عتبة الخيارات القسرية/ معتز حيسو
من البداهة بمكان أن ما تمر به المجتمعات العربية في لحظتها الراهنة، يختلف في شكل كبير عن بدايات الديموقراطية الليبرالية في المجتمعات الغربية، ومتخلف عنها أيضاً. فعلماء عصر النهضة الأوروبية ومفكروه اشتغلوا على صوغ منظومات وأنساق معرفية فكرية وعلمية وفلسفية وسياسية. وتبلور ذلك في سياق نقد الفكر الديني، إضافة إلى تساوقه مع نشوء علاقات الإنتاج البرجوازية. وذلك يختلف في شكل كبير عن جوهر أوضاع الشعوب العربية الراهنة، وعن مواقف زعماء ومنظّري «الربيع العربي» الذين انقلبوا على منظوماتهم الفكرية في سياق اندماجهم مع مجموعات سلفية وأصولية جهادية. فنشأ نتيجة ذلك وعي هجين يتعارض مع وعي ومصالح وتوجهات وقناعات شرائح شعبية واسعة وتحديداً الفئات الحداثوية.
هذا في وقت كان من المفترض أن تشتغل القوى السياسية، إضافة إلى المفكرين والمنظرين والمثقفين، على بناء وعي جديد يقوم على نقد ونقض الفكر الغيبي وتحديداً أشكاله السلفية الجهادية. وهذا لا يلغي إطلاقاً ضرورة رفع ونقل الإيجابي والثوري من الفكر الديني. فهيمنت على المشهد العام هواجس سياسية دفعت أفراداً وتنظيمات وجماعات غايتها القبض على السلطة، للترويج المضلّل والمشوه لمقولة «العنف الثوري». متجاهلين نتائج وتداعيات تحميل الفكر السياسي على قوى جهادية.
في السياق ذاته، إن وضع المداميك الأولية للديموقراطية الليبرالية الغربية كان في أتون صراع تم في سياقه تجاوز الثقافة المجتمعية العميقة وبناء منظومات فكرية عقلانية محمولة على قوى اجتماعية وسياسية مادية وفكرية امتلكت القدرة التاريخية على تجاوز بيئة الصراع، فيما ورثة المنظومة المعرفية الإسلامية من المجموعات الجهادية يشتغلون على استنهاض وتمثّل وفرض الموروث الديني الأكثر تخلفاً وتشدداً، وفي سياق ذلك يتم اغتيال العقل الديموقراطي والوعي التنويري الحداثي والإسلام المعتدل.
تتحالف معهم في هذا السياق قوى سياسية افتقدت الفاعلية السياسية والقبول الشعبي، وساهم ذلك في إحداث انقسامات اجتماعية عمودية، وانحسار تأثير القوى المدنية العلمانية والسياسية اليسارية، إضافة إلى تحلل الروابط الوطنية، وإجبار قوى التغيير السلمي والمثقفين والمفكرين العقلانيين على الانسحاب من المشهد السياسي. وكانت لذلك انعكاسات ونتائج كارثية في الأوساط الاجتماعية، وعلى كيانية الدولة المهدَّدة بالتحلل والانهيار، إضافة إلى تشتت وتفتت التشكيلات السياسية وتشظّي بنيتها الداخلية.
لقد فتحت «ثورات الربيع العربي» طريقاً لا عودة عنه. فبلادنا آخر «واحات اللاديموقراطية» المقترنة بانتشار الفساد وغياب التنمية الاقتصادية والبشرية، وهي اليوم في عين العاصفة. وما يحصل في دول الربيع العربي يرتبط بجملة من التحولات السياسية المنقسمة على ذاتها وعلى كلِّ شيء. فالنظام العربي لم يشتغل على بناء الدولة بمعناها الحضاري، ولم يطور آليات العمل المؤسساتي وتمكين حقوق المواطن والتأسيس لمشاريع تنموية تنعكس بأشكال إيجابية على الطبقات الشعبية. لكنَّه تلاعب بالنسيج الاجتماعي، وركّز جهوده في ضبط آليات اشتغال المجتمع وتحركاته. فعام 2011، كان بداية تحولات معقَّدة وشاقة ومتعرجة وطويلة. ومع ذلك، فإنَّ مآلاتها لن تكون في العودة إلى كنف سلطات شمولية أحادية. لكنَّ تعثّر التحوّل الديموقراطي يدلل على أننا نقف على عتبة مرحلة انتقالية حُبلى بمفاجآت وتحولات متعددة البعد والمستوى. وذلك نتيجة تشابك الاستقطاب السياسي والاجتماعي وتداخله مع هيمنة سلطات أحادية وقوى جهادية متطرفة وأطراف إقليمية ودولية ذات مصالح خاصة على مداخل التغيير.
أما في ما يتعلق بالشباب، فإنهم يشكّلون القوة الاجتماعية المحرِّكة للتغيير. لكنهم كمن يجلس على برميل من البارود. فلا احتياجاتهم مؤمَّنة ولا مستقبلهم واضح. بهذا المعنى، فإنهم يقفون في مجرى تاريخي إجباري يستوجب تجاوز أسباب انسداد آفاق التغيير الوطني الديموقراطي والفساد والقمع والتآكل الوطني وفشل السلطة في بناء مقومات الدولة الحديثة. لكنَّ أزمة القوى السياسية المعارضة وتناقضاتها البينية، وتحالفها مع حركات جهادية متغوّلة، إضافة إلى عدمية الصراع واتساع مظاهر التطرف والعنف، أجهض أحلام الشباب في التغيير الديموقراطي السلمي، وغيَّر نظرتهم إلى الربيع العربي ومستقبله. لكنَّ ذلك لم يقض على عوامل قوتهم الكامنة. وهذا يستدعي التشديد على أن انتقالهم إلى حقل القوى الاجتماعية والطبقات والفئات المفقّرة والمهمّشة، سيقدم لفكرة التغيير وقوداً جديداً، وأشكالاً ومضامين تختلف عما هو سائد الآن.
وعلى العموم، فأطراف الصراع أمام مفترق خطير: الأول استمرار الصراع وهذا يعني مزيداً من العنف والقمع والاحتكار السياسي والنهب، وجميعها عوامل تشكّل مناخاً مناسباً لتنامي مظاهر التطرف في أشكاله الدينية والسياسية كافة، وتدفع إلى تفاقم مظاهر الاحتقان الشعبي، وأمام تدخّل القوى الخارجية. والثاني فتح الطريق للانتقال إلى نظام سياسي ديموقراطي يؤسِّس لاقتصاد يلحظ مصالح الفقراء والمهمشين، ويحافظ على وحدة الجغرافيا السياسية ووحدة المجتمع وتماسك مكوناته. لكن، حتى اللحظة يبدو أن الخيار الأول هو المهيمن.
* كاتب سوري
الحياة