجنوب السوري، واستطاعتا من هناك الفرار إلى بلدة “سلمية”، شرق مدينة حماه، حيث لاقت الترحيب من أهلها كما العديد من الأسر الأرمنية النازحة التي وصلتها. أما خالته “نويمي” وأبناؤها الخمسة فاقتيدوا إلى بادية الخفسة قرب مدينة دير الزور وهلكوا جميعهم هناك.
سكنت العائلة بعد عودتها إلى حلب في 1915 منزلاً في منطقة “العبارة”، ثم انتقلت إلى مبنى من ثلاث طبقات خلف فندق “بارون” وبقيت فيه طيلة فترة الحرب العالمية الأولى. أيامها كان يرافق والدته إلى “الهيكيدون ـ خان القدس”، حيث تحط قوافل المهجرين والفارين من القتل. وعملت والدته على مساعدتهم على قدر مستطاعها، وقد آوت في بيتها سراً، العديد من الأسر المنكوبة.
كانت اللغة التركية هي اللغة السائدة في البيت، حتى بلوغ الفتى روبيرت سن العاشرة، وبها حكت جدته “منوش خانم” له قصصها الجميلة، التي أحب منها “الرجل الأعمى”، وبقي السؤال الذي راوده طيلة فترة صباه “كيف يستطيع الأعمى الحركة، وكيف يستدل على طريقه”.
التحق بروضة الأطفال الألمانية التي كانت تديرها الراهبات في حي “الجميلية”، وبقي فيها طيلة عامي 1916- 1917. سرّح والده من خدمة الجيش العثماني في 1918، وعاد إلى حلب، وفي العام نفسه ولدت أخته الصغرى أناهيد. انتقل في العام 1919 إلى مدرسة “هيكازيان” التي افتتحت أبوابها في “قصر غزالة”، وبقي فيها حتى 1924، وانتقل بعدها إلى مقر المدرسة الجديد في حي العزيزية في منطقة جبل النهر الذي كان مقراً للقنصلية البريطانية. غادر حلب في 1926 متوجهاً إلى برمانا في لبنان، ليتابع دراسته في الثانوية الأميركية ببيروت، حيث أمضى سنة كاملة التحق بعدها بالجامعة الأميركية ببيروت ليدخل الصف التحضيري في 1927 وبقي حتى 1929 وهو تاريخ قبوله في كلية الطب، التي تخرج منها عام 1934. بدّلت العائلة المقيمة في حلب العديد من البيوت وانتقلت من “العبارة” إلى “العزيزية” الى “العبارة” مرة أخرى حتى استقرت في “جادة الخندق” في المنعطف المؤدي إلى منزل الطبيب والرجل الوطني عبد الرحمن كيالي، أمام المشفى الخاص بوالده في بيت واسع جمعها مع أسرة خاله.
عاد من بيروت في العام 1934 وبدأ العمل في المشفى الذي أسسه والده وخاله، ثم سافر إلى فرنسا في العام 1938 للاختصاص في طب العيون والأذن والأنف والحنجرة، وللاستزادة من العلم والمعرفة. تعرف هناك في منزل القس “زكريا برصوميان” على الآنسة “فيوليت مانيساجيان” ابنة الكيميائي “هايكازون مانيساجيان” الذي هاجر من عينتاب وسكن مدينة بال السويسرية. أعجب بالآنسة فيوليت التي تمكنت رغم ظروفها الصعبة بعد وفاة والدها المبكرة، من نيل الشهادة الثانوية وسبع شهادات أخرى من بينها شهادة في التمريض والقبالة. وتمت خطبتهما في باريس في مايو/ أيار 1938. عاد بعدها إلى حلب ليرتب أموره ويعودا ليتزوجا في أبريل/ نيسان 1939، وعادا بعدها معاً إلى حلب. رزقا بثلاثة أولاد، طفلان وطفلة. وكان لزوجته نشاطات كثيرة، فقد درّست اللغة الفرنسية في معهد “اللاييك” في حلب لمدة ثلاث سنوات وأسست مع السيدة “أوديت جاكيمو” روضة أطفال نموذجية في العام 1942، سمّتاها “الطفولة السعيدة”، واستمرتا بالعمل حتى 1946 حيث سافر الدكتور روبيرت إلى فرنسا وسويسرا مع زوجته وولديه، ليمضي عاماً كاملاً في التخصص.
وكان قد صمم في عام 1937مع رفاقه الأطباء، ليون أسمر، نهاد أميري، كامل كرمان، أحمد ذهبي، حسن بصري المصري، الذين قاموا، بعد دراسة 42000 ألف حالة مرضية، على دحر “التراخوما”، وإعادة البصر إلى العيون المطفأة، في الزمن الذي يجري التعامل مع العيون كحاسة فائضة عن الحاجة، ليحرر منها عيون الشعب إلى الأبد. وتبنت أبحاثه منظمة الصحة العالمية.
جازف في الخامس عشر من أكتوبر/ تشرين الأوّل عام 1947 بإجراء أول عملية زرع قرنية في العالم العربي، وعمل بعدها على فتح العيون المغمضة للكثيرين. ربما لأنه كان على قناعة أن البصر كاف لرؤية العالم وإدراكه، غير مبال بسلالات متربصة من الذين بنوا “أمجادهم”على سمل العيون، واعتماد “الطماشات” الجلدية السوداء، أسوة بحيوانات الجر، كمُتممٍ للزي الرسمي للمغلوبين، الذين يحرمون مرضى السكري من الاستطباب ليروا انطفاء البصر في عيونهم، ويسخروا بعد ذلك من تعثرهم وسقوطهم وهم يجتازون الطرقات التي حفرتها جنازير دباباتهم، وحين يدوسون فوق قشور البرتقال الرخوة، الذين يرمون الناس في العتمة كي لا ينسوا عيونهم فحسب، بل الحياة الذي تضيئها الشمس.
قرر بعد عودته من فرنسا وسويسرا، العمل على إنشاء مشفى مختص بطب العيون، وعمل على الاستقلال عن والده، فكانت عيادته الأولى مزودة بعشرين سريراً. كلّف بعدها “زاره كابلان”، أستاذ العمارة في معهد الفنون الجميلة في باريس، الذي كانت منتدباً من قبل منظمة اليونسكو للعمل في جامعة حلب، لوضع مخطط المشفى الحديث الذي قرر إنشاءه. وافتتحه عام 1952 وكان أوّل مشفى عيني خاص في مدينة حلب. لم يُقبل أي من أولاده على دراسة الطب، وآثروا عليه الانسياق وراء الجينات الأخرى التي حملوها من والدهم الطبيب، الموسيقى وما ينبثق عنها من الرقص التعبيري والباليه. ولم يعودوا من البلدان التي اختاروها للدراسة والإقامة والعمل. ومن هنا تطرح فكرة الميراث، لا الميراث المالي العديم القيمة في حالتنا، بل الميراث العلمي والجهوزية لإكمال المسيرة العلمية ـ الطبية، ودفعها إلى مواقع أعلى وأخصب.
في الساعة التاسعة مساءً من يوم الأربعاء 21 مارس/ آذار 2001، مال رأسه، بتأثير النزيف الدماغي الحاد، على أوراق النسخة النهائية لمذكراته “مذكراتي” التي كان يراجعها، قبل تقديمها للمترجم الذي يتهيأ لنقلها إلى العربية. نقل على أثره إلى المشفى حيث أمضى آخر أيامه، وقد أصيب بشلل نصفي أيسر، تسبب له بصعوبة بالغة في النطق، لكنه بقي يشير لكل الآتين لزياته لكتاب مذكراته، وبعد ظهر الإثنين 26 مارس 2001 فارق الحياة.
وكأنها إيذان بنهاية حقبة، ارتفعت بأحلامها مع انفكاك الانتداب الفرنسي وتصاعدت برغائب مقيدة من خارجها، لبناء مستقبل الشعوب تتحرر من قيودها وتتعالى بعلومها، لكنها وصلت إلى حدودها، لا لتوقف مريب في القلب والدماغ، بل لارتطام قاس بصارمة حركة التاريخ ومزاجه الأسود.
العربي الجديد