صناعة الشعب في مواجهة صناعة الطوائف
بكر صدقي
تتطلب الطائفية ما هو أكثر من الوجود الخام للطوائف. تصنع الطائفية بفعل فاعل لأغراض سياسية. من مصلحة النظم الاستبدادية تقسيم المجتمعات التي تحكمها شاقولياً وفق ما هو متوفر من مواد أولية: أديان ولغات وطوائف وروابط دم وغيرها. هكذا تقطع الطريق على احتمالات توحدها أفقياً في مواجهتها. ثورة الشعب على الاستبداد هي فرصة لهذه الوحدة، بل هي إمكان صناعة شعب.
ليس الشعب معطىً بديهياً، بل هو يصنع بالإرادة. هذان مساران متعارضان: أعني مسار صناعة الطوائف ومسار صناعة الشعب. يقف الاستبداد فوق الطوائف ويمعن في تطييفها ليمنع انبثاق الشعب، في حين أن وحدة الشعب تنبذ الاستبداد تعريفاً وتسعى إلى التخلص منه.
في سوريا غالبية سكانية من المسلمين السنة العرب، وجماعات أصغر حجماً من المسيحيين والعلويين والشيعة والاسماعيليين والدروز والكرد والسريان والشركس والتركمان والشيشان والأرمن وغيرها من الجماعات المتنوعة ثقافياً. لم تشهد البلاد احتكاكات طائفية على مدى تاريخ الكيان السوري الحديث. في أواخر السبعينات دشن ابراهيم اليوسف أول مجزرة طائفية في هذا التاريخ. تفيدنا الرواية المتداولة أن الضابط المذكور استفرد بطلاب الضباط من أصل علوي وقام بقتلهم في مدرسة المدفعية بحلب. ما زالت هذه المجزرة يكتنف تفاصيلها الغموض إلى اليوم. لا نملك رواية موثوقة لما حدث أو عدد القتلى أو الدافع وراء تلك الجريمة البشعة. رسمياً تم اتهام الإخوان المسلمين الذين ينكرون مسؤوليتهم عنها ويلقون بمسؤولية التمرد المسلح في الثمانينات على تنظيم الطليعة المقاتلة الذي انشق عنهم.
مهما يكن من حقيقة تلك المجزرة، فقد شكلت شرارة بدء حرب دموية شنها نظام حافظ أسد على الشعب السوري في عدد من المدن، دامت سنتين وانتهت بالقضاء التام على جماعة الإخوان المسلمين، وعلى كل المعارضة السياسية وعلى المجتمع. منذ العام 1982 وصاعداً دخلت البلاد في نفق معتم عناوينه الرئيسية دولة إرهاب بوليسي وفساد وفقر وعبادة الفرد وموت السياسة والاجتماع والثقافة جميعاً.
نخمِّن أن الدكتاتور العجوز ازداد انغلاقاً على نفسه منذ ذلك الوقت، وتفاقم شعوره بفقدان الشرعية. فبعدما انقلب على حزب البعث الحاكم منذ 1963، ففقد الشرعية الثورية المنبثقة من نظام 8 آذار البعثي، أحس في أزمة 1980 – 1982 بالأرض تميد من تحته حين أدرك أنه غير قادر على حجب انتمائه الأقلوي الذي طالما أقض مضجعه. أضف إلى ذلك منبته الريفي المتواضع الذي سيعوِّضه بالسطوة العسكرية، من غير أن يحظى بشرعية الطبقات العليا التقليدية من إقطاعيين ووجهاء مدن.
تفيدنا هذه اللوحة في تفسير اعتماد الدكتاتور المتصاعد على الرابطة الطائفية الموثوقة في توطيد أركان سلطته الاستبدادية. أفترض أن حافظ أسد كان الشخص الأكثر يقيناً بعدم استحقاقه حكم سوريا، فقط لأنه ليس من الأكثرية السنية. وفي الوقت الذي تقبلت البورجوازية السنية وجوده في سدة الحكم بلا أي عقد طائفية، كان هو يتشكك في شرعيته من منطلق وعيه الأقلوي. نلمس بعض دلائل هذا “الوعي الشقي” في أدائه فريضة الحج (وسيحذو حذوه كل من شقيقه رفعت وابنه البكر باسل) وإطلاقه لورشة كبيرة لبناء الجوامع في طول البلاد وعرضها (من الجيب السعودي) وإلغائه لأي خصوصية مذهبية أو ثقافية للطائفة العلوية في الفضاء الاجتماعي العام، فلم تنتشر اللهجة العلوية في الثقافة والإعلام بصورة واسعة واستفزازية إلا في عهد الأسد الابن الذي اتسم بجشع الفساد ووقاحة الغلبة العصبية (في حين بدت أفلام عبد اللطيف عبد الحميد الأولى نشازاً في المشهد الثقافي السوري في عهد حافظ، بل إنها كانت نوعاً من التمرد على الكبت)
هذا الوعي الشقي بالانتماء الأقلوي وفقدان الشرعية هو ما سيدفع حافظ أسد إلى مزيد من تشديد القبضة الأمنية ومزيد من علونة الأجهزة الأمنية التي اعتمد عليها في استدامة حكمه. وأبقى الدكتاتور الراحل على جرح الثمانينات مفتوحاً ولم يبادر إلى طي تلك الصفحة السوداء، مدفوعاً بالهواجس الأقلوية ذاتها. هنا نجد التعريف الأنقى للطائفي: هو من يرى إلى العالم من منظاره الطائفي، ولا يرى حوله غير طوائف أخرى معادية ومشحونة بالكراهية ضد طائفته بالذات. هذا ينطبق على الجماعات الأقلية المسكونة بالخوف من الأكثرية، مع أنه هناك أقليات أخرى لا تكابد هذه الهواجس إما بسبب اندماجها الوطني أو لأنها لا تكابد مشاعر ذنب ناجمة عن التورط في ارتكابات طائفية ضد الجماعات الأخرى.
استخدم الأسد الأب مجزرة مدرسة المدفعية وحرب الثمانينات بصورة عامة لتغذية النوازع الطائفية الأقلية لدى العلويين. ومع ديمومة حكم العائلة الأسدية تحول الشعور بالمظلومية التاريخية تدريجياً إلى شعور بالامتياز والوجاهة، بصورة خاصة في عهد بشار الأسد. سطع نجم علي الديك وامتلأت الشاشة الصغيرة بنماذج ورموز ثقافية لطائفة الرئيس، الأمر الذي تَوَّجَهُ مشهد المطرب المشهور جورج وسوف وهو يركع أمام رامي مخلوف ليقبل قدميه. بموازاة ذلك شاعت ثقافة الترفع لدى العلوي النمطي في نظرته إلى السني “المتخلف المتعصب” كما لو أننا أمام انقلاب في الأدوار الاجتماعية: العلوي الهامشي في الجرود البعيدة الذي طالما شعر بالإذلال “الحضاري” أمام ابن المدينة “السني المتحضر”، أصبح سيد البلاد ومعيار “تحضرها” في مواجهة “السني المتخلف” الملتحي والسنية المتخلفة المحجبة..
منذ انطلاق ثورة الحرية والكرامة من مدينة درعا، عمل النظام بكل ما يملك من مخزون تجاربه في سوريا ولبنان لإشعال فتنة طائفية تحرف مسار الثورة في الوجهة التي تخدم انتصاره وديمومته. فشلت محاولاته المفضوحة في اللاذقية وحمص. لكنه حقق نجاحاً في تحييد الطائفة العلوية أولاً وفي توريط قسم كبير منها في حربه الدموية على الشعب ثانياً. ورطهم أكثر وأكثر في قطيعة تامة مع سائر الجسم الوطني. وها هو يتوِّج جهوده هذه بارتكاب المجازر الطائفية المروعة في بابا عمرو وكرم الزيتون والحولة والقبير ومعرة النعمان وغيرها، على أمل استدراج ردود فعل مقابلة.
لا شي يضمن عدم انزلاق البلاد إلى حرب طائفية مدمرة. وكلما طال أمد الصراع كلما ازدادت فرص هذه الحرب، خاصة وأن سوريا قد تحولت إلى ساحة مكشوفة للصراع السني – الشيعي الممتد من إيران إلى لبنان والعراق ودول الخليج وتركيا.
الخلاصة: ليست لدينا في سوريا مشكلة طائفية، بل “مشكلة علوية” شرط نجاحنا في حلها هو إسقاط النظام وبناء دولة ديموقراطية تعددية مدنية تستوعب الغنى الثقافي للمجتمع السوري.