عسكرة الحراك الشعبي في سوريا
ياسر الزعاترة
لم يترك النظام السوري إلى الآن نمطاً من أنماط التعاطي العربي التقليدي مع الانتفاضات الشعبية إلا واستخدمه، كما لو أنه لم يقرأ ما جرى بعين ناقدة، هو الذي عرف بتقديراته السياسية المتميزة، بخاصة خلال السنوات العشر الأخيرة، تحديداً منذ ملامح احتلال العراق مطلع العام 2003، حيث نجا من مآزق كبيرة، وأسهم في إفشال المشروع الأميركي في العراق الذي كان يستهدفه بشكل مباشر، من دون أن يغير نمط خطابه المنخرط في برنامج المقاومة والممانعة.
نعلم أن كثيراً من السوريين لا يطيقون سماع كلمة مديح أو إطراء في نظامهم السياسي، الأمر الذي نتفهمه تماماً، لأن القمع لا يمنح الإنسان فرصة الاعتراف بأية حسنة لجلاده.
من هنا لم يكن بوسعنا التردد لحظة واحدة في الانحياز لانتفاضة الشعب السوري ضد الظلم والفساد، لاسيَّما أن المقاومة والممانعة برأينا لا تمنح أي أحد صك غفران كي يفعل بشعبه ما يشاء. ثم إن المقاومة والممانعة ليست نقيضاً للإصلاح في الداخل كما قلنا وسنظل نقول.
كنا ننتظر موقفاً آخر من النظام السوري يتمثل في التقاط الرسالة القادمة من مصر وتونس وليبيا واليمن وغيرها من العواصم التي بدأت حراكها الشعبي، لاسيَّما أن سوريا لا تختلف كثيراً عن الدول المذكورة من زاوية الفساد وغياب الحريات، من دون أن ندخل في جدل حول ترتيبها على هذا الصعيد.
لكن النظام السوري ما لبث أن أخذ يتلكأ، وعندما بدأ الحراك الشعبي واجهه بالرصاص الحي، وكأن هذا الرصاص كان مجدياً في الحالات السابقة كي يجدي هنا، أو كأنه لم يزد الناس إصراراً على مواصلة حراكهم.
ولم يتوقف الأمر عند ذلك، فقد واجه الحراك الشعبي بالمظاهرات المؤيدة، تماماً كما فعل الآخرون، وواجهه بالشبيحة، وهم «البلطجية» في الحالة المصرية و «البلاطجة» في الحالة اليمنية، وكأن بوسع هؤلاء أن يوقفوا هدير الحرية المنطلق في الساحات والميادين والمساجد.
الآن، وبعد حديث أوليّ عن «مندسين» أطلقوا الرصاص على المحتجين وقوى الأمن وقتلوا الكثيرين، يلجأ النظام إلى لعبة النظام الليبي بطريقة أخرى، أعني لعبة العسكرة (عسكرة الانتفاضة الشعبية)، وذلك عبر تحويلها إلى معركة سلاح، ساعياً من خلال ذلك إلى تحقيق هدفين، الأول تبرير القمع العنيف الذي يمكن من خلاله بث الخوف في نفوس الناس ودفعهم نحو النأي بأنفسهم عن المشاركة في الحراك، والثاني تخويف الناس من فقدان الأمن وتحوّل الوضع إلى ما يشبه الحرب الأهلية، لاسيَّما أن بعض الجهات التي سيحاول لصق الحراك المسلح بها (القاعدة والسلفية الجهادية) ليست منضبطة السلوك، الأمر الذي يأخذ مثاله من الحالة العراقية، ولعل ذلك هو السبب خلف التركيز على الموضوع الطائفي، ربما من أجل تخويف العلويين ودفعهم نحو الالتحام بالنظام، مع أن القطاع الأكبر منهم مظلوم كما سائر السوريين، فيما تعيش البلاد حكم نخبة (عابرة للطوائف والجغرافيا) تتحكم بالسلطة والثروة كما هو حال الدول الأخرى.
لا ننسى أن للنظام السوري قدراته المشهودة على اختراق مجموعات السلفية الجهادية، وبالتالي دفعها نحو ارتكاب أعمال تخيف الناس وتحرف حراكهم الشعبي السلمي نحو مسارات عبثية، ولعل ذلك هو ما يفسر حديث السلطة عن الأسلحة القادمة من العراق، لأن منطق الأشياء يقول إن تلك الأسلحة لن تتدفق من القوى الشيعية التي تنحاز للنظام تبعا لانحياز إيران إليه، حتى لو كان لبعضها إشكالات سابقة معه بسبب موقفه السابق من المقاومة العراقية، ولكنها ستتدفق (نظرياً بالطبع) من القوى القريبة من تنظيم القاعدة التي لا تزال نشيطة في العراق، وتؤمن بعولمة الجهاد.
ولا ننسى أن بعض المجموعات المسلحة قد جرت نسبتها إلى الإخوان المسلمين، في استعادة لذكريات مطلع الثمانينيات الأليمة، مع أن عاقلا لا يصدق أن التنظيم لديه القدرة، فضلا عن القابلية لارتكاب حماقة من هذا النوع، أعني إنشاء مجموعات مسلحة تستهدف الأمن السوري، لاسيَّما أن الإخوان هم الأكثر فرحاً بانتفاضة الشعب السلمية، تماماً كما كان حال حركة النهضة في تونس.
اليوم، وفيما ينتظر الناس تحويل وعود الرئيس بالإصلاح إلى واقع عملي، فإن الانتفاضة ستتواصل، لاسيَّما أن أحداً لا يصدق إمكانية أن تكون هناك حكومات منتخبة في سوريا تعبر عن ضمير الناس.
إذا حدثت المعجزة، وندعو الله أن تحدث، فقد يهدأ الوضع، لكن المزيد من التلكؤ أو الاكتفاء بإصلاحات شكلية لن يعني غير تطور الانتفاضة نحو مسارات أكثر وضوحاً في الدعوة لإسقاط النظام، وهي دعوة بدأت تتردد منذ الجمعة الماضية.
نتمنى أن يدرك النظام هذه الحقيقة ويتحرك بناءً عليها مصوباً نظره وعقله نحو ما جرى في تونس ومصر، وليس ليبيا واليمن، لأن الحالة السورية تبدو أقرب إلى النموذجين الأول والثاني (مع فرق شاسع في المواقف الخارجية) منها إلى الثالث والرابع، مع أن أياً منها لا يبدو مريحاً بأي حال.
العرب القطرية