يكشف الخارجون من سجون تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام “داعش” كثيراً من الحقائق عن بنية التنظيم الأمنية، وطريقة تفكيره، كما ينقلون بوضوح عن طبيعة الدولة التي ينشدها التنظيم، والتي تتنافى مع أبسط القيم الإسلامية والإنسانية على حد سواء. وقد عبّر عبد العزيز، أحد الخارجين من سجون داعش عن ذلك بقوله لموقع NOW إنّ “سجون التنظيم تمثّل ذلك العالم الشيطاني السفلي حيث لا مكان إلا للقيم السوداء”.
ولا يدرك غالبية الناس أنَّ التنظيم يحكم بالعقلية الأمنية، لا الإسلامية، وأنَّ الأمنيين هم من يرسمون الخطوط العريضة، والتفاصيل الدقيقة لدولة التنظيم، وليس أدلّ على ذلك من طرق الاعتقال وأساليب التعذيب. ويقول الشيخ عبد الحميد من ريف حلب الشرقي إنّ “ممارسات التنظيم بالاعتقال والتعذيب أبعد ما تكون عن الإسلام، فالخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه في زمنه أرسل رسالةً إلى عامله أبو موسى الأشعري يُبيّن له فيها أسس القضاء: وجوب توفّر الأدلة، والأصل البراءة ما لم يثبت العكس”.
ويقوم التنظيم بين الحين والآخر بحملات اعتقال جماعية، كان آخرها اعتقال عدد كبير من الشباب في قرية احتيملات في ريف حلب الشمالي خوفاً من تعاطفهم مع الثوار. وكان سبقها حملات اعتقال بحق الأكراد في منبج وجرابلس أثناء أحداث عين العرب. كما اعتقل التنظيم أول أيام عيد الفطر الماضي أكثر من سبعين شخصية عاملة في المنظمات الإنسانية والإغاثية، هذا عدا الاعتقالات الفردية. ويرى المحامي ياسين من ريف حلب أن “حملات الاعتقال العشوائية والجماعية تكشف العقلية الأمنيّة التي تسيّر التنظيم، فلا اعتبار لديه لقيم الحق، وتغيب عن هذه الحملات أبسط مبادئ القضاء، حيث يبقى الناس شهوراً دون تهمة”.
وما يلفت الانتباه عدم استثناء سجون التنظيم أي شريحة في المجتمع، سواء من الرجال أو النساء أو الأطفال. وكثيراً ما تكون الاعتقالات نتيجة وشايات كاذبة. إحدى السجينات لدى داعش قالت لـNOW إنها اعتُقِلت إثر “تقديم تقرير كاذب” ضدّها يتّهمها بأنّها تعمل ضد التنظيم وتتعامل مع الفصائل المعادية له وتنقل لهم أخباره. وقد سُجِنت بسجن مخصّص للنساء، وبقيت فيه أكثر من شهر. وأضافت: “في أحد الأيام تفاجأت بمسؤولٍ من التنظيم يزور السجن، سألني عن سبب اعتقالي، وطلب ملفي ليجد سبباً واحداً هو تلك الوشاية الكاذبة التي أفادت بعملي ضد التنظيم، ومكتوب فيها بالضبط “إنّ الأخت التي أخبرت الدولة عن عمالة المرأة وتعاملها ضد الدولة، هي ثقة”، وهنا غضب المسؤول لسجني دون دليل أكثر من شهر، وأُطلق سراحي باليوم التالي”، مشيرة إلى أن 9 سجينات كانوا معها في غرفة الاعتقال نفسها.
وفي السياق عينه، كان التنظيم قد اعتقل طبيبة الأسنان هدى محمد قبل شهور مع عدد من البنات بتُهمٍ متعدّدة، منها نشر أفكار تتناقض من الإسلام. المؤسف أنّ هناك عدداً كبير من السجناء منسيون في السجون دون محاكمة، وفق ما يقول علي أحمد الخارج من سجن للتنظيم في ريف حلب، وروى أن “أحد الأشخاص كان مسجوناً لأنهم وجدوا في قائمة الاتصال بهاتفه عبر تطبيق “واتسآب” أحد أصدقائه يضع صورة لرئيس النظام (بشار الأسد) وعلم الجمهورية السورية، فوُجِهت له تهمة موالاة الكفار، ولم يعرض على المحكمة منذ أربعة شهور”، ويخشى أهله غالباً مجرد السؤال عنه.
اللافت أنّ التنظيم يقوم بين فترة وأخرى بـ”تبييض” السجون بعد زيارة أمير كبير لها. ويقول المدرس صالح من ريف حلب الشرقي لـNOW إنّ “إخراج دفعات من المساجين هي إحدى حيل التنظيم، ومحاولاته لتجميل صورته القبيحة، فالتنظيم ينسى أنَّ هؤلاء اعتُقلوا بدايةً دون ذنب أو جرم”. ويرى ناشطون شبهاً كبيراً بين التنظيم والنظام السوري في هذه الناحية، ويرجع ذلك للعقلية الأمنية التي تحكم الطرفين.
وتختلف المعاملة داخل سجون داعش باختلاف التهمة. إذ ينهج التنظيم مع كل فئة سياسة معينة، وكثيراً ما يستثمر السجن لغرس أفكاره في عقول السجناء، وهذا ما حصل مع أطفال عين عرب الذين اعتقلهم التنظيم أثناء توجّههم لتقديم امتحان الشهادة المتوسطة في حلب. وقد ظهر في فيديو أحد الأطفال الخارجين من سجن التنظيم يتّهم الأحزاب الكردية بالكفر “لأنها تحارب إقامة شرع الله”، بحسب ما لقّنه التنظيم، ويدّعي أن داعش على حقّ فيما يقومون. وكثير من الأطفال والشبان يبايعون التنظيم مع خروجهم من السجن.
ولا يتعرض سجناء التهم المدنية للتعذيب، لكنهم يتعرضون فضلاً عن النسيان في السجن، وعمليات التدجين، لضغوط نفسية بقصد الإرهاب وإحداث صدمة نفسية. ويقول أحد المعتقلين سابقاً لدى التنظيم إن “السجن كان مزوداً بشاشة بلازما، تعرُض إصدارات التنظيم ومقاطع تنفيذ الإعدامات”. ويضيف المعتقل السابق في حديثه لـNOW: “لا نعرف إذا كانت هذه الخدمة متوفّرة لكل المساجين، ولكن كان لها انعكاسات رهيبة على نفسيّاتنا، حيث كنّا نشعر بتوتر رهيب، حتى بتنا نتخيل أنفسنا مذبوحين، ولا سيما بعد اعتقالنا فترة طولة دون تهمة ومحاكمة”، مشيراً إلى أن التنظيم نقل شابين إلى مهجع آخر حسب ادّعائه، لكنّ تبين لاحقاً أنهما ذُبِحا، وتم عرض مقطع فيديو.
وكان أطلق تنظيم الدولة منذ أيام قرابة 70 موظفاً من العاملين في المنظمات الإنسانية. ويعتقد المحامي أحمد من ريف حلب إن ” مسؤول السجن الجديد كان وراء إطلاق سراحهم”. وطبعاً لم يفعل هؤلاء السجناء شيئاً في غالبيتهم، سوى العمل الإنساني، وهم من المنظمات الأجنبية والجمعيات الإنسانية.
أما السجناء الأمنيون والسياسيون وكلّ من يشكّ بعدائه للتنظيم، فإنه يذوق شتى صنوف العذاب، ويشرح محمد أحد الخارجين من السجن بعضاً من هذه الأساليب: “يبدأ التعذيب من التعليق على البلانكو، أي وضع الأيدي خلف الظهر ورفع الجسم عبر مشبك إلى الأعلى، ليصبح الجسم معلقاً من اليدين وهما خلف الظهر، الأمر الذي سبب خلع كتف كثر من المساجين. كما هناك طريقة قن الدجاج، إذ يوضع الشخص في نظارة صغيرة جداً بحجم قنّ الدجاج، ويكون السجين في وضع الجلوس حصراً، وهي مغلقة ولا يوجد إلا طاقة 10 سم يضع السجين أنفه عليها ليتنفس فقط، والأنكى من ذلك أنّ السجان يستطيع الضغط على سقف الغرفة، لأنه متحرك ويمكن أن يسبب كسوراً ورضوضاً للسجين، ويستمر بالضغط حتى يعترف بالتهم. ناهيك عن استخدام الكهرباء، والجلد، والإيهام بالغرق والشبح”.
ويشير أحد الأطباء في منبج لموقع NOW إلى استقباله عدد كبير من حالات الغيبوبة، والفشل الكلوي، وشلل الأطراف “بسبب التعليق فترة طويلة دون ماء وطعام”.
وتتوزع سجون التنظيم على كافة المناطق التي يسيطر عليها. ويحاول سجن الأمنيّين في سجون سرّية. ويروي أحد الممرضين أنه استدعي مرةً لمعالجة حالة طبّية في سجن لداعش، فقال: “أخذوني معصوب العينين، وأدخلوني تحت الأرض، كنت أسمع أصوات المساجين وصراخهم من الألم وتوسلاتهم للجلادين. سرنا مسافات طويلة تحت الأرض، وكان هناك غرف على الجانبين”. ويرى الممرض أن “كثيرين يعتقدون أن سجن تنظيم الدولة، هو تحت المربع الأمني في منبج لكون الأبنية هناك حديثة ولها ملاجئ، وقد قام التنظيم بتوسيعها وتقسيمها لغرف ومعتقلات”.
هذا ما يؤكده معتقل سابق يدعى محمد قال لـNOW: “اعتقلوني للضغط على أخي كي يسلّم نفسه، وادّعوا أنني من ساعده على الهرب، وعندما أيقنوا أن أخي لن يسلم نفسه أطلقوا سراحي. وعندما أطلقوا سراحي قاموا بعصب عيوني، ومشوا بالسيارة مسافة قصيرة جداً، وأنزلوني، لأجد نفسي عند الريد القريب جداً من المربع الأمني”.
وتعرّضت سجون التنظيم للقصف من قبل طيران التحالف الدولي، كما من طيران النظام السوري، ليسقط جراء ذلك عشرات الأبرياء ضحايا. فقد قصف النظام السوري المركز الثقافي في منبج، كما قصف طيران التحالف سجون التنظيم في جرابلس والباب.
ويقول حسن، الرجل الأربعيني، لموقع NOW: “قتل في قصف سجن الباب عدد كبير من الأبرياء الذين اعتقلهم التنظيم لأسباب تافهة تتعلق بالتدخين وتقصير الثوب، وما شابه من مخالفات، علماً أنّ التنظيم يعرف أن سجونه سوف تستهدف”. ويشير ناشطون لقيام التنظيم مؤخراً بتحويل عدد من ملاجئ الأبنية السكنية لسجون ليتفادى طيران التحالف.
ولم تدفع ممارسات التنظيم وحملات الاعتقال لزيادة كرهه بين المواطنين فحسب، بل إن بعض عناصر التنظيم شعروا بالندم نتيجة انخراطهم فيه، وهم الذين عانوا من ظلم نظام الأسد وسجونه. وهذا ما دفع عدداً من العناصر للمساعدة في هروب عشرات السجناء من سجن الباب مؤخراً، وقد أعدم التنظيم منذ أيام عند دوار الدلو في حي الحمدانية بمدينة منبج أحد عناصره بتهمة مساعدة المساجين.
ولا يقتصر السجن على معارضي التنظيم إنما يضم عناصر التنظيم الذين يخالفون نهج قيادته. وهنا تكون العقوبة مضاعفة وقاسية خشية حدوث انشقاقات داخل بنية التنظيم. ويقول المدرس عمر من مدينة الباب: “إن التنظيم اعتقل أبو عبد الرحمن المصري، وهو أحد الأمراء البارزين، وقام بإعدامه في السجن بعد شهر، فقط لإنكاره على البغدادي إعلان الخلافة في هذا الوقت، وتناسى التنظيم خدمات أبو عبدالرحمن”.
كما يعمل التنظيم على اعتقال النخب الثقافية بهدف زيادة جرعات إرهاب المجتمع، وقد اعتقل عدداً من القضاة ومنهم القاضي باكير جمعة، وأطباء ومنهم إسماعيل الحامض ن الرقة الذي ترك عمله وعاد لسوريا لمعالجة المرضى، وآزاد والي من منبج الذي فتح عيادته ومشفاه للمصابين مجاناً في بداية العمل الحراك الثوري وهو من أوائل ثوّار المدينة، إضافة إلى معلمين ومحامين، ومنهم من مات تحت التعذيب كالمحامي محمود كامل في منبج.
ويجري التنظيم عملية غسل لأدمغة السجانين والجلادين، الذين يعتقدون أنهم يتقرّبون إلى الله بعملهم. ويردد جلادو التنظيم عموماً أنه إذا مات شخص تحت التعذيب بأنهم إنما يقومون بعملهم ورفع كلمة لا إله إلا الله وإقامة الإسلام، وإن مات المتهم تحت التعذيب وهو بريء فقد ترفع درجاته، وإن كانت التهمة حقيقية فقد نال ما يستحق. وبهذه العقلية الساذجة، وبهذه القلوب الميتة يعذّب التنظيم، ويقتل.
يُخضِع التنظيم السجناءَ قبل خروجهم لدروات شرعية، بالإضافة لدروس دينية خلال السجن. ويلفت محمود أحد السجناء المفرج عنهم لموقع NOW إلى أن “مدة الدورة الشرعية كانت 15 يوماً في السابق، أما في الفترة الأخيرة أصبحت شهر تقريباً، وأغلب الدورات الشرعية تكون في مدينة الباب”.
والملفت أن التنظيم يقوم بتعويض من تثبت براءته بألف ليرة سورية تقريباً عن كل يوم سجن، وألف ليرة عن كل يوم زيادة عن مدة حكمه في حال قضى محكوميته. ويقول أبو يوسف لموقعنا: “عوّضني التنظيم مبلغ 100 ألف ليرة سوري عن أربعة أشهر إضافية قضيتها بالسجن، إذ إنّ كان حكمي ستة أشهر والتنظيم سجنني عشرة أشهر”.
اعتقالات عشوائية دون دليل، وتهم كيدية لا تستند إلا على كلام وشاة، ومكوث بالسجن فترات طويلة دون محاكمة، وأساليب تعذيب نفسية وجسدية لم يُسمَع بها إلا في أقبية المخابرات، هذه حال سجون التنظيم السفلية التي تعطي انطباعاً لسجن التنظيم الكبير فوق الأرض.
موقع لبنان ناو
