العجز الديموقراطي في العالم العربي وسيطرة الحكم الأوتوقراطي
الثروات أبقت دول الخليج على حالها والثورات تحولت قمعية لدى “التقدميين”
ابرهيم حيدر
طرحت الاحتجاجات والتظاهرات والانتفاضات في عدد من الدول العربية، لا سيما في مصر وتونس وليبيا والجزائر والاردن واليمن، ودول أخرى بدرجات متفاوتة، مسألة العجز الديموقراطي في العالم العربي، وعدم القدرة على التغيير الإيجابي نحو ممارسة ديموقراطية تسمح باحترام الآخر وتؤمن حرية الرأي والتعبير وتشكيل الاحزاب السياسية. ولأن المدخل الى الديموقراطية يكمن في بناء مؤسسات دستورية للدولة وهيئات منتخبة، فإن ثباتها لا يتم الا من خلال اعتبارها غاية في ذاتها، وليست وسيلة للوصول الى السلطة أو للسيطرة عليها، لنعود مجدداً الى الدوامة عينها ما بين الأنظمة والمعارضة.
وما بين الانفجار الشعبي، الذي وصل الى الشارع في عدد من الدول العربية، وبدأ يحدث تغييراً لا يمكن تحديد مساحته أو أفقه الى اليوم، وبين تشبث الأنظمة بالحكم للمحافظة على سيطرتها ومكتسباتها، يبرز العجز الديموقراطي في عدم القدرة على الاستجابة لما تتطلبه الديموقراطية من قواعد أساسية للتغيير، ما يشير الى ان منطقتنا تحتاج الى الكثير للانتقال الى الحداثة والديموقراطية حتى تستقيم العلاقة ما بين المجتمع والحكم أو الدولة، الى الخروج من معادلة تأبيد السيطرة على السلطة.
وعلى وقع التحركات الاحتجاجية في عدد من الدول العربية، والتي تسلط الضوء على عجز الديموقراطية، يفسر كتاب صادر حديثا في بيروت عن مركز دراسات الوحدة العربية العجز الديموقراطي في العالم العربي، من خلال دراسة عابرة للبلدان، تشمل معظم الدول العربية، وتستند الى نموذج موسع لمفهوم الحداثة، ودراسات معمقة لحالات ثماني دول عربية (الاردن، لبنان، سوريا، الخليج العربي، الجزائر، العراق، مصر، والسودان) وتتخذ من هذا النموذج نقطة انطلاق.
الاستقلال والديموقراطية
لم تبرز الديموقراطية كقضية سياسية في البلدان العربية إلا كمسألة محتملة بعد نيل الاستقلال . ومع ذلك، وباستثناء لبنان، وحالات مبكرة منعزلة للمحاولات الديموقراطية التي لم تعمّر طويلاً، فإن النظم السياسية العربية، منذ استقلالها، تميزت عموماً بأشكال مختلفة من الحكم الاستبدادي، رغم النمو الملحوظ في متوسط الدخل الفردي والتعليم.
وتبرز في هذا السياق معضلة عدم استعداد الفئات الحاكمة للدمقرطة، بسبب خشيتها من فقدان السيطرة السياسية، وهذا ما يحصل في البلدان التي تشهد احتجاجات متنوعة. فالفئات الحاكمة التي تقوم انظمتها على الاستبداد، لا تقبل بالاحتكام الى ممارسات الديموقراطية تحت ذرائع واهية، من بينها الخوف من استيلاء الحركات الأصولية على السلطة أو دخول البلاد في الفوضى، فيما يتبين أن السبب الرئيس هو الخشية من فقدان السيطرة وتبدد امتيازاتها.
ويمكن القول، وفق الباحث عبد الوهاب الأفندي، أن السبب الذي يفسر بقاء الشرق الأوسط على نفور من الديموقراطية، هو نفسه الذي يفسر أيضاً نفوره من نشوء طبقة بورجوازية مستقلة ومؤثرة. فالبورجوازية المحلية مطبوعة بطابع بيئة الحرب التي نشأت فيها، إذ بينما تتصرف الدولة كـ”عصابة ابتزاز”، وتدير الاقتصاد كما لو انها في حال حرب مع الأقسام المهمة من المجتمع، فسيترتب على البورجوازية أن تتكيف وتنضم الى المبتزين، أو المستبدين أو أمراء الحروب، وإلا، فلا امل لها. فالدولة، في معظم البلدان العربية، تتحكم بالاجراءات الاقتصادية لتحقيق غايات سياسية. ولذلك نرى ان النخبة الحاكمة في المنطقة حاولت ان تستولي مسبقاً على الثورة البورجوازية المنتظرة، من طريق هندسة ثورة “بورجوازية” من صنعها. فالنخب العربية ، إذ تحاكي النموذج الذي تطور في الخليج، باشرت هي نفسها مخططات بارعة للخصخصة. فالدولة نفسها الآن تخصخص لتصبح حكراً للأسر الحاكمة وحلفائها من الأحزاب السياسية الحاكمة. وقد شرعت النظم في المنطقة في احياء واستغلال البنى الاجتماعية التقليدية، كالعشائر والقبائل والطوائف والأعيان الريفيين وأرباب العائلات، في سعيها لتقوية قبضتها على السلطة وتحقيق المزيد من التهميش للمثقفين المتمردين، مصدر معظم المعارضة لتلك الأنظمة. كما لجأت المعارضات أيضاً الى تعبئة الطائفية والنعرات العشائرية والاتنية لمواجهة تلك السياسة، مما أضعف آليات التضامن والدفاع التي يتيحها المجتمع المدني الحيوي.
مصر ومصيدة الحكم الأوتوقراطي
قبل ان يسقط النظام المصري بتنحي الرئيس حسني مبارك لمصلحة الجيش الذي يدير البلاد في المرحلة الانتقالية، يطرح أحد بحوث الكتاب مشكلة التعثر الديموقراطي في مصر واستمرارها دولة أوتوقراطية. ومن التفسيرات لعدم تمكن مصر من المحافظة على إجراءات اللبرلة التي اتخذتها الدولة في ستينات وسبعينات القرن الماضي، والانتقال الى تشديد قبضتها السياسية، سياسة إهدار التصنيع وأزمة التوزيع في مصر، دور الدولة، مواقف مجموعات المنظمين من اللبرلة السياسية، الخوف من الاسلاميين، وتواطؤ القوى الخارجية مع النظام الأوتوقراطي.
في المقابل، كان رجال الاعمال المصريون يدعمون الحكومة المصرية والحزب الحاكم، وبدلاً من أن تكون البورجوازية الصاعدة في مصر عاملاً للدمقرطة، أدت بالفعل دوراً اساسيا وقويا لدعم النظام الأوتوقراطي. ومن هذا المنطلق عمل الرئيس حسني مبارك والمجموعة الحاكمة على تعديل الدستور لمنع قوى أخرى عن الوصول الى الحكم والفوز في الانتخابات، في وقت كانت الولايات المتحدة والدول الغربية تتغاضى عن تدهور سجل الحكومة المصرية في حقل حقوق الانسان. وتثبت حالة مصر ان المستويات الاعلى لدخل الفرد، ومستويات المعيشة عامة، لا تتماشى بالضرورة مع العملية الديموقراطية.
ولا شك في ان علاقات المصلحة المتبادلة ما بين مجموعات رجال الاعمال والمسؤولين الحكوميين، مهمة تماماً بالنسبة الى فهم أسباب التقدم البطيء نحو الديموقراطية في العديد من البلدان العربية. فبناء العلاقات الوثيقة مع مسؤولي الدولة هو أمر مهم لمراكمة الثروات والمحافظة عليها. وهذه المجموعات هي جزء من النخبة السياسية في العديد من البلدان العربية، لا سيما في مصر، حيث نشط أقارب الشخصيات الكبرى من النخبة الحاكمة في حقل الاعمال. فلماذا ينبغي على هؤلاء ومجموعات المنظمين تغيير نظام سياسي ليسوا هم من كبار المستفيدين منه فقط، بل هم ممثلوه البارزون أيضاً؟
دعائم الحكم الأوتوقراطي في سوريا
يبدو العجز الديموقراطي في سوريا اكثر حدة. ولأن التغيير الذي حدث في مصر جعل النظام يعيد بعض حساباته الداخلية، برغم الاختلاف ما بين تركيبة النظامين، الا أن أوجه الشبه قائمة في بعض القضايا الرئيسة للحكم. ويبدو، وفق تحليلات الكتاب عن سوريا، ان خطوات الاصلاح الاقتصادي أعاقها ولاء مجتمع رجال الاعمال السوري للنظام. فمشاركتهم مع أعضاء مؤثرين من النظام في النشاطات المدرة للريع (نفط، تجارة خارجية، هواتف محمولة…)، جسد تأييد ذلك المجتمع للنظام الاوتوقراطي وعمل على تعزيزه، وهو ما يعكس اهتمامه الضئيل بالتطور الديموقراطي للبلاد. وقد فشلت الاصلاحات بسبب غياب دعم مجتمع رجال الاعمال.
ويستخدم النظام في سوريا الحاجة الى الامن كذريعة لإسكات المعارضة، كما أن حال الطوارئ المفروضة منذ العام 1963 ما زالت قائمة للمحافظة على الاستقرار السياسي والأمن الوطني، وفق ما يقال.
وفي الواقع، قاد احتكار الحزب الحاكم في سوريا، كل القرارات الأساسية للقطاع العام، الى قيام منهجية فساد منظمة. وبسبب معاناة الجيش والنظام القضائي انخفاض الرواتب، أخذا يضعفان امام مؤثرات الفساد.
ويظهر أن وضع سوريا من ناحية الديموقراطية سيئ جداً، وفقاً لمؤشر نظام الحكم. وبرغم الانفتاح المتردد اقتصاديا وسياسيا، فإن نظام الحكم بقي اوتوقراطياً الى حد بعيد. وقد تجنب المعارضون السياسيون والمدنيون في داخل سوريا الاتصال بالقوى الغربية، بسبب خوفهم من مضايقات كبيرة، عدم ثقتهم بالموقف الغربي الذي يظهر لبساً تجاه النظام.
ويستنتج الكتاب ان بناء المؤسسات الاقتصادية وتعزيزها في سوريا يضعانها على طريق نحو الديموقراطية أكثر ثباتا من ممارسة اي ضغط مباشر أو غير مباشر، لإجبار نظامها على تغيير سلوكه.. فالضغط الخارجي الذي مورس على سوريا، لم يكن له، حتى الآن، سوى نتائج عكسية. واذا أخذنا في الاعتبار قوة النظام الراهنة والرهانات المستقبلية المختلفة، وضعف المعارضة، والتفضيل الشعبي السوري لـ”الشيطان” المعروف على “الشيطان” غير المعروف، كما يقال، فلا يبدو من المحتمل، إن لم يكن من المستحيل، تحقيق التغيير الديموقراطي السلمي ما بين ليلة وضحاها. ولذلك فنظام البعث الذي امسك بالسلطة واستولى على الدولة منذ السبعينات ما زال يحكم سوريا بقبضة قوية، وقد تمكن من ذلك عبر نظام القيادة والتحكم، إذ تتعرض أي معارضة مسيئة للنظام لأشد العقوبات.
الجزائر… تجربة الإصلاح المعوقة
برغم الاصلاحات السياسية التي حدثت في الجزائر، وتركزت على تحويل النشاط السياسي من الاحتكار الذي كانت تمارسه جبهة التحرير الوطني الى نظام موجه متعدد الحزب، فإن العملية الانتخابية لا تزال غير عادلة وغير شفافة، اذ ان المشاركة والتعددية ما زالتا ضعيفتين جداً.
ويتضح من تحليل المؤسسات السياسية في الجزائر، ان دور التنمية الاقتصادية والاجتماعية في الدمقرطة، لا يمكن فهمه بمعزل عن الحوادث السياسية وارادة النخبة لإدخال الاصلاح. فالتنمية الاقتصادية والاجتماعية تزيد فقط الطلب المحتمل على الحريات الانسانية. وهذه الطلبات تلبى عادة بعرض يتحرك في شكل بطيء، وهو ما يكون “صفقة استبدادية” ما بين المواطنين والنخبة الحاكمة، إذ تتم مبادلة الحريات بالمنافع الاقتصادية. وتتم المحافظة على هذه الصفقة بواسطة نظام معقد من المنافع (العلاقات الزبائنية)، القمع، اعتمادا على حجم الريع الذي ينبغي توزيعه.
وفي الاستنتاجات، ان الوضع الاقتصادي المريح في الجزائر، وعدم وجود دين خارجي حالياً، والاحتياطات الكبيرة من العملات الأجنبية، وضآلة أو انعدام الضغوط الغربية، وما هو أهم، عدم رغبة النخبة الحاكمة في دفع عملية الديموقراطية الى الامام، فإن الانكماش الديموقراطي في الجزائر، قد يستمر حقبة طويلة. لكن مفتاح العملية الحقيقية للدمقرطة في الجزائر، والذي يمكن ان يقلب هذا الاتجاه، يكمن في وقف عملية المواجهة ما بين النخبة والمواطنين، من خلال بناء المؤسسات السياسية والاقتصادية القوية والجديرة بالثقة، لمحاربة الفساد وتهدئة الاضطراب بين النخبة والمواطنين.
تفسير نظم الحكم في الخليج
يعتبر الصراع القائم في البحرين، من أكثر الهواجس التي تقلق دول الخليج الست. فالبحرين والكويت وسلطنة عمان وقطر والعربية السعودية والامارات العربية المتحدة، تملك أعلى مستوى معيشي في الوطن العربي، ومع ذلك فهي أكثر النظم أوتوقراطية. فلم تؤد ثروة الخليج المتراكمة الى الديموقراطية، كما لم تؤد، في المقابل، التنمية الاقتصادية في منطقة الخليج الى قيام أي ضغوط اجتماعية وثقافية مهمة للسير في عملية الدمقرطة، رغم المستويات المرتفعة للتحضر والتعليم والتخصص المهني.
وتظهر المعطيات والتحاليل والمؤشرات، وفق الكتاب، ان بلدان الخليج ليست فقط بلداناً أكثر أوتوقراطية من غيرها، بل انها لم تشهد سوى تغير طفيف في مؤشرات نظام حكمها. لكن بلدان الخليج ليست كلها اوتوقراطية بالدرجة نفسها، فلم تتغير المؤسسات السياسية في البحرين وعمان الا بعد العام 1990، فيما قادت المحاولات الديموقراطية، منذ منتصف السبعينات في الكويت، الى نظم أقل اوتوقراطية، خصوصاً بعد الغزو العراقي لها في العام 1990.
وفي الاستنتاجات، إن نظام الحكم في بلدان الخليج، بخلاف البلدان العربية غير الخليجية، لا يمكن تفسيره كلياً بمتغيرات التحديث، والتاريخ الاستعماري، والدين ودرجة التماسك الاجتماعي، والنفط والحروب الاقليمية. ومع ذلك تبدو الكويت كاستثناء، فالحروب الاقليمية تفسر نظام الحكم في الكويت، وان الحروب الخارجية العربية كان لها تأثير ايجابي في اللبرلة السياسية.
واذا كان الحلف السياسي الديني أساس نظام الحكم في السعودية، فيما عزز النفط سلطة الحكام في دول الخليج كلها، فإنه كان بارزاً استجابة الكويت والبحرين لمطلب المعارضة في كل منهما، بتكوين مجلس اشتراعي. وقد كانت صلاحية المجلس محدودة في البحرين، فيما كانت نسبية في الكويت.
وقد ربط تواصل الحكم الأوتوقراطي في بلدان الخليج بالنفط الى حد بعيد. فوجود أكبر الاحتياطات العالمية من النفط في هذه البلدان منحها القدرة على شراء سكوت سكانها في مقابل برامج الرفاه، وكذلك قمع المعارضة عن طريق نفيها وترحيلها او استعمال القوة في نهاية المطاف. لكن جذور تواصل نظام الحكم الأوتوقراطي تعود الى السنوات التكوينية لبلدان الخليج.
بلدان مضطربة
تحولت النظم الثورية نظماً ديكتاتورية عسكرية أدارت ظهرها لبرامجها، كما حدث في مصر وسوريا والعراق بعد الثورة. وقد فشلت هذه النظم في منح الأولوية المطلوبة للحريات الديموقراطية، أو على الاقل إظهار الاحترام المطلوب للحقوق السياسية والمدنية. وهكذا بدا من المتعذر تمييز القمع الذي مارسته النظم “التقدمية” في مصر وسوريا والعراق عن القمع الذي مارسته النظم الملكية في المغرب والعربية السعودية والأردن.
في حال الأردن، إن قدرة النظام الملكي على التغلب على العواصف السياسية والاقتصادية المختلفة التي تعرض لها من خلال فرضية نجاحه بإضعاف المعارضة الممأسسة لحكمه، قامت بالاعتماد على توزيع المكاسب والامتيازات لخلق قاعدة دعم متماسك وجهاز أمن يدين بالولاء للنظام السياسي القائم.
وقد أدار الملك الأردني بدهاء هذه القاعدة لإبقاء مختلف أقسام المجتمع في حال من التنافس الشديد على المكاسب والامتيازات. ومن المؤكد ان البنية الاجتماعية الاردنية اشتملت على مكون واحد “متماسك” نسبيا من مكونات قاعدة السلطة، أي الاردنيين من القبائل البدوية وغير البدوية الذين كانوا يشكلون الجيش وجهاز الامن باستمرار.
وبذلك يستمر الحكم الاوتوقراطي في الاردن، مع ان تطور درجات الحرية يبدي اتجاهاً متقلباً. لكن يبدو النظام قادراً على شق المعارضة واضعافها وكسب دعم النخب في مختلف شرائح المجتمع (القبلية والاتنية والدينية) عبر اقناعها بأن مصالحها ترتبط في شكل حيوي ببقاء النظام، وبأن ذلك بدوره يتطلب دولة مركزية أقل ديموقراطية.
أما في لبنان، ووفق بحوث الكتاب، فإن نموذج الديموقراطية التوافقية كان يهدف الى ضمان درجة عالية من الممارسات الديموقراطية. لكن النموذج عانى نواقص كبرى من الناحية العملية، فاللاعبون السياسيون الكبار، وهم ذوو توجه طائفي في الغالب، فشلوا في بناء مؤسسات وطنية قابلة للاستمرار وذات تطلعات الى المستقبل. ونتيجة لذلك، تعرضت الحياة السياسية لهزات كبيرة مزعزعة للاستقرار الداخلي، غذّاها التداخل ما بين الطائفية والمؤثرات والتدخلات الخارجية الداعمة لعدم الاستقرار.