صفحات الرأي

الانهيار والانحطاط: العرب بين «البرابرة» والزيني بركات/ حسام عيتاني

 

 

لعل حالتين كبيرتين تعمّان الدول العربية بعد ست سنوات ونيف على الثورات المجهضة والمغدورة: الانهيار والانحطاط.

يجوز تشبيه الفوارق القائمة اليوم بين الدول هذه بالفوارق بين حالتي الانهيار والانحطاط. فالأولى، تعني تفكك أوصال الكيان السياسي واضمحلال المركزية بمعانيها الاقتصادية والسياسية والثقافية، وتراجع تركيبة المجتمع إلى سوية أقل تطوراً من السابق، إضافة إلى صعود النزعات الجهوية والطائفية والعودة إلى البنى الاجتماعية القديمة المستندة إلى نظام القرابة، كملاذات آمنة في مواجهة تحديات قاهرة كالحروب والمجاعات والغزو الخارجي واختفاء وظائف الدولة أو السلطة، تظهر جلياً في عدد من الدول العربية كان أولها انهيار العراق تحت وطأة الغزو الأميركي في 2003 وانكشاف تجوف دولة البعث وخوائها وارتكازها على عنصر العنف كتعويض عن الفشل المتمادي في أداء كل الوظائف المفترضة بها، منذ بدء الحصار الخارجي على الأقل، في 1990 على أثر احتلال الكويت.

تبعت سورية واليمن وليبيا العراق إلى الانهيار، بفعل عنف السلطات وانفجار التناقضات الداخلية والتدخلات الإقليمية والدولية. وما زال المشهد شديد السواد في تلك البلدان. ولا تقف حدود التناقضات والتدخلات عند حد معين. ذلك أن الانهيار عملية طويلة ومتشابكة العناصر لا يصح حصرها في عامل واحد حتى لو كان الأبرز في التناول اليومي والإعلامي، على غرار دموية السلطة الحاكمة التي تقابل مطالب الإصلاح.

بيد أن متابع الأحوال العربية في العقود القليلة الماضية لا تفوته ملاحظة تراكم عوامل الانهيار وتضافرها، ما أفضى إلى اللوحة المشار إليها أعلاه. فإلى جانب النظام السياسي القمعي والدموي، عانت هذه البلدان من عقود طويلة من سوء إدارة الثروات (يتداخل هذا العامل مع فشل النظام السياسي) والانفجار السكاني (خصوصاً في سورية واليمن) وتدمير البيئة (تجفيف الأهوار وإبادة غابات النخيل في العراق، ما جعل العواصف الرملية حالة شبه دائمة، وسيطرة زراعة القات في اليمن وما ألحقه ذلك من استنزاف لمخزونات المياه الجوفية) واتسام الفقر بسمة الديمومة، ما سهل على السلطات استغلال الحاجة الماسة للمواطنين إلى الدخل كأداة في تجنيد المؤيدين الخ…

جرى ذلك في سياق جمع السلطات العربية ما لا يجتمع: تضخيم جهاز الدولة كوسيلة لتطويع المجتمع وإخضاعه من جهة، ومركزة رأس المال وإطلاق سياسات نيوليبرالية يتولى إدارتها أفراد «العصبية» الحاكمة. تنطوي هذه السياسة على وصفة سامّة أكيدة، حيث يفترض «مبشرو» النيوليبرالية أن المهمة الأولى لنجاح نظريتهم هي تقليص جهاز الدولة وبيروقراطيتها وكافة أوجه الإنفاق العام وتقليص الضرائب، في سبيل فسح المجال أمام رأس المال كي ينطلق من دون عوائق حكومية أو شعبية. واحد من التناقضات التي شهدتها العقود الأربعة الماضية في العالم العربي كان محاولة جمع تضخيم الدولة (بتعبير الراحل نزيه الأيوبي) لأهداف سياسية وأمنية، وإفلات الأقليات الحاكمة لرأس المال من الضوابط الدولتية أو الاجتماعية. أسفر هذا التناقض عن إيجاد فئات تتزايد عددياً من المهمشين من جنات الاستهلاك ومن نعيم السلطة في آن. لا ينطوي ما تقدم على أي دفاع عن سياسات النيوليبرالية التي أدت إلى مصائب من صنف مختلف.

جاء تجاوب المجتمعات العربية مع هذه التحديات شديد التباين بين بلد وآخر. لكن التجاوب هذا لا يخرج من إطار تاريخي عام شهد حالات مشابهة في الانهيار والانحطاط.

يمكن هنا التذكير بعملين بحثا في هذه الظاهرة وعملا على وضع القانون العام للانهيار الاجتماعي (أو المجتمعي) إذا جاز التعبير، ونال واحد منهما شهرة واسعة فيما ظل الآخر حبيس الدراسات الأكاديمية. الأول هو «الانهيار: كيف تختار المجتمعات الفشل أو النجاح» لجارد دايموند (وصدرت له ترجمة عربية)، والثاني هو «انهيار المجتمعات المركّبة» لجوزف تاينتر. حقق الأول انتشاراً عريضاً وتضمن ما يشبه دراسات مفصلة لحالات انهيار مجتمعية عدة من مزارعي ولاية مونتانا الأميركية إلى جزيرة الفصح وحضارة المايا ومجتمع الفايكنغ في غرينلاند وصولاً إلى الإبادة في رواندا وغيرها. تعرض دايموند وكتابه (إضافة إلى مؤلفه السابق «أسلحة، جراثيم وفولاذ» الذي حاز على جائزة بولتيزر) لنقد قاس من الأوساط الأكاديمية والناشطين السياسيين بسبب تبنيه مقولة «الحتمية البيئية» من جهة، ولاعتباره أن المجتمعات «تختار» الفشل أو النجاح بما يحيل إلى تحميل المجتمعات حمل وعي ناجز قادر على إدراك عواقب أفعالها وخياراتها.

في المقابل، ركز تاينتر على تحليل موضوعي لحالات الانهيار التي أوجزها في الفصل الأول، مقدماً وصفاً للأحوال التي تلاحظ فيها السلطات المشكلات العميقة التي تواجهها وتعمل على حلها من خلال إنشاء المزيد من الهياكل البيروقراطية والإدارية ورفع درجة التركيب والتعقيد بالتالي، في المجتمع والدولة وصولاً إلى المجتمع المركّب الذي قد لا ينجو، على رغم كل ما يُتبنى من حلول، من الانهيار في نهاية المطاف، على ما حصل مع الإمبراطورية الرومانية. ويشير إلى أن غزوات «البرابرة» (بحسب لغة الرومان) لم تكن سوى الضربة الأخيرة التي أدت إلى القضاء على الجناح الغربي من الإمبراطورية الذي عاش مئات الأعوام من الانحطاط والتدهور لأسباب داخلية، اقتصادية واجتماعية، فيما أفضى وجود عدو خارجي مثلته الإمبراطورية الساسانية الفارسية إلى تنشيط قدرة الجناح الشرقي للامبراطورية (التي عرفت لاحقاً باسم بيزنطة) على الاستجابة ورد التحدي.

في ما يتعلق بالانحطاط، الوجه الآخر للحاضر العربي الذي يمكن رصده في لبنان ومصر، على سبيل المثال، حيث فشلت تجارب التغيير السياسي وعادت الدولتان إلى أساليب الإدارة القديمة المستنفدة والمتهالكة، لأزماتها العميقة والبنيوية، فيمكن الحديث عن ركود في الممارسات السياسية التي تقاوم التبدلات العالمية الكبيرة بمحاولة البحث عن أعداء داخليين وخارجيين، حقيقيين أو متوهمين، نظراً إلى وعيها لاستحالة مباشرة الإصلاح الجذري من دون أن يؤدي هذا إلى انهيار كامل للدولة والمجتمع.

يعيد ذلك إلى الذاكرة رواية «الزيني بركات» لجمال الغيطاني، حيث يجهد بطل الرواية في اكتشاف أعداء السلطان أو اختراعهم. لكنه لا يتردد في الانضواء في صفوف الأعداء فور أن يُقيّض النصر لهؤلاء. فالمهم، عند الزيني ومن يشبهه في عصرنا، استمرار السلطة في اجترار نفسها ومضغ عظام مواطنيها.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى