صحافيو سورية من الخوف إلى اللجوء/ محمد أمين
لم يكن يتوقع غالبية الصحافيين السوريين أن ينتهي بهم المطاف “لاجئين” في بلدان، ربما لم يكن يخطر على بالهم قبل عام 2011 زيارتها، لا أن يقضوا بقية أعمارهم فيها “غرباء”… يتابعون أخبار وطنهم الدامية على مواقع التواصل الاجتماعي، أو شاشات التلفزة.
في منتصف آذار/مارس من عام 2011 كان الحدث الأهم في تاريخ سورية منذ نشأتها كدولة في عام 1920، حيث بدأت الثورة المنتظرة بعد عدة عقود من حكم استبدادي جفف منابع الحياة في سورية، ووأد الصحافة، وكمّم الأفواه، واعتمد صحافة الحزب الواحد التي بات جل اهتمامها تعويم ثقافة الاستبداد والرضوخ لـ “سيد الوطن”.
لم يستطع الصحافيون السوريون البقاء طويلاً على رصيف الحراك الثوري وهم يشاهدون المدنيين يسقطون قتلى برصاص قوات النظام وأجهزته الأمنية، فانخرط عدد كبير في الثورة متظاهرين ومنظمين للحراك وناطقين باسمه في وسائل الإعلام، فتعرضوا للقتل والاعتقال، فاضطروا لمغادرة سورية بدءًا من خواتيم العام الأول من الثورة إلى دول الجوار الجغرافي لسورية. بدأوا بتأسيس إعلام بديل عن إعلام النظام، ولكنّ ظروف عدد كبير منهم، وقلة فرص العمل الحقيقية، أجبرتهم على التفكير بخيارات الهجرة الى بلدان أوروبية، وخاصة عن طريق جمعية “مراسلون بلا حدود” التي مدت يد المساعدة لهم في تأمين فرص لجوء لهم، وخاصة في فرنسا.
يعزو الصحافي السوري حسين الزعبي أسباب هجرة صحافيين سوريين إلى بلدان أوروبية متعددة إلى “عدم وجود مؤسسات إعلامية تستوعبهم، وتوفر لهم الحد الأدنى من مقومات الحياة، حيث اعتمدت المؤسسات القائمة حاليا على الناشطين الإعلاميين الذين ظهروا خلال الثورة، وهذا كان له كبير الأثر السلبي على المشهد الإعلامي الثوري”.
ويرى الزعبي الذي غادر سورية إلى مصر أولا، ثم الأردن، فتركيا، حتى استقر به المقام أخيرًا في فرنسا، في حديث مع “العربي الجديد” أن عددا من الصحافيين السوريين رأوا أن أوروبا تمنحهم فرصة التحرك باتجاه أكثر من بلد، مضيفًا: ويمكن أن نضيف سببا آخر، وإن كان أقل أهمية لكن لا يمكن تجاهله بالمطلق، وهو حالة عدم الأمان بالمعنى الوجودي، حيث جرت حوادث اغتيال طاولت صحافيين سوريين في بلدان مجاورة لسورية.
ويوضح الزعبي أن الصحافي السوري في بلدان اللجوء ليس بأفضل حالاته، ويقول: إن كان وجودهم في أوروبا وفر بعض الأشياء الحياتية لهم، إلا أنه أدخلهم في متاهات أخرى لها علاقة باللغة، وبطبيعة الحياة الجديدة التي تفرض عليهم معطيات ومشكلات جديدة تتعلق بأسرهم وبأطفالهم. ويتوقع الزعبي أن يفكر أغلب الصحافيين الذين هاجروا بالعودة إلى سورية في حال استقرار الوضع الأمني فيها، حيث “القسم الأكبر منهم يمارس حياته بطريقة لا توحي بأن العودة هي خيارهم، وأغلبهم بدأ يؤسس حياة عائلية جديدة، إثر التزام أطفالهم بالمدارس الأوروبية”، وفق الزعبي الذي يختم حديث لـ “العربي الجديد” بالقول: “هم في طريقهم للاندماج بالمجتمع الأوروبي”.
من جهته، يرى الصحافي فؤاد عبد العزيز الذي كان من أوائل الصحافيين السوريين الذين استقروا في فرنسا أن الصحافيين الذين خرجوا من سورية، وخاصة ممّن كانوا ينتمون لمؤسسات صحافية رسمية “عانوا من التشتت والضياع، والاتهامات بالعمل مع النظام سابقا، إضافةً إلى أن الثورة السورية تميّزت بظهور ما يسمى المواطن الصحافي، والذي اعتمدت عليه وسائل الإعلام العالمية بتغطية الأحداث في سورية، في وقت لم يكن الصحافيون المحترفون قادرين على القيام بهذه المهمة، وهو مما زاد من تهميش هذا الصحافي”.
وتابع عبد العزيز بالقول: ظل هذا الصحافي بعيدًا عن العمل الإعلامي الثوري المباشر في بلدان الجوار السوري، حتى في الوسائل الإعلامية التي افتتحت باسم المعارضة، حيث ظلّ الاعتماد على المواطن الصحافي، والناشط الإعلامي لأسباب مادية تخص هذه الوسائل بالدرجة الأولى، فلم يبق أمام الصحافيين السوريين من خيار إلا الهجرة إلى بلدان أوروبية.
وبيّن عبد العزيز في حديث مع “العربي الجديد” أن أغلب الصحافيين السوريين الذين يعيشون في المغترب اليوم “هم بلا عمل، ولا تتم الاستفادة من خبراتهم بمحاربة الخطاب الإعلامي للنظام وهم أدرى به، وبمفرداته، موضحًا أنّ هناك أكثر من 100 صحافي سوري غادروا مؤسسات النظام الإعلامية، يتوزعون بين دول الجوار ومصر والدول الأوروبية، من يعمل منهم لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة، وهم يعملون على الأغلب بشروط الناشط الإعلامي، وليس الصحافي المحترف، وهو ما كان له انعكاسات كبيرة على خطاب الثورة الإعلامي، وفق عبد العزيز.
لم يكن حال الصحافيين السوريين الذين يمموا وجوههم شطر أوروبا سواء، حيث اضطر عدد لا بأس به منهم إلى اتباع طرق خطرة للوصول إلى أوروبا مغامرين بحياتهم وحياة عائلاتهم، وخاصة في صيف عام 2015 الذي شهد أكبر موجة هجرة للسوريين عن طريق البحر بـ “البلم” انطلاقا من سواحل تركيا على المتوسط ثم اليونان، فبلدان أوروبية مختلفة أبرزها النمسا وألمانيا والسويد.
يصف أحد الصحافيين الذين وصلوا إلى أوروبا عن طريق البحر رحلته في البحر بالقول: “منذ اللحظة الأولى التي صعدنا بها إلى “البلم” كان الأمر مخيفا جدا، خاصةً أنك تشعر بأنها غالبا قد تكون آخر رحلة. وأضاف حسام محمد: استمر هذا الشعور لمدة الدقائق العشر الأولى، خاصة وأنا أنظر إلى البحر تحتي يزداد عمقا وقتامة، ولكن بعد هذه المدة القصيرة بدأت أشعر بالارتياح النسبي لأن البحر كان هادئا، فبدا الأمر وكأنه رحلة بحرية أكثر مما هو مسألة مصيرية ومغامرة ربما تنتهي بالموت، ولكن بالرغم من ذلك بقى شيء من القلق يراودني كلما نظرت إلى الأطفال الموجودين معي على سطح هذا البلم الآيل للغرق بأية لحظة، وأسأل نفسي: كيف سأتصرف في حال غرقه”.
يشير محمد إلى أنه كصحافي تعلّم شيئًا مهمًا من رحلة الموت التي خاضها، وهو “أننا مهما حاولنا الحديث عن هموم الناس، والإحساس بمشاعرهم، لن نفلح إذا لم نعش الإحساس نفسه”. إثر وصوله إلى شواطئ اليونان، تابع محمد رحلته قاصدًا ألمانيا، حيث وصلها بعد أيام طويلة اضطر خلالها إلى السير طويلا على طرق وعرة، ولكنه يشكو من “الفراغ القاتل”، حيث لا عمل ينجزه، واصفًا حال أغلب الصحافيين السوريين في ألمانيا بـ “السيئ”، ورغم ذلك يرى أن أغلبهم لا يفكر بالعودة إلى سورية في حال استقرارها “كلهم يحاولون بدء حياة جديدة، والاندماج وتعلّم اللغة الألمانية من أجل ذلك”.
لم يقتصر لجوء الصحافيين السوريين على فرنسا وألمانيا، بل ذهب بعضهم الى أبعد من ذلك وتوغلوا أكثر في الشمال، حيث اختاروا السويد والنرويج دار مقام، ومنهم الصحافي الشاب، عمر السيد، الذي وصل استكهولم إثر رحلة بحرية خطرة من شواطئ ليبيا إلى الشواطئ الإيطالية قبل نحو عامين. وفي حديث لـ “العربي الجديد” أشار السيد إلى أن الصحافيين السوريين في السويد “يجدون صعوبة بإيجاد مكان لهم في البلاد بسبب حاجز اللغة”، موضحاً أن بعضهم وجد طريقه للعمل، أو الكتابة في مواقع إلكترونية تنشر باللغة العربية، فيما اتجه آخرون للبحث عن عمل جديد يناسب طبيعة البلاد، مشيراً إلى أن عدداً منهم يعمل في صحف ومواقع إخبارية عربية خارج السويد عن طريق المراسلة”.
“من الخوف إلى الغربة”، هذا هو حال عدد كبير من الصحافيين السوريين الذين توزعوا في أربع جهات المعمورة، زادهم الذكريات التي تساعدهم على احتمال غربة أُجبروا عليها من النظام الذي أفرغ سورية من نخبها على مدى سنوات الثورة التي تُشعل شمعة سادسة وهي أكثر إصراراً على تخليص سورية من الاستبداد، واستعادة حريتها، حيث لا ينتهي الخوف الذي يقود السوريين الى الغربة.
العربي الجديد