عبادة الفرد والانتفاضة ومقارعة اختزال السوريين
عبد الله أمين الحلاق
في بداية فيلمه الرائد، “الطوفان في دولة البعث”، يتحدث عمر أميرالاي عن السدود التي انهارت في سوريا ومنها كارثة سد زيزون، وعن بحيرة الأسد التي “يمتد حولها بلد، اسمه سوريا الأسد”، بحسب أستاذ السينما الوثائقية والتسجيلية.
يكمل أميرالاي حديثه عن ذلك البلد الذي “يحكمه حزب البعث منذ أربعين عاماً، من دون منازع”، كما يقول، تاركاً للمشاهد أو الناقد خيارين يمكن أن تُنسب سوريا وشعبها إلى أحدهما، فهي إما أن تكون بلداً يحكمه حزب البعث، وبذا تكون الإيديولوجيا القومية البعثية هي التي تَقسر المجتمع السوري وتبقيه تحت نير الاستبداد، وإما أن سوريا تلك مرهونةٌ بالعائلة التي توارثت البلد منذ عام 1970 وفق لازمة “سوريا الأسد”، التي ساقها المخرج تهكماً ضرورياً في مطلع الفيلم. لم يكن ثمة خيار أو احتمال لدى السوريين قبل انتفاضتهم خارج هذين الاحتمالين، علماً أنهما متلازمان وفق المسار الذي ابتدأ يوم وصل حافظ الأسد إلى السلطة.
حزب البعث وصل الى الحكم في سوريا في 8 آذار 1963 كما هو معروف، لكنه لم يعد قائداً أو حاكماً منذ وصول الأسد الأب الذي ابتدأت معه مسيرة حكم الفرد وعبادته. لا يعني ذلك طبعاً أن سوريا كانت اتكون محظوظة بحكم الحزب الواحد لو بقي الحزب حاكماً فعلياً لها، لكنّ الانعطاف الكبير في نمط الحكم وطبيعته كفيلان إثارة مقارنة على طريقة “المضحك المبكي”، فوصول الرئيس الراحل إلى الحكم رافقته وتلته طقوس صار لزاماً على السوريين، والبعثيين خصوصاً، أن يُحيوها في كل مؤتمر قطري للحزب أو مهرجان أو مناسبة وطنية، وهذا ما بدأته القيادة القطرية لحزب البعث عام 1970 عبر تسمية حافظ الأسد “قائداً للمسيرة”.
آنئدٍ بدأ الحزب بالتنازل عن كونه حاكماً لصالح الفرد الذي يستمر في حكمه عملياً حتى اليوم، أي حتى عهد الرئيس بشار الأسد الذي لم تُنزع لازمة “سوريا الأسد” في عهده حتى اليوم، برغم أن للانتفاضة السورية اليوم رأياً آخر وفعلاً شعبياً وسياسياً خارج النسق السلطوي الرسمي في هذا المجال.
يدرك السوريون اليوم جيداً أن انتفاضة الحرية والكرامة التي يخوضونها هي انتفاضة في مواجهة نمط سلطوي بدأ بالشكل الذي ذكرناه آنفاً، قوامه اختزال المجتمع السوري في حزب، تلاه تفصيل الحزب وقيادته على مقاس الفرد، أي بتعبير آخر: تقزيم المجتمع السوري وتغييب تنوعاته وأطيافه ونخبه لصالح الحاكم الذي لا ينازعه على الأمانة القطرية ورئاسة الجمهورية الوراثية أحد. من هنا يمكن أن نفهم سبب الاستخفاف الشعبي بإلغاء المادة الثامنة من الدستور السابق، التي كانت تنص على أن “حزب البعث العربي الاشتراكي هو القائد العام للدولة والمجتمع”، ذلك أن هذا الإلغاء يأتي في سياق ما قالت السلطة إنها “إصلاحات سياسية”، كان من ضمن تلك الإصلاحات مثلاً رفع قانون الطوارئ الذي تضاعَف عدد المعتقلين بتهمة التظاهر بعد رفعه. لم يقارب أحد في السلطة بمن فيهم الرئيس نفسه موضوع نسْب البلاد إلى رئيسها السابق ووارثه الحالي، وطرح موضوع انتخاب رئاسي قريب يتنافس فيه أكثر من مرشح.
أضف، أن مقاربةَ هذا الموضوع سلطوياً وملامسةَ هذا التابو الذي تربّى جيل من السوريين عليه، إنما يعني أن ثمة أصواتاً يمكن أن تعلو من داخل السلطة السورية مطالبةً بالتغيير، وهذا حلم ما بعده حلم. ذلك أن الواجهة السياسية لسوريا الأسد هي حزب البعث ومجلس الشعب و”الجبهة الوطنية التقدمية”، وهذه الاخيرة دُجّنت بما لا يسمح لها بملامسة ذلك السقف، علماً أن ذلك السقف أو الجدار المصمت الذي خيم على مملكة الصمت لعقود، قد انهار منذ بداية الانتفاضة وارتفاع هتافات الحرية وإسقاط النظام برموزه كافة.
مع مجيء الرئيس بشار الأسد إلى السلطة عام 2000، حُمّل السوريون والمعارضون التاريخيون أحلاماً وردية بالتغيير من داخل السلطة، برغم آلية التوريث على مستوى الرئاسة في بلدٍ، نظام الحكم فيه جمهوري. سَوّقت آلة النظام كثيراً لذلك التغيير عبر تصوير الحاكم الوارث بصورة المصلِح لما فسد، والشائعات ببدء حملة رسمية لنزع الصور والتماثيل التي تغص بها المكاتب والوظائف الحكومية والساحات الرسمية في سوريا، إلا أن الواقع كان مختلفاً تماماً، فقد زادت طقوس عبادة الفرد واختزال بلد وشعب ومجتمع بأكمله في شخص ذلك الفرد وبشكل لافت، ولم ينته ذلك حتى مع بدء الحراك الشعبي والانتفاضة السورية في 15 آذار 2011. لا بل إن رجال الأمن وشبّيحة النظام صاروا يتعمدون إهانة المتظاهرين وضربهم تحت شعار “الله، سوريا، بشار وبس”، وإجبارهم على السجود والركوع لصور الرئيس السوري في مناطق قال نظام الأسد وإعلامه إنها في كردستان العراق، من دون أن ينتهي الموضوع طبعاً في مسيرات التأييد “العفوية” وهتافات المؤيدين العفويين “مطرح ما بتمشي وبتدوس… نحنا منركعلك منبوس”. بعض الفقهاء ورجال الدين والإسلام السياسي لم يكونوا بعيدين عن تلك الظاهرة، فالسيد حسن نصر الله لم يكفّ منذ أكثر من عقد حتى اليوم عن توجيه التحية تلو الأخرى لــ”سوريا الأسد” من قلب الضاحية الجنوبية لبيروت، برغم الموت العميم الذي يحيق بالسوريين من جراء ممارسات النظام السوري، ولم ينِ الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي بدوره عن مقاربة موضوع عبادة الفرد على طريقته الخاصة وهو يسهّل اعتقال المتظاهرين وضربهم في حرم الجامع الأموي في وقت كانت ساحة المسجد تغص بحاملي الهراوات والعصي الكهربائية من “مصلّين” يهتفون: “الله، سوريا، بشار وبس”. وللبوطي موقف سابق من الأسد الأب مفاده أن هذا الأخير هو “صاحب المواقف التي انبعثت عن إلهام رباني”.
على مستوى الكتابة والنشر وحرية التعبير، بقيت مقاربة الرئيس السوري بمثابة تابو وخطاً أحمر لا يجرؤ على اجتيازه إلا قلّة، برغم صدور قانون لحرية الصحافة والنشر في سوريا، حيث لم تخلُ سجون النظام من الصحافيين والكتّاب، وهذا دليل آخر على هزالة القوانين والإصلاحات الشكلية في ظل بقاء النظام على ما هو عليه ضمنياً وواقعياً. لا حرج في أن يعرف القارئ أن أصابع كاتب هذه المقال ترتجف أثناء كتابته خوفاً من ردود فعل “حزمة الإصلاحات” العتيدة عليه.
مؤيدو النظام يعيشون هوساً اسمه الأسد، يربطون مصيرهم به وبنظامه، تلك حالة تضافر على تكريسها عنف سلطوي وأجهزة بوليسية فتكت بالمجتمع والسوريين، وخطاب إعلامي بروباغندي اخترق رؤوس الكثيرين عبر التخويف من أخطار جمة قد تصيب
البلاد والعباد إن مس النظام أو رئيسه مكروه.
في شوارع المدن السورية، كثيرةٌ هي الجدران التي تشهد عبارات مكتوبة بالخط العريض قوامها الولاء القطيعي للرئيس العتيد، كأن تقرأ مثلاً: “الأسد أو لا أحد. بالروح بالدم نفديك يا بشار. عاشت سوريا الأسد وتسقط المعارضة” وهلم.
غير أن جموع السوريين المنتفضة في مواجهة كل ذلك العسف المادي والمعنوي قالت كلمتها أخيراً، ولم تعد الشعارات الرنانة أو الإعلام السوري الكاذب ولا الصحافة الرسمية الصفراء، بقادرة على حجب ضوء الشمس، كما لم يعد القتل اليومي للمتظاهرين واعتقال الاحرار حائلاً بين سوريا وانبلاج فجر حريتها.
إنه أفق يرسمه السوريون بدمائهم وتضحياتهم، في مواجهة المجنزرات والآليات وأجهزة الأمن والجيش الذي يضم في صفوفه كثيرين داسوا على أجساد الأحرار وأجبروهم على تقبيل صور الرئيس، في مشاهد مؤثرة كانت سوريا بحاجة إلى مخرج من طراز عمر أميرالاي مثلاً ليوثقها إلى جانب ذلك “الطوفان” البشري الهادر بهتافات الحرية والتغيير. عندها، ربما كنا سنسمع عمراً يقول: “حول بحيرة الأسد، يمتد اليوم بلد، كان يسمى قبل عام: سوريا الأسد”.
النهار