«طوائف» سوريا الثائرة
مشاري الذايدي
آخر شيء تحتاجه ثورة الشعب السوري المقهور هو أن يتم تلطيخها بالطائفية والأصولية.
هذا بالضبط ما يريد نظام بشار الأسد تكريسه وتجذيره، ردعا للأقليات في الداخل، ودول الغرب والشرق في الخارج.
من أجل ذلك ليت بعض وعاظنا وخطبائنا الدينيين يتحلون بقدر من الزهد في الإعلام هذه الأيام، ويكفون عن مناصرتهم الضارة للثورة السورية، أقول ذلك بعدما قال أحد هؤلاء المشاهير من الوعاظ مؤخرا بأنه تجب الثورة على بشار الأسد وقتاله، لأنه بالإضافة لكونه ظالما وقاتلا، «زنديق» دينيا!
ليتنا نسلم من مثل هذه المناصرات الضارة، و«ليتنا من حجنا سالمين» كما يقول المثل، القصة في سوريا ثورة من أجل الحرية وضد القمع والقهر الذي لم يوفر أحدا في سوريا.
في طليعة الثوار السوريين أناس قدموا الغالي والنفيس وخاطروا بالروح والمال، وسطروا كلمات من النبل والانحياز النقي للجانب المظلوم، وهو الشعب السوري، كيف لا وهم قطعة أصيلة من موزاييك هذا المجتمع السوري الجميلة.
مثلا:
خذ لديك: الأديبة سمر يزبك، الفنانة الشجاعة فدوى سليمان (ما زالت هاربة من أجهزة النظام، لكن ظهرت فجأة في ميادين حمص تهتف ضد الأسد)، منذر خدام، منذر ماخوس، محمد صالح العلي، وغيرهم، كل هؤلاء ينتمون اجتماعيا إلى الطائفة العلوية، التي يدعي النظام أنه يحميها ويصون مصالحها.
عندك أيضا أسماء مثل الكاتبة المبدعة ريما فليحان، صاحبة الموقف المبهر في وضوحه وشجاعته ووعيه، وأيضا منتهى الأطرش، ابنة سلطان باشا الأطرش، وفنان الثورة سميح شقير، صاحب الأغنية الشهيرة في مناصرة درعا: «يا حيف»، وغيرهم، كل هؤلاء من الطائفة الدرزية، وأبناء جبل العرب.
ومثلهم موقف الزعيم اللبناني الدرزي وليد جنبلاط الذي دعا إلى تسليح الثوار في سوريا وحذر أبناء الدروز في سوريا من الانحياز للنظام الأسدي القاتل، كما في حديثه لصحيفة «لوموند» الفرنسية.
غير الدروز، هناك مواقف أخرى للمسيحيين مثلا، لدينا الفنانة التي تحمل روحها على كفها، مي سكاف، التي وجهت رسالة حادة إلى زعيم الحزب الأصفر في لبنان، حسن نصر الله، طالبة منه كف شروره عن الشعب السوري، وكذلك فارس الحلو، وميشيل كيلو، وجورج صبرا، كل هؤلاء من المواطنين السوريين المسيحيين، الذين صنعوا، مع بقية السوريين، هذه الثورة التي يتآمر عليها الكثير شرقا وغربا.
ليس هذا وحسب، عندنا مشعل تمو، البطل الكردي السوري، في هذه الثورة، الذي اغتاله النظام، وحتى الطائفة الإسماعيلية شاركت في هذه الثورة، ويحدثني أحد الثقات حول الثورة السورية من الداخل، أن مدينة سلمية عاصمة الطائفة الإسماعيلية، شاركت في المسيرات والمظاهرات ضد النظام القمعي، بل وقدمت الدعم والمأوى والحماية لسكان الرستن حينما هربوا من آلة القتل الأسدية المجنونة.
هذا مجرد غيض من فيض، ونزر من نهر، يكشف بالدليل الملموس أن هذه ثورة «شعب» وليست ثورة طائفة معينة، ثورة تنطلق من مشاعر إنسانية بحتة قرفت من العيش في «المذلة»، يجسد هذه المشاعر الهتاف الرهيب للثوار السوريين: «الموت ولا المذلة». وهذا مطلب يستوي فيه بنو الإنسان، دون أدنى اعتبار لمحدد ديني أو عرقي أو جهوي.
المفارقة أن من يروج لطائفية الثورة، وأنها مجرد تعبير عن الأصوليين السنة، أو يقولون بصراحة فجة أحيانا، ثورة سنية، من يروج لهذا هم النظام الأسدي، وكثير من التيارات الأصولية السنية خارج سوريا، بحجة نصرة السوريين، في تلاق عجيب بين القمع والجهل!
النظام محتار من ديمومة هذه الثورة وتناميها، وهو يراهن فقط على إيجاد الشروخ المذهبية والاجتماعية داخل جسد الثورة، وهو محتار، حسب زعيمه بشار، في حساب الربح والخسارة، فحسب بشار الأسد، في تصريحاته الأخيرة عقب الاستفتاء الهزلي على دستوره الجديد، فإن نظامه قوي على الأرض، ومتمكن، لكن تنقصه السيطرة على الفضاء، يقصد الإعلام، لتنتهي المشكلة! هكذا في استهتار فاجر بحقيقة ما يجري على الأرض، فهو متمكن على الأرض، وهو يفهم التمكن هنا بمعنى أن قوته العسكرية غالبة وقاهرة، وهو صادق في هذا، فحسب صحيفة «وورلد تريبيون» الأميركية، الأحد الماضي، نقلا عن مصادر في النظام السوري، فإن «الرئيس بشار الأسد على الرغم من مرور عام تقريبا على اندلاع الانتفاضة السورية فإنه لا يحارب المنتفضين ضد حكمه إلا بقطاع واحد فقط من الجيش».
لكن ما فات على «الحكيم» بشار، أن: البعوضة تدمي مقلة الأسد! كما قالت حكمة العرب، التي ضيعها بشار فيما ضيع من شعارات العروبة الزاعقة.
ثم إن المشكلة ليست في أنه يملك قوات كثيفة وأسلحة فتاكة، فهذه ربما تنفع في الحروب النظامية، التي لم يقم بها الجيش السوري في عهد الأسد الأب منذ حرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973، لكن المشكلة هي في سقوط الشرعية من أعين الشعب، وحينما يكفر بك الناس من دواخلهم فلن تنفعك أسلحة الأرض كما لم تنفع غيرك ممن هم أكثر عددا وعتادا.
هنا مشكلة النظام حقا، مشكلة في عقله، كما هي مشكلة في عقل كثير ممن يتعاملون مع الثورة السورية، أو الأزمة السورية، هناك حالة تهريج أو قل تخليط، في مقاربة ما يجري في سوريا بالذات، وقد أربكت هذه الأزمة كثيرا من «ديناصورات» اليسار العتيد أو المعسكر المرحوم، معسكر «المقاومة والممانعة العربية» حتى ولو استفاد بعضهم من ثمار الربيع العربي في غير سوريا، وهذا ما يفسر طرفا من ارتباك موقف الرئيس التونسي «الثوري»، منصف المرزوقي، الأخير، فهو على الرغم من أنه أبدى تعاطفا «إنشائيا» مع الشعب السوري، فإنه تجاهل، و«مانع» كل حل عملي بتجاوز الشعارات إلى التنفيذ على الأرض، وعلى الرغم من أن دور المرزوقي والدولة التونسية كلها، غير مؤثر بشكل حيوي على مجرى الأحداث في سوريا، كما لاحظ الكاتب عبد الرحمن الراشد في عموده هنا بـ«الشرق الأوسط»، فإن هذا الارتباك يؤشر إلى معضلة التفكير العربي «النضالي» القديم إزاء إسقاط النظام السوري الذي كان تجسيدا مثاليا لترهات هذا الخطاب الإنشائي الفارغ.
ومثلما تاه كثير من مراهقي اليسار العربي والقومي (حتى لو كانوا شيوخا في السن!) في تقويم الوضع في سوريا، وشرقت بهم أوهام المؤامرات الدولية وغربت، شارك أيضا بعض الرموز الدينية، خصوصا الحركية، في المقاربة الخاطئة للأزمة السورية، من خلال الدخول لها من بوابة مناصرة «أهل السنة» في بلاد الشام، وهذا بالضبط ما يرغب فيه نظام الأسد، حتى يثبت لبقية الطوائف في سوريا، بل وحتى مجتمع المال والأعمال السني، والمثقفين المدنيين، أن هذا ما ينتظركم إن مضيتم مع هؤلاء الثوار المتطرفين دينيا.
أحوج ما يراد الآن هو تكريس الخطاب الوطني السوري الجامع، وعدم الانجراف خلف السيل العاطفي الغرائزي الطائفي، هذا هو الخطاب الذي يفقد النظام الأسدي قدراته المنطقية ويفرغ خطابه التخويفي من محتواه.
حسب بعض التقارير الأجنبية، ومنها تقرير «مجموعة الأزمات الدولية» الأخير، فإن هناك مخاوف حقيقية لدى بعض أبناء الأقليات الدينية في سوريا تجاه المستقبل، وقد صرح رجال دين من الطائفة المسيحية بهذه المخاوف، وهي مخاوف مبررة، ويجب الإصغاء لها، ولا ينزعج منها، ويجب على المعارضة السورية تقديم الضمانات النهائية والأكيدة على حماية وحدة الشعب السوري، وهنا ليت دولة مثل السعودية، أو دول الخليج مجتمعة، تنفتح على كل مكونات الشعب السوري، وطوائفه، بكل شفافية، وتقديم الضمانات لعدم وقوع سوريا في قبضة حكم أصولي متطرف، بعد الرحيل المنتظر لهذا النظام المسموم.
بغير هذا الطريق، وبغير هذه النفسية النقية، ستطول المعاناة وربما تثمر الثورة حنظلا بدل تفاح الشام الطيب.
الشرق الأوسط